لاحق النقد العملية الإبداعية منذ سيرورتها الأولى بتنوع أشكالها من بين شعر وقصة ورواية ومسرح، فكان يزيدها قوة وجمال ويمنحها تأثيرا وتجاوبا لدى القراء، تتبعها كظلها وأفسح لها مدارسها ولغته الخاصة وفتح كل مغاليقها السرية.
ولكن المشهد الثقافي الليبي بالأخص شاهد في السنوات الأخيرة تدفقا هائلا في كم من الإصدارات التي غاب عنها النقد بعد توسع طرق النشر بتعدد دور النشر الخاصة والإقبال عليها من قبل المهتمين ومنافستها في طرح الكتب باختلاف تخصصاتها وتنوعها فلا يكاد يمر أيام إلا وينشر خبر صدور كتاب أو ديوان أو مجموعة قصصية دون أن يواكب نقد، فهل أجحف النقد حقا في اعطاء زخم الإصدارات حقها من الدراسة والنقد؟ ولماذا تسلط على كتب ونرى قراءات لنصوص دون غيرها؟
الليبي اليوم، عبر منبره الثقافي، سلط الضوء على النقد والاشكالية التي وقع فيها؟
“ابن الحرية“
الكاتب الأديب أحمد بللو الذي أستهل حديثه قائلا: ”أني أجد من الغريب أو المفارق ان نتحدث عن إبداع وحركية ثقافة. دون ان يكون لها نقدها وذاك ما لن يتاح لي هنا. ولكن لا يمنع من الاشارة ولو بإيجاز الى بعض أسباب غياب النقد الشائكة. والتي أرى أنها عديدة، قديمة وحديثة، بنيوية وثقافية ودينية وسياسية واجتماعية وحضارية“.
ويرى بللو إن: ”النقد لا يزدهر ويكون محترما وفاعلا وله اعتبار إلا في الثقافات والمجتمعات التي تعتمد الحوار المتمدن والجدل سبيلا امثلا لأشكال ومضامين وتطلعات الصراع الثقافي والاجتماعي والسياسي والحضاري فيها بديلا عن الاقصاء والعنف والمصادرة“.
وأضاف: ”ولكن بداية علينا أن نتفق على مفهوم أن النقد “ابن الحرية” فالإبداع والنقد في أي ثقافة حقيقية هما صنوان، وطرفا معادلة واحدة والفعل في هذه المعادلة جدلي بالأساس ومتحول ومتطور. إن بالتقاطع أو بالتضاد وإن بالتوافق او بالتناقض. ولأنه بالنقد -وربما فقط -يمكن للإبداع ان يدخل بمحموليه من الجمالي الوجداني والفكري العقلي لدائرة أو حركة الثقافة المشتركة“.
وبخصوص الحالة الليبية أشار إنها واقعة تحت طائلة عدة اسباب لها علاقة بالحرية وعمر هذه الثقافة ومداها الزمني حيث قال “كونها مرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية والتي نعرف انها لا تنظر بعين الرضا لآلية التفكير العقلي والنقد الفكري. وترتاب وتتوجس من اسئلة الذات والوجود والامكان وترى أن (ليس في الامكان أبدع مما كان) مما يعد سببا بنيويا وكابحا لهذه الثقافة“.
ويرجح بللو للسبب الآخر كونها الثقافة الليبية ثقافة ناشئة وأوضح: ”إذ لم يظهر اسم ليبيا كإقليم خاص على الخريطة الليبية إلا مع الغزو الايطالي في 1911 وقد عانت فيه النزاعات والسعي لتحقق الوطن وثقافته من عنت الغزاة والاقصاء والمصادرة ولم تتشكل اول دولة ليبية إلا مع اعلان الاستقلال في 1951. وهي لم تتجاوز بعد المئة عام من عمرها، وهذا سبب زمني لقصر عمرها وثقافي لعدم تجذرها العميق والطويل وقلة تراكمها الابداعي والمعرفي والنقدي“.
كما عرج بللو إلى حقبة المملكة حيث كان الهامش الديمقراطي الى حد ما غير مانع للجدل والحوار الثقافي والنقد وشهدت الثقافة الليبية حراكا ومخاضا كان يعد بالكثير حيث قال “ظهرت اسئلة واجتهادات نقديه تتحاور وتقترح مقاربات من مثل سؤال الكاتب والناقد خليفة التليسي سنة 1957 (هل لدينا شعراء؟) بعد نقده لتجربة احمد رفيق والشارف واخرين وفتح الباب على اسئلة الفن والتفكير العقلي والنقد الفكري مع يوسف القويري و(الهوية الليبية) عن (معنى الكيان) عند عبد الله القويري وعن محددات (الشخصية الليبية) عند عبد الحميد البكوش ومساهمات امين مازن وكامل عراب وآخرين“.
وفي نفس السياق أكد بللو وقوع النقد بعد انقلاب سبتمبر 1969 الذي اطاح بكل ذلك وما عانته الثقافة الليبية والابداع الليبي من عسف وقمع وسجن ومصادرة حيث قال “كان كافيا لإجهاض تلك الحركة الواعدة ووقع النقد. في مأزق ان يتحول الى نوع من الوشاية قد تؤدي بالمبدع والناقد للتهلكة. ونعرف ان ذاك النظام الفاشي الشمولي قد استعمل بعض الكتبة لتفسير نتاجات زملائهم من المبدعين لولا التفات بعض النقاد الى ساحات وابداعات عربية كنوع من ممارسة النقد ولم تصمد الا بعض الكتابات التي تعتمد التعامل الخارجي والحذر للإبداع الليبي“.
وأختتم حوصلته القيمة صاحب ديوان “متاح لك الآن مالا يتاح” قائلا “الآن وبعد فبراير وإن بدأ هامش الحرية اوسع قليلا الا أن الحصيلة النقدية لا تبدو مرضية. فالذين درسوا النقد في الجامعات وحازوا الشهادات العليا في مجال الدراسات النقدية مازالت اعينهم على النظريات وليس على النظر.. اعني الابداع الليبي وعلاقته بثقافته وبيئته ومكانه الخاص واعتمالات واحتمالات هذا المكان وتاريخه وتطلعاته.. وتبقى القراءات التذوقية والانطباعية والتي يكتبها كتاب ومبدعون عن زملائهم هي السائدة كمحاولة لسد الفراغ.. ولا يفوتني الاشارة الى صعود وتجاسر بعض التيارات الدينية التي لا ترى في الادب والفن الا كنوع من الخلاعة والاغتراب والاستلاب الثقافي وتقصيه لزاوية الممنوع والحرام وما حدث مع كتاب “شمس على نوافذ مغلقة” منذ سنوات ورواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) للكاتب محمد النعاس مؤشر على ذلك“.
“أزمة اتصال“…
قسم الكاتب والناقد عبد الحكيم المالكي النقد في تصوره الخاص إلى نوعين النقد المواكب لصدور النصوص والذي يكتب في صورة مقالات للصحافة بمختلف أنواعها والنقد التشريحي الرصين الذي يتعامل مع النصوص بشكل علمي ومكانه في العادة الجامعات أو المخابر النقدية.
حيث أوضح قائلا “الأول مكانه الصحافة الأدبية وجمهوره القراء العاديون المهتمون بالنصوص وهو قد انحسر مع انحسار الصحافة عندنا أو لنقل لعدم وصولها لكل القراء والأسباب متعددة منها: أن من يقومون على الصحافة الأدبية يشتغلون بنظام الشللية وأن الأمر في مرات كثيرة له علاقة بالجانب الشخصي، كما ان كثيرون من يزعمون أو يعتقدون بعدم وجود نقد أدبي منطلقين من كون النقد الأدبي لم يتناول تجربتهم. في بيئة كهذه لا نستغرب أن تصدر أعمال ليبية وتلقى قبولا عربيا واقليميا ولا يلتفت لها محليا، كما لا أستغرب عندما تكون نصوص كاتب بحجم المرحوم علي الجعكي في مجال القصة بعيدة عن تصور النقاد والقراء، أو أن هناك من لا يعرف كتابات محمد الزنتاني وهو في تصوري لون خاص من الكتابة القصصية في ليبيا، لون مختلف ومميز“.
ويرى صاحب (السرديات والسرد الليبي) إن ”النقد العلمي المبني على رؤية نظرية يمر بفترة ازدهار كبير والذي يفترض أن مجاله الجامعات الليبية“.
ويكشف المالكي الذي له العديد من الكتب والدراسات ،عن المعضلة التي يعاني منها النقد الجامعي قائلا “لكن تظل المشكلة التي يعاني منها النقد الجامعي أن مخرجاته التي تنجز لا تطبع ولا يتم إشهارها أو الحديث عنها، وكأننا في دولة يصدر فيها في السنة عشرات الآلاف من الكتب، فهناك إذا أزمة اتصال؛ حيث هناك كم طيب من الدراسات الأكاديمية تنجز سنويا عن أدباء ليبيين سواء في جانب السرد أو الشعر أو غيرها من جوانب الأبداع، وهذه الكتابات لا تنشر لا ورقيا ولا الكترونيا، وقد لا يعلم حتى الادباء الذين كتبت الدراسات حول أعمالهم بما ينجز حولها من دراسات“.
ونوه المالكي على أهمية طباعة الرسائل النقدية التي تختص بتجارب الأدباء الليبيون حيث قال “هناك في الجامعات الليبية رسائل مميزة كتبت سابقا وأخرى لازالت تكتب حول أدباء ليبيون تحتاج إلى اهتمام وزارة الثقافة أو وزارة التعليم لطباعتها وسبق أن كتبت حول هذا مثلا كاتب مثل أحمد يوسف عقيلة في القصة القصيرة أنا كنت متابعا لأكثر من رسالة تكتب حول اعماله واحدة نوقشت في جماعة مصراتة 2014.م، والأخرى نوقشت في جامعة الزاوية ولم تطبع الأعمال وربما لا يعلم الكاتب حولها“.
مآلات الحركة النقدية. الى أين؟“! الناقد مثقف متسول/ لا حاجة له؟“…
أستعرض الشاعر الناقد جميل حمادة بتعرجة أولى لتاريخ النقد حيث قال: ”لابد من الإقرار؛ بادئ ذي بدء؛ بأن النقد ليس عملية سهلة وليس امرا هينا؛ وليس مجرد ابداء راي فيما يمكن ان نسميه بالنقد الانطباعي؛ وذلك امر يمكن ان يمارسه كل إنسان اي أن يبدي اعجابه بأمر ما او بنص ما؛ وهذا مسالة طبيعية لكن ليست ذات علاقة بعلم النقد المنهجي الحقيقي الذي يرتكز على مناهج علمية وأساليب لغوية وابداعية ونظريات أدبية معلومة. إذن..؛ وعليه فالنقد في أهم تعريفاته انه ليس عملية ترفيه ولا امر بسيط او عابر؛ كما أسلفنا آنفا؛ بل أنه عمل ذهني جاد ومرهق مرتبط بالنشاط العقلي وبالتراكم المعرفي والثقافي؛ وهو بالضرورة ذو علاقة وطيدة بعلوم اخرى مثل علم النحو والصرف وعلم البديع والبلاغة وعلم الكلام وعلوم اللغة. الخ. ولقد اثبتت الدراسات النقدية في العقود الخمسة الماضية وما قبلها ان النقد هو ابداع على الإبداع؛ وأنه ليس مجرد وجهة نظر من اي انسان عابر؛ بل هو في كثير من الأحيان عملية معقدة واكثر عمقا من النص المطروح للقراءة او النقد؛ رغم إدراكنا بان النص المطروح هو الحافز والمحرض على أداء القراءة النقدية؛ ودليلنا على ذلك العديد من اعمال الشعراء والنقاد في محاولة البحث عن مسارات للتجديد والتطوير في الشعرية العربية او تطور حركة السرد العربي؛ مثل دراسات الشاعر السوري أدونيس في كتابه الثابت والمتحول بصرف النظر عن تقبلنا او رفضنا لما جاء في أجزائه الاربعة. او عبد الله الغذامي او د. جابر عصفور؛ او د. عبد الله ابراهيم. او فيصل دراج او عبدالاله الصايغ او غيرهم فيما يتعلق بمسألة التجديد والتطوير في الشعرية العربية“.
ويضيف رئيس اتحاد الأدباء والكتاب والصحفيين الفلسطينيين (فرع ليبيا) قائلا: ”لقد عرف العرب النقد الادبي والابداعي قبل العديد من حضارات الشرق والغرب على حد سواء.. وما وردنا عن المبارزات التي كانت تسود سوق عكاظ بين الخنساء والنابغة الذبياني وحسان بن ثابت لهي أكبر دليل على ذلك وعرفنا من تراثنا العربي الغني بعشرات بل مئات الاسماء من الشعراء الذين أصبحوا نقادا والنقاد والادباء الذين أثروا المشهد الابداعي العربي على مر العصور؛ مثل الجاحظ والاصمعي وابن المعتز وابن طباطبا وقدامة بن جعفر والمرزباني والبحتري والمبرد والدينوري والقزويني والبغدادي وابوهلال العسكري وابن رشيق القيرواني وابن الاثير وصاحب العقد الفريد ابن عبد ربه والأصفهاني صاحب كتاب الأغاني. وغيرهم المئات، ربما في العالم؛ لقد كان سوق عكاظ على سبيل المثال هو اول مهرجان شعري وادبي نقدي“.
وضرب مثلا قائلا “بصرف النظر عن مبارزات الفلاسفة اليونانيين حول العقل والنفس والمعرفة والمسرح بشكل اساسي. كان الشعراء العرب في عكاظ يتقبلون النقد بكل رحابة صدر وطيب نفس؛ حيث كانت الخنساء وهي تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية التي ولدت عام 645م؛ في نجد بأرض الحجاز، كانت تفند قصائد الشعراء وتشرحها على مناضد النقد البلاغي بكل قوة واقتدار“.
ويشير صاحب ديوان (أسئلة الهذيان) بأن ”عملية النقد هي عملية بناء جماعي من شأنها ان تسهم في انجاز حراك الوعي الاجتماعي والفكري والثقافي للمجتمع“.
ويرى صاحب أسئلة القصيدة العربية الحديثة في ليبيا (قصيدة الشباب) الصادر عام 1999 عن دار الكرمل في عمان بالأردن ”صار النقد يعتبر شيئا هامشيا او عملا زائدا لا حاجة له. وعند البعض الآخر النقد شيء ترفي؛ وربما لا ضرورة له“. وأضاف “رغم اننا نعلم علم اليقين بأن العملية النقدية هي التي تضيء آفاق النص وتفتح مغاليقه حيث يقوم الناقد المبدع بتحليل رموزه ومدى علاقتها وارتباطها بالثقافات الاخرى والميثولوجيا الكونية واساطير العالم وتاريخ الحضارات؛ حتى ولو كان عملا ابداعيا مجردا او له علاقة مباشرة بالذات. سيجد الباحث والناقد اين تأثراتها ومآلتاها وأشكال التناصح والاقتباس فيها“.
ويوضح صاحب إصدار (مرايا الروح) من وجهة نظره الأسباب التي جعلت من الناقد ينأ بنفسه عن هذه المواقف التي لا تحفظ له قيمته وتجعله يبدو كمتطفل على الشاعر او الروائي او التشكيلي. بغض النظر عن حجم ومكانة ذلك المبدع ومدى قيمة النص الذي يحوزه وينتجه حيث قال “عندما وجد الناقد انه يضحى كالمتسول على أبواب كل من هب ودب من شعراء أو متشاعرين او مدعين. وهذا هو المشهد اليوم في ليبيا. فالشاعر اما هو يتخذ الشعر وسيلة تنفيس. عن معضلة او هم أو عقدة؛ أو وسيلة للتقرب من جهات بعينها؛ خاصة في ظل الاعتقاد مع بروز قصيدة النثر بان الشعر اضحى مطية سهلة وامر يسير؛ والشيء ذاته ينطبق على الرواية والقصة القصيرة واشكال اخرى من الابداع.. الامر في ليبيا أكثر وضوحا وجلاء حيث الناقد يبدو أحيانا كضيف عابر؛ رغم ان الشعراء الليبيين الان والذين يطبعون خارج ليبيا يدفعون للنقاد العرب الذين تمنح لهم المخطوطة لكي يكتبوا لها مقدمة او يجروا عليها قراءة نقدية مدفوعة الأجر؛ إما ان تكون ضمن مبلغ العقد. او تطلب صراحة من الشاعر إذا اراد؛ وسوف يكون من دواعي سرور الشاعر ان يجد ناقدا معروفا او شبه معروف لكي يقدم لمجموعته الشعرية بمقدمة او قراءة تلقي الضوء على قصائد مجموعته او روايته او مجموعته القصصية“.
صحيفة (الليبي اليوم)، 30 يناير 2023