
سؤال قد يبدو ساذجاً للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة سؤال على قدر كبير من الوجاهة، ومنشأ هذه الوجاهة هو فقدان المرجعية المحايدة التي يُمكن الرجوع إليها لتحديد من هو المجنون بالفعل، أو هل ثمة شيء يُمكن تسميته جنوناً، أم أن ما نراه هو اختلاف طبائع، وتنوع جِبلَّات؟
ولتقريب السؤال أكثر من هذه الوجاهة المدعاة، فإن الإنسان لو كان يسبح في الفضاء بعيداً جداً عن الأرض، وأراد أن يُحدد الفوق والتحت، فما هو المعيار الذي سيحتكم إليه؟
أعرف أنك ستقول: رأسه وقدميه.
وهذا غير ممكن، لأنه سابح في الفضاء وغير ثابت.
ولنقترب أكثر من وجاهة السؤال، فإنني أسألك هل نحن متفقون جميعاً على حقيقة الألوان التي نراها؟
نعم نحن متفقون على أسماء الألوان، ولكن ما الدليل على أننا متفقون على حقيقتها، فمثلاً أنت أخبروك بأن لون الدم أحمر، ولون أوراق الأشجار أخضر، ولون الفحم أسود، لكنك قد تكون تراها عكس ذلك، فلعلك ترى الدم أزرق، وغيرك يراه أخضر، وآخر يراه برتقالياً، لكننا جميعاً اتفقنا على تسميته أحمر، والاتفاق على الاسم لا يعني الاتفاق على الحقيقة، والأدهى من ذلك أننا لا يُمكننا اكتشاف عدم الاتفاق إلا بوجود مرجعية محايدة، وهي بالطبع مفقودة.
وهذه المرجعية المفقودة هي بالضبط ما نحتاجه للفصل في قضية من هو المجنون.
وهنا دعوني أقترح عليكم حزمة من المعايير فلعلنا نوفق إلى انتخاب أحدها لنطمئن إلى أننا نحن العقلاء، وأن من نسميهم مجانين هم المجانين.
§ المعيار الأول: هو مقدار النفع والضرر.
فلا شك أن المجنون قد يضربك أو يسبك، أو قد يقوم بتكسير الأشياء وتخريبها دون وعي منه ولا إدراك.
أما العاقل فلا يمكن أن يكون مؤذياً وضاراً.
§ المعيار الثاني: تحقيق المصالح.
فالعاقل هو من يسعى لتحقيق مصالحه، والحرص على ما ينفعه، أما المجنون فهو لا يدرك ما هي المصلحة والمنفعة فضلاً عن أن يُحافظ عليها.
§ المعيار الثالث: السعادة..
فالإنسان العاقل سيكون سعيداً بسبب ما يناله من تحقيق المنافع والحصول على الفوائد.
§ المعيار الرابع: الاتفاق..
أي اتفاق من نُسميهم عقلاء على كونهم عقلاء، وعلى أن غيرهم هم المجانين.
§ المعيار الخامس: النتاج..
فكل ما أنتجته البشرية من نُظم وقوانين وعلوم وفنون وآداب هي من نتاج الفئة التي نُسميها عقلاء. بينما لم تُنتج الفئة الأخرى شيئاً من ذلك.
والآن.. تعالوا لنغربل هذه المعايير واحداً واحداً..
· أولاً: معيار النفع والضرر..
وهنا يكفي أن أقول لك جميع الحروب أشعلها وقادها وخطط لها وشارك فيها فقط من نُسميهم عقلاء، ولم يكن لمن نُسميهم مجانين أي دور فيها.
· ثانياً: معيار تحقيق المصالح.
الفئتان يُولدون ويموتون، ولا أحد منهما يتحكم في تاريخ ميلاده أو وفاته، أما ما بينهما فالمصلحة تقاس بشعورك بأنها مصلحة، فأنت لا تشعر بمقدار المصلحة التي يشعر بها الطفل في قطعة الحلوى، والرجل لا يشعر بمقدار المصلحة التي تشعر بها المرأة في استعمال المكياج أو التزين بالذهب، كذلك لا يمكنك أن تشعر بالمصلحة التي يشعر بها من تصفه بالجنون، ومع ذلك يُمكنك أن تشعر إلى حدٍ ما بنعمة خلو باله من الهموم، وخلو ذهنه من الوساوس والأحقاد والضغائن، وخلو طرفه من أي مسؤولية.
· ثالثاً: معيار السعادة..
لعله من نافلة القول أن نؤكد على أن السعادة تنبع من داخل الإنسان وليس من خارجه، فالإنسان قد يكون سعيداً وليس معه سوى كسرة خبز، وقد يكون تعيساً وحوله كل ما يشتهي ويتمنى، ولكي تعرف أنك أسعد ممن تسميه مجنوناً فإنك تحتاج إلى الغوص في خبايا صدره.. وأنى لك ذلك!
· رابعاً: معيار الاتفاق.
وهو معيار قد أبطلناه في بداية هذه المقالة، إذ أنه في حقيقته ليس معياراً، وإنما هو حكم من طرف واحد.
· خامساً: معيار النتاج..
ومن قال لك بأن ما تنتجه هو المطلوب، أليس ما تنتجه يذهب ويفنى؟
لنفترض أن رجلين أحدها من نصفه بأنه عاقل، والآخر من نصفه بالجنون، وكلاهما عاشا ستين عاماً بالتمام والكمال، أنتج الأول علماً وبنى بيتاً وزرع وحصد، بينما لم يفعل الثاني سوى الأكل والنوم.. فما هي الفائدة من نتاج الأول؟
ثم.. أليس الأول هو من صنع الأسلحة، ودمر البيئة، ولوث الهواء والأنهار والبحار، وصنع الأدوية والأغذية المسرطنة، وتسبب في انقراض آلاف الكائنات؟
أليس الأول هو من يكدس الأموال ويُخزن ويحتكر البضائع في الوقت الذي فيه الملايين محرومون من هذه الأشياء التي يكدسها ويخزنها؟
وأخيراً.. فإن من أطلق هذه الأوصاف (مجنون / عاقل) هو طرف واحد من طرفي النزاع، بينما ظل الطرف الآخر صامتاً يعيش حياته كما يحلو له، وكما هي الحياة، متماشياً مع قوانين الكون ونواميس الطبيعة، لا يحمل في قلبه (أو هكذا يبدو لنا) أي غش أو حقد أو حسد أو ضغينة، غير آبه بما يصفه به الطرف الآخر!.