المقالة

فضيلةُ الإزعاج

من أعمال الفنان محمد الشريف.

قادمة من بلاد أُصْ

لم تبدأ شخصيتي المزعجة في الظهور في ال 2014 وأنا أجلس في مكتب الشرطة الملكية بمطار سخيبول في أمستردام، بل انزلقت معي إلى الحياة وترعرعنا معا في حوش بوي، وكمُنَت فيما أركض بين بيوت الطاعة الكثيرة من الكِتّاب وإلى نهاية مرحلة التعليم الأساسي، ثم نضُجَت على مهلها في سنوات الثانوي عززها الغوص المبكر في مكتبة مريم، خالتي، لتبدأ رحلتي كشخص مزعج تتجلّى في كلية المحاسبة وما بعد ذلك مزعجة جدا في كل مكان عملت فيه وتقريبا كل تجمّع كنت فيه.

ولأننا نتعرض مبكرا لمفردة الطاعة بكل نظامها المعقد والذي زاوج غالبا وبمنتهى الحنكة رضا الوالدين برضا الله ومن بعد اضيف رضا السلطة في صورها المختلفة ، فإنه يمكن لكل من سمّوه شِيطان في طفولته وحتى مراهقته الانضمام إلى تشخيص اتجرأ على اضافته إلى باقي الشخصيات في علم النفس وهى الشخصية المزعجة، ويشخص بها أيضا شديدوا الملاحظة اللي ما يفوتهم شيء ، والانطوائيون ، والكثير ممن يدعون بالفاشلين في الدراسة ،ثم الأشخاص الذين رأوا المطيعين يكافئون ولم يسلمّوا ال (لا ) ولا عقولهم إلى نظام الطاعة المتماسك وبالتأكيد يشخص بها المولعون بالتغيير ،والدراويش الذين يتبعون قلوبهم .

في حقيبتي أُصّ

لا تبدو أُصْ ،أو أسكت في المجتمع ملفتة ، فهي حسنة النية تقدم لنا في أعمار صغيرة في غلاف تربوي يقفل الطريق على النقاش ،ف الأُص تنزل دائما من الأعلى، الأعلى مكانا أو رتبة أو حتى صوتا ، ما يعطي لهذا الأعلى امتياز الكلمة اللي تقطع صطّاش، لهذا حين انتقلت حياتي إلى هولندا ، كنت على إيمان تام ، أن شخصيتي المزعجة محصنة ، ومن أنني خرجت بوعي سالم من لوثة الإذعان البدائي، ومن املاءات القطيع ، ولكن يبدو أنني أفرطت في الثقة حتى فاجأني الأعلى الذي في رأسي وبدأ يقول أُص للنقاشات المندلعة لسنوات قبل قدومي من بلادي حول زفارتا بييت صبيّ سنتر كلاس ،مناصرة أني اللي وصلت آمس للتغيير بكل جذرية الأعلى وكماله المتخيل ، وقررت أن أُصْ خاصتي لابد أن تعتمدها هذه الحكومة الرخوة وتنزلها على مؤيدي الاحتفاظ بصورة بييت المهينة ب أُصْ تقطع النقاش ، فكانت مفاجأة اكتشاف (وعيي) تسلل الأخ الأكبر من ( لاوعيي) أول هدية لي من سنتر كلاس القادم بقاربه من خرّافات الجدة الهولندية .

 نوفمبر الحار

بعدما فرغت في 2015 من ترتيب حياتي الجديدة بأوراقها ومواعيدها وعاداتها وانتظمت، بديت نفرز أن نوفمبر في هذه البلاد له لمسة الألعاب النارية على الناس فهو ممتع ومبهج وشديد المرح ولكنه يخلف وراءه الكثير من الضحايا والتلوث والقمامة، ومن حسن الحظ أن ثمة من يهمه تنظيفها. في نوفمبر من كل عام تسري البهجة بوصول سنتركلاس مع مساعده زفارتا بييت إلى الموانئ الهولندية ، بهجة تقفز من محطات الراديو والتلفزيون ومن عيون الناس وتستولي على اليوت و الميادين والأسواق، بهجة تشوش عليها احتجاجات بكل أنواعها من دعوات مقاطعة الاحتفالات وامتناع الكثير من الهولنديين عن مصافحة سنتركلاس الذي يمر في المدن الهولندية من الطق للطق ،رجل أبيض مجللاً بلحية بيضاء مسترسلة فوق حصان أبيض مرتديا الكاب الأحمر وفي هيبة الأولياء ، ومحاطا بنسخ عديدة من زفارتا بييت ،يتقافزون هنا وهناك مانحين الابتسامات والحلوى للأطفال الذي جاء سنتر كلاس راكبا الموج ثم الحصان خصيصا ليوزع عليهم الهدايا والحلوى ، وزفارتا بييت تحديدا هو سبب الاحتجاجات والغضب والكثير من العواطف والدموع وحتى العنف ،و ذلك أن زفارت اللون الأسود بالهولندية ، وإليكم الصورة التي تظهر بها هذه الشخصية : وجه مدهون بالبويا السوداء، فوق رأسه باروكة الشعر المفلفل الأفريقي ،وشفتيه مطلية باللون الأحمر .

التحريف المقدس

يقال أن تاريخ شخصية سنتركلاس أو القديس نيكولاس غائم ،ويختلف المعجبون والنقاد حول متى وكيف نشأت هذه الشخصية ،متنازعين حتى على الأدلة التاريخية ، غير أنه لدى هذه الشخصية دورا أوضح يمكن تتبعه حتى العصور الوسطى ، وتضمنت الحكايات دائما مساعدا ما ، غير أنني أرى أنها حكايات رصدت تاريخ الأفكار السائدة في كل تغير يطرأ على هذا المساعد لسنتركلاس القديس الذي ظل قديسا في تاريخ كل تلك الأفكار ، فالخادم كما أطلق عليه في أول دليل مكتوب في كتاب أطفال من خمسينات القرن ال 19 كتبه معلم مدرسة أمستردام ¨جان شينكمان¨ كما جاء في بحث منشور على موقع داتش ريفيو ،وفي الكتاب ظهرت الشخصية بهذا الشكل (مساعد سنتركلاس ذو البشرة الداكنة ويشار إليه فقط بالخادم) . يبدو أن هذا كان أول تحول للمساعد من شيطان مقيد لتخويف الصغار غير المطيعين ، فالرواية تغيرت لأن داكن البشرة ذاك كان طفلا يدخل من المدفئة بكيس خيش مملوء بالهدايا ومنسحبا من نفس الطريق مغنّج أو متسخا بالسخام ،وهو بالتأكيد زمن كانت عمالة الأطفال ليست مستهجنة ( كانوا الأطفال يستغلون في تنظيف المداخن ) وكل أعمال السخرة تقريبا ،ثم وصولا إلى تحوله لييت الأسود الأفريقي في مرحلة تشير إلى مجتمع متسامحا مع فكرة العبودية وذلك في العصر الذهبي لهولندا إذ جزء كبير من ثروة خاودا ايوو كما يسمى بالهولندية من الاتجار البشر ،

بييت الآن

مدت النقاشات المطولة وجديتها البلديات بقرارات تدريجية بدأت بغسل (الدهان) لبّية الكحلة عن وجه بييت، وظهر بوجه عليه بعض السخام وصار يدعى سوتي بييت (بييت المتسخ) وتشيمي بييت (بييت فتى المدخنة)، ومازال زفارتا بيت بسبب السخام، ثم الآن وجه بييت النظيف من السخام صار منتشرا أكثر هذا العام، ويعجبني أن اقتبس ما كُتب في مقال عن نهاية هذه الرحلة الطويلة لزفارتا بييت وعن عطلة سنتركلاس مايلي:

على مر السنين، يمكننا تحديد تحول واضح في تصور هولندا لشخصية العطلة، كان بطيئا وثابتا في البداية، ثم أُسّيا، خلال العام الماضي 2021 بدأ الهولنديون أكثر فأكثر بالانفتاح على فكرة القضاء على الشخصية أو تعديلها لتكون أكثر حساسية للقوالب النمطية العرقية¨.

مقالات ذات علاقة

حصار المسلمين بين الأمس واليوم

سعيد العريبي

خرافة الدولة المدنية الدينية

علي الخليفي

سحر الحاج معتوق

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق