عزيز باكوش | المغرب
التقيت الدكتور الشاعر إبراهيم ديب بفاس – المغرب – للمرة الثانية قبل أسبوع من شهر فبراير الجاري، على هامش مناقشة رسالة دكتوراه حضرها زميلنا المشترك إدريس الواغيش بكلية الآداب سايس، ونالها بميزة مشرف جدا. ولم أتردد لحظة في السؤال عن جديده في الفكر والأدب. فكان جوابه أن أهداني نسخة خاصة ممهورة بتوقيعه من ديوانه الجديد الصادر بفاس تحت عنوان “مدن تقيم في نومي” وهو الإصدار الذي جاء في 114 صفحة من القطع المتوسط، وازدان بلوحة غلاف للفنان التشكيلي مصطفى غزلاني. ويعتبر الديوان الإصدار الخامس في ريبيرتوار الشاعر والقاص إبراهيم ديب، بعد “حجر الملح ” شعر 2004.” جواد ليس لأحد” شعر 2007. “كسر الجليد “رواية 2010. “برتقالة الفنان” قصص 2011.
كتب إبراهيم ديب قصائد أحدث دواوينه (مدن تقيم في نومي) طبعة 2023 في فترة امتدت لعقد من الزمن 2004-2014. وكما تفرقت الأزمنة في تشكيل الرؤى حول المدن في الديوان، تشتت الأمكنة في تضاريسه بتفاؤل غاشم. ذلك أن الرؤى البصرية الحاملة واللاقطة لإبراهيم ديب جوالة بطبعها، مشاءة في الأصل، متفرقة جائلة باحثة في دروب الحضارة والمدن. نابشة ومنقبة في جينيالوجيا الفضاءات العامة سواء كمراقب وباحث، أو مؤطر وخبير. فإبراهيم ديب إلى جانب ذلك هو ابن تاونات، الفاعل الجمعوي الأديب ورجل التربية، مفتش التعليم الثانوي لمادة اللغة العربية. والحاصل على الدكتوراه في الأدب العربي المعاصر بميزة مشرف جدا مع التنويه. لكن سكون الليل وسلطة الأحلام والشهوة الملتاعة، وهمس الأمكنة المترامية الأطراف وضجيج الحياة، فعل فعلته، فاسحا المجال للهمس فقط للمدائن السبع التي جاءت متوازية كالآتي: فاس -تاونات -الرباط -سلا -زاكورة –جرسيف- أصيلة – وفم زكيد بإقليم طاطا..
في تقديم يليق بسمو هذا المنجز الأدبي النابض بالحياة والحلم معا، كتبت الناقدة التشكيلية المصرية لبنى عبد الله “يدخلنا ” الشاعر إبراهيم ديب” إلى عالم مدنه، كأنه يطلعنا على أسرار حبيباته. لماذا هن مختلفات؟ ويحملن تاريخا من الحب والسحر والقمر وصناعة الرجال؟ ولأن إبراهيم ديب يكتب بعيدا عن التقعر، فقد جاء الشعر على لسانه صفحة نابضة من حياة، وكأنه يجبرنا أن نكتب الشعر كما نأكل ونشرب ونمارس الحب ونمشي في الطرقات واللغة”
للوهلة الأولى، يبدو الدخول إلى علبة الأحلام والمدن عند إبراهيم ديب طقس تقليدي ينطلق بعزف النشيد، أو حمله كلمات في جيب افتراضي. فالمدائن مزارات مفتوحة الأبواب، تنبض بالحياة سرها نشيد. وعزفه أثناء الدخول هو الطقس المشرق للغاية، والمفضي للأحلام والأساطير. لكن الجانب الأكثر إشراقا، هو النظرة الرئيفة والمشتهاة إلى إيقاع العزف بأبواب المدن. فلكل مدينة ترنيمة خاصة تليق بها، كفضاء وذاكرة، ترسمها بريشة الحكمة، وتتلو ترانيمها بالمعنى الفلسفي للشعر، أو بالعطف الشعري للفلسفة. وإذا كانت فاس تملأ جوف الشاعر، كصهيل لا زال يتذكر طريق العودة. والتي تعبر نومه كطائرة مضيئة” فإن تاونات غابة الأجداد، البوصلة، والبذرة الأولى في دورات الإخصاب. تاونات ذكريات وأمكنة كثيرة مازال رمادها حيا في القلب، والنساء اللواتي يشبهن الريح في دفعها القوارب، كل شيء يقودك إلى تاونات: الأشجار/الطرقات/رائحة الماعز الذي سرقه فرانكو في عز الليل/ ولأنه يحب الجبل مثلنا أو أكثر منا / فقد قفز إلى البحر ببسالة /لكنه لم يمت، إنه ما زال هناك يثغو وينتظر أيدينا.. ص23
ولأن الشعور بالدهشة، كان ولا يزال مفتاح الولوج إلى التأمل، وذلك بداية الفلسفة. فذلك المشتهى، وإذا أضفنا تلك المشاعر المرهفة التي تكتنف روح الزائر أثناء عملية الولوج عبر مفتاح الحرف، حتما نصادف الشعر العتيد. وبرأي الحكماء فإن الفلسفة نفسها بدأت نصا شعريا، وإذا كانت الفلسفة تلهم الروح في بحثها عن الحقيقة، فإن الشعر عند إبراهيم ديب هو تجلي الروح في عشقها للجمال الدال في النظرة إلى المكان ونثره على البياض جمالا أخاذا بلا جدال. لأن الحياة العميقة بمنظور الشاعر، تنبض في سؤال الفلسفة حيث تنهض آلهة الشعر. ألم يكتب هوميروس صاحب الإلياذة فلسفته بحروف من الشعر؟ ألم تبلغ الفلسفة أوج حميميتها مع شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري؟
وإذا كنت أميل بثقة جارفة، كقارئ عاشق لديوان “مدن تقيم في نومي ” وأنتصر لفكرة وجود فيلسوف داخل شاعر، واعتبار شذرات الديوان إرهاصات فلسفة داخل الشعر، أو رهافة شاعر داخل الفلسفة. فإنني بذلك أزكي رأي الحكماء في قولهم إن الشعر يخدم الفلسفة بالضرورة، وبأن الفلسفة تخدم الشعر بالسؤال، ويمكن الاستدلال في هذا الباب على ما كتبه ابن سينا والفارابي وما خلده الجاحظ وأبي تمام والبحتري. وما أدهش به أبا العلاء المعري والمتنبي الشعر والشعراء، وما ضمنه أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، وكذلك في شعر أبي العتاهية. فالانتصار للشعر فيه متعة للنفس وحكمة وفوائد في الحياة. هنا لا بد من تقديم بعض الشذرات التي أعتقد أنها تحيل على السؤال الفلسفي داخل الشعر عند إبراهيم ديب، وأبدأ بحمولة كلمة النفور في السياقات المختلفة من الصفحة 63 حتى ص69 ” لي نفور من الكرسي /لم يركض رغم قوائمه الأربعة ص68.
لي نفور من البنادق /تحارب في الجهة الخطأ.
لي نفور من الأرض/ لم تسقط عن ظهرها أولئك الأوغاد /.. لي نفور من عيني تتخبط في الدم /
تتخبط في الأنقاض /
ومع ذلك تتبجح بالضوء “ص69.
وبهذا المعنى يكون الشاعر إبراهيم ديب قد أنتج “قصيدة أرغمتنا على التشبث بها والسفر برفقتها داخل الزمان وشهادة المكان. وتوثيق ذلك بالدقيقة والحرف ” قصيدة تتشبث أن نسافر معا/
ودون توقف/
كي نصل الى الربيع/
قبل أن يصل الجفاف/
أو تصل جحافل الحشرات ص85
يشتمل الديوان الشعري الجديد بعد تقديم قادم من الشرق العربي بالغ الحفاوة على “نشيد الدخول إلى المدينة” وست ترنيمات في النشيد “يكتشف الشاعر ” أنه وجه طيب أمام وحوش كثيرة، وحوش حية، لا من خشب، وحوش على موعد دائم مع الريح والبدايات، وحوش لا تسلم ولا تصافح، لكنها تحب كأم أو أكثر” ص13 ليكتشف أنه ضوء مشاع، ولا يد له في هذا الظلام الذي خيم على المدينة ” 2 -“كأن زهرة نائية تسللت إلى دماغي.” وفيها نتعرف على القطار الذي لا يذهب إلى تاونات، لكنه كلما اقترب من جبالها، يتلجلج ويصفر ويحمحم / وكأنه يريد أن يشعل فيك اللهب والعناق والموسيقى ” 3- وعن المناجل التي لا تتعب من الصرير، كي لا يجوع أحد في القرية، لأن في الأخير، لابد لك من تاونات، كي لا تتعثر أكثر، أو يجرفك التيار أكثر، لابد لك من زيتونها وقصبها لتوقف هذا الرمل.. هذه المجزرة”
4- “الحياة التي كانت تسقط على أكتافنا كل ليلة” حيث الريح التي لا تعرف ما تريد والسماء التي استجابت لنداء الراعي ،فأتلفت عواء الذئب وغيرت وجهة الصحراء.” 29 – ” 5- لكن ماذا عن الأشياء التي تعشقها النساء ؟ “هناك في الأعلى/ الأعلى الجميل كوجه جميل /أو لوحة جميلة /ثمة قمر أبيض يحدثنا كل ليلة عن سهراته الطويلة /وعن نسائه اللائي يكافحن من أجل إنزاله للأرض ص48. 6- “مجازات لا تفرق بين الخوذة و التاج “لابأس أن تذكر فاس /وأن تدعها تسقط في أوراقك كنيزك/ أو كامرأة خفيفة/ لابأس أن تفتح لها الباب وأن تخبرها بكل ندوبك”. 6- لكن ماذا لو لم تكن فاس امرأة قطعا؟ ماذا لو كانت نجمة تحب أن تميل على كتفك /
أو وردة تتلهف للعيش قرب خيولك؟ ص55
” بعيدا عن التمثال … قريبا من الحياة” لي نفور من الحياة /
هذه الأيام/
لم تعد تشبه الحياة
لم تعد تلمع في عيون الحيوانات….
لي نفور من الجبل
يسقط أحجاره على رؤوس الغزاة
لي نفور من الغابة لم تعلمني وثبة الوحش ص65
” مدينة تحاكي البحر.” البحر وحش كبير يلبس الأزرق ودائما يأتي من الغرب/ أحيانا يشبه الغراب
وأحيانا لا يشبه أحدا/ يرتدي النظارات غالبا/
خوفا من عفونة الفكرة
ويبتسم كرجل سعيد/
اعتاد صفاقة المدينة
لأنها ببساطة من بعض أخطائه”ص71
القطار لا يذهب إلى تاونات القابعة في منطقة المغرب غير النافع ” ولن يذهب، لصعوبة التضاريس وصعوبة ادماجها في التنمية …”السماء التي استجابت لنداء الراعي….”سقوط المطر بعد طول انتظار.
ثمة حقيقة ملفتة في قصائد إبراهيم ديب، هي أن كل قصائد الديوان تشي بشيء من حكمة الفلسفة، وعمق النظرة العميقة المتفحصة الثاقبة للأشياء ما يجعل من تفكيك قصيدة واحدة، يحيل على شذرات فلسفية مليئة بالحكمة.. تصلح أن تكون حكمة مستقلة بذاتها مستخلصة من حياة بأقل الكلمات وأثقل المعاني. شذرات مستقلة تشكل كيانات معرفية مذهلة للغاية.