قصة

المهاجر والظلال

الذكرى الأولى لوفاة الكاتب والتشكيلي رضوان أبوشويشة

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

ظل أول

تتصاعد حلقات البخار من قدح القهوة الإيرلندية، ورجل عربي يتابع الحلقات المتواترة في اهتمام.

قرأت جريدة الصباح، ومقدمة كتاب.. وهو ما زال يرتشف قهوته بشغف كما لو كان يتنفسها، ويعشقها في حانة -بالي براك- الهاجعة فوق جبل كيلايني على الطريق الممتد من دبلن إلى ويكلو.

لفت انتباهي وجود العربي في هذه القرية الصغيرة.. ملتقى هواة صيد السمك في مواسم القُد والاسقمري.. ذهب إلى المشرب، قامة طويلة، سوالفه تمتد إلى أسفل الذقن، شعر الرأس يختفي من المقدمة، هاجمه الصلع منتصف العمر.

عاد بقدح آخر من قهوة الكحول الأيرلندية، تلك القهوة العجيبة؛ مزيج من قشدة اللبن، وجريش البن، والماء الحار، مع الويسكي والسكر.

جلس منحنياً على القهوة.

تراءى لي أنني عرفت الرجل من قبل، عدت أتأمله وذاكرتي تبحث وتدور.. رفع رأسه وسألني مباشرة (أهذا أنت يا مفتاح؟)، أجبته بدهش فوري (نعم هذا أنا .. فمن تكون أنت؟) مباشرة،

قال وهو يُرَفَّش سوالفه الطويلة (أنا خليل غازي .. . هل نسيتني؟)

تذكرت خليل غازي.. شاباً مهذباً، ومحباً للزهور، وطالب دكتوراه في الرياضيات عام 68.. لكم تغيرت ملامحه! أتتني صورته الأولى، وزهرة القرنفل الوردي التي يحجزها كل يوم من متجر بشارع الغرافتن.

صافحته بحرارة، وسألته بتشوق عن أخبار السنوات التي مرت … أجاب في اقتضاب (بخير، انهيت دراساتي، وسهل لي زواجي الحصول على الإقامة، والعمل المريح، وجواز السفر).

تبادلنا لفائف التبغ والمجاملات.. وتحدثنا عن الأسماك التي يمكن صيدها من الخليج الصغير.. فقال خليل وهو يرمق القدح المشعشع (كنت أذهب إلى بقعة كثيرة الأسماك في دنليري.. ثم أصبحت أفضل الحانة بدل البحر في إجازتي).

وقام إلى الهاتف العمومي يتحدث مع زوجته عن دعوتي للعشاء معهما في فندق الكورت القريب.

ظل ثان

ميري – امرأة في الثلاثين.. جميلة، حمراء الشعر، قصيرة القامة، جسم ممتلئ، بض، وجه مدور مُنَمَّس بعينين زرقاوين.

قدمني إلى زوجته: مفتاح صديق قديم يجدد ذكرياته في دبلن.

منحتني ابتسامة بدون معنى.. بانت غمازتان على خديها .. أشارت إلى طاولة في الركن.. وسبقتنا بخطوات سريعة تتطاوح بثديين ثقيلين.

كان المطعم خالياً من الرواد باستثناء رجل عجوزةوراهبة شابة ..

انكببنا على عشاء لذيذ صامتين.

نادى خليل الساقي وطلب المزيد من الشراب.

خرج الرجل العجوز على ذراع الراهبة.

وفجأة وفي دفعة واحدة تكدرت ملامح خليل، هز رأسه، وقال لزوجته بصوت خثر ثقيل، (الحمقاوات يذهبن إلى الشاطئ، ويتعرين تحت الشمس).

ثم سألني بجد، (ألا تعتقد أن الشمس في دبلن هذه الأيام، دفعت الجميع إلى الخبل ؟)، وغادرنا دون كلمة.

قالت ميري بهدوء… تخفي قلقاً خفياً، (أعتذر، عن سلوك خليل.. شرب برميلاً من قهوة الكحول.. أيظن أنني جننت وأتشمس عارية أمام الناس! هراء.. أنت تعرف خليلاً عندما يسكر).

فوجئت بإقحامي .. فقلت وأنا أتأهب للانصراف (أعرفه إلى حد ما، وكان ذلك قبل زمن طويل).

وأنا اجتاز باب المطعم .. لحق بي خليل وجهه منهد مهموم، أصر على أن يمشي معي مجاملة إلى الباب، ودّعني (أراك غداً في حانة القرية الساعة العاشرة والنصف).

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

ظل ثالث

خرجت عابراً حديقة الفندق، وسكة حديد القطار.. مارا بالممشى الضيق المؤدي إلى الخليج وأكواخ الصيادين.

وبمهل .. وبمهل، اتضحت صورة المرأة المرأة المستلقية بين الحشائش – شيئاً فشيئاً.. اقترب – المرأة المستلقية بين الحشائش – حمراء الشعر.. عارية الصدر.. العالم تحت الشمس مكان صغير.

جلست على الشاطىء الذي انحسر عنه الجزر مخلفاً أكواماً من الحصى الرمادي الصغير.. أرقب المنارة البعيدة وراء جزيرة دولكي وأحدق بأنوار البيوت المعلقة على رأس الخليج.

وأمامي ميري فوق الحشائش، الساعة العاشرة والنصف يوم أمس.. على الشاطيء منذ الفجر – كان حظي عاثراً ـ لم أصد غير سمكة صخرية سامة.

غیرت صنانير نصف بوصة، وطعوم الديدان الحلقية بصنانير الريش الملون.. بدأت الرمي على مدى أقرب إلى الشاطىء، وسحب بكرة الصنارة دورياً. فسمك القد لا يقترب -أحياناً- من طعم ثابت .

الساعة العاشرة والنصف، ازدهي با صنانير الريش الملون -البحر متحرك- سأظل هنا إلى آخر العمر حتى تأتي ياريشاني الملونات برفقة القد البضّ.. تفرح انتظاري الطويل الفارغ، امتلىء يا ريشاتي الجميلات.

وجئت، ثقلك لذيذ شهي، أجذبك إلى الشاطيء تشدينني إلى البحر.. ستة أرطال تقريباً.. شاب أشقر الشعر واللحية، سألني عن الوقت وقال، (لم أشاهد سمكة قط بهذا الحجم تصاد من الشاطيء).

جميلة مضيئة بالفضة، ولجة البحر الإيرلندي، وحنان قمر الحصاد.. عيناها واسعتان.. تنتفض.. تختلج.. ضربة على الرأس.. طفحت عيناها.. عدت إلى الكوخ.. ورائي كان الشاطيء مقفراً إلى ما بعد الجسر.. وأمامي وسط الحشائش الطويلة تستلقي امرأة.

أوه.. ميري، أتظنينني لا أعرف! أتظنينني أعمى! أو أنني قديس السمك الذي يشغله القد الجميل.. ولا يكترث لـ(اللغم الغافي) بين الحشائش ولو.. ولو أنه غير لائق مراقبة امرأة خلعت ساترة الصدر تحت الشمس .. خجلت من النظر إليك وأنا عائد إلى الكوخ.. لكنني لم أستطيع كبح رغبتي من مراقبتك بالمنظار المقرب من النافذة.. ورأيتك مع الشاب الاشقر الشعر واللحية.. وأنتما تتشاوران، وتذهبان متشابكي الأيدي.. خلف القلعة الخربة.. إلى مغارة منجم الحديد المهجور وسط غابة أشجار الساسم.

الساعة العاشرة والنصف -تفتح الحانات- ذهب خليل إلى الحانة، دخلتما المغارة.

الساعة الثانية والنصف -تقفل الحانات- خرجتما من المغارة.

تساءلت – (من يملك هذه المرأة؟) أجاب هدير البحر: لسان ثرثار يغزل الحرير.

عالمك يا ميري متساقط الأسنان، وأفكر في اللات والعزى عندما أرى وجه زوجة خائنة.

بدأت سفينة إضاءة تعمل وسط البحر الإيرلندي المضطرب منذرة السفن بقدوم ضباب كثيف.. وصفر قطار البضائع البطيء بصوت خامل كصياح البجع قبل أن يموت.. ومن صَفْح البحر إلى أشجار الساسم تحركت ظلال غامضة تنتشر كالغبش، وتهيم حيري كأسراب الجراد بعد غيبوبة الشمس.

ظل رابع

بصوت في حانة (بالي براك) قلت لخليل من الألف إلى الياء -وفيما كان يلاحظ دوائر قهوة الكحول- قال بصوت دون أن يلتفت إلي، (هه..! ارتفعت مئة حلقة بخار من هذا القدح).

مقالات ذات علاقة

الكرسي

حسين نصيب المالكي

زَهرة تحت الرُكام

سمية أبوبكر الغناي

مـاذا لـو؟

فهيمة الشريف

اترك تعليق