صدر ديوان (الملكة) للشاعر الدكتور نورالدين سعيد متنوعاً في موضوعاته وغزيراً بعدد نصوصه الجميلة التي فاقت الثمانين نصاً متفاوتاً في طول نفسه التعبيري ومضمونه ومكان ولادته وتاريخه. الديوان شكّل حديقة للشاعر كما يصفه الأستاذ منصور بوشناف في مقدمته التي يقول فيها (عبر هذه القصائد، يقتنص الشاعر عصافير المحبة ويشكل باقة ورد العشاق ويرتق ما مزقته الحروب والصراعات بين البشر والتاريخ. إن الحضارة الإنسانية تتكامل هنا، عبر تناغم آلات ومقامات موسيقاها، ويتبادل شعراؤها أنخاب الإنسانية الواحدة). أما الناشر فكتب على الغلاف الخلفي قائلاً (يباغثك الشاعر نور الدين سعيد في هذا الديوان بغير ما تتوقعه. فبينما تقرأ له نصّاً تتجلى فيه ثقافة الأستاذ الأكاديمي الذي درس النقد وسكن عدداً من العواصم الأوروبية وسكنته، يبهرك بنصٍّ آخر مغرق في شرقيته وموسيقاه، فتتذكر أراغون حينما أبدع رائعته “مجنون إلسا” بنفس شرقي متأثراً بمجنون ليلى.)
وقد جاء ديوان (الملكة) مكتظاً بنصوص عديدة توزعت زمنياً خلال عقود زمنية طويلة (1991-2020م) حيث ظهر أقدمها (باكو دي لوتسيا) مؤرخاً في سنة 1991م وأحدثها (ليل) بتاريخ 10/11/2020م وقد كتبت معظمها في بلدان ومدن متفرقة داخل ليبيا (طرابلس، رقدالين، زليتن، صبراته، بني وليد) وخارجها (تونس، مدريد، فلورنسا، بيروجيا، روما، ميلانو، شامبري، شتوت جارد).
ومن خلال هذه البيانات نكتشف أن رحلة الدكتور نورالدين سعيد مع الشعر عريقة وزاخرة وثرية، حيث يمثل الشعر نبض قلبه ومسكن فؤاده عبر كل الأزمنة، بل ويرحل معه لأقصى المسافات حاملاً إنسانيته المفعمة بقيمها ورؤاها وأفكارها وإرثها الشرقي بكل تجلياته وانشغالاته التي تتفاعل في أعماقه وهو يناجي طيف الملكة ويوشوش لها هديته كسيمفونية إيقاعية رقيقة ينبعث فيها شعوره المرهف وحسه الهامس الرقيق:
(يُبَاغِثُنِي طَيْفُـكِ فِي المُنْشِدَاتِ
فَتَلْثُمُ أَحْزَانُــكِ بَهْجِتِي
دَنَوْتِ … فَيَمَّمْتُ شَطْرِي إِلَيْكِ
لأُهْدِيكِ مَا دَوَّنَتْ رِيشَتِي
تَوَقَّفْتُ عِنْدَ الجَمَالِ المَّهِيبِ
لَمَّا رَفَلْتِي فِي الَّليْلَكِ)
ويعترف الشاعر في نصه (لستُ رومانسياً) بأن كل ما يكتنزه من ذكرياته هي صور للماضي المكتظ داخل أعماقه بعناصره المنتمية إلى عالم صوفي تطوق كيانه أدخنة كثيفة، وتتهادى أمام قلبه دروب وطرائق ومسارب تستنير من ذاك الفضاء الروحاني الشفاف بأنوار شمعة فتكون له دليلاً موثوقاً وتمنحه اطمئناناً بسلامة الوصول الآمن وعبور رحلة الحياة بكل أريحية وسلام وبمنتهى الإيمان العميق المليء باليقين والتسليم المطلق:
(كلُّ الذي أَعِـيهِ من الذكرى،
إنكِ دمعة،
وحكايتي هذه ..
بخور متصوف
وراء صورة قديمة
لشمعة)
ولا تتوقف علاقة شاعرنا بأجواء التصوف عند ذاك الحد بل نجده يناجي الولي الصالح عبدالسلام الأسمر حين وقف بضريحه سنة 2019م بمرقده في مدينة “زليتن” وكتب نصه (أناجي الصحو فيك) بخطاب صريح بالمناداة والاسم والصفة (يا سيدي) و(سيد الصفح) شارحاً الأحوال وعارضاً غايات نبيلة وآمالاً يرتجيها للخلاص من حالة المعاناة والتردي (بقينا بلا تراث أو هوية) على الصعيدين الشخصي والعام مؤكداً نقاوة نواياه وأهدافه ومتوسلاً (لستُ أسألُ فيك الانتقام) ومثيراً بوحه المؤثر:
(يا سيدي
يا عبدالسلام
قائمٌ مقامُكَ في مُهجتي
غارقٌ في حضرتك
قَصَدْتُـك لا تعقل مقاصدي فيك
واعقلني إليك.
يا سيد الصفح
تذكرتك اليوم
حين مررت بأسماء العجم
يا سيدي غاب فينا الاحتشام
فارماشيا السنت جيمس،
ودمروا المقام.
بقينا بلا تراث أو هوية
لست أسأل فيك الانتقام
غير أن أحلامي تنام
بلا وئام!
من علّم القوم
أنّ اللعب سيدهم
بديار أصحاب المحبة؟)
أما في نصه (حلوى) المفعم بأحاسيس الفقد تتجلى إنسانية الشاعر وخصائل الوفاء والامتنان للآخرين فيحكي عن عجوز ايطالية (إنجلينا) ذات خمسة وثمانين عاماً احتضنته وعاملته كإبنها، وعوَّضته بعض ما يحتاجه طالبٌ مغتربٌ من دفء الأمومة عقب وفاة والدته أثناء دراسته في ايطاليا، وقد تبللت سطور النَّصِ غزيرةً بسيول الدمع المخفية الصامتة، وارتعاشاتِ قلبٍ حزينٍ، في سرديةٍ حكائيةٍ ترتجف من رقة تعبيراتها وأنين إيقاعها الشجي العميق:
(تلك التي أعارتني غرفة في شقتها
وأهمس في أذنها:
خبئيه في مكان لا تراه العفاريت
وكل يوم ضعي في جيبي خمس حبات
وخذي أنتِ خمساً
هي تنهض في الصبح لتتمشى
وأنا أذهب إلى كلية الآداب والفلسفة
رحلتْ أمي وأنا أُنهي دراستي
بقيتْ أنجلينا، وحضرتْ مراسمَ حفل التخرج
أقامتْ حفلاً صغيراً لأجلي
وحين ودعتُها لأعودَ إلى بيتٍ ليس فيه أمي
قالتْ وهي تنتحبُ:
يا ابنيَّ الليبي (Figlio mio libico)
ماذا أفعلُ لأعرفَ الله؟)
(2)
ازدانت صفحات (الملكة) بإحدى عشرة رسالة شعرية تصدرتها كإهداءات أو عتبات أولى ورسائل خاصة تحمل بعض خصائص الرسائل الإخوانية النثرية في موضوعها وتختلف عنها فنياً بطبيعتها الجنسية الشعرية، وتسلسلت كالتالي:
1 – إلى أمي (في عيد ميلادي)
2 – إلى امريء القيس (موسيقى)
3 – إلى عبدالله غيث (سلطان الخيال)
4 – إلى محمود البوسيفي
5 – إلى عاشور الطويبي (ماء القصيد)
6 – إلى المهدي الحمروني (سعف ناعم)
7 – باكو دي لوتسيا
8 – إلى صادق النيهوم
9 – إلى بشير السيد (هاتها)
10 – إلى جرسي كيلي
11 – إلى جوليا أورموند
ولا شك أن اختيار هذه الأسماء العربية والأجنبية المتنوعة يؤكد أنّ علاقةً خاصةً ومميزةً تربط الشاعر بها، لذا اختار إسكانها قلب (الملكة)، وبثها مشاعره في سطور قصائده الرقيقة. وقد جاءت بعض هذه الرسائل والإهداءات مباشرة صريحة مسبوقة بحرف الجر (إلى) للتخصيص والتحديد في صدارة عناوين النصوص من بينها (إلى محمود البوسيفي) و(إلى صادق النيهوم) وهما علمان من أعلام الأدب والشعر والفكر والثقافة والصحافة في ليبيا، يزخر تاريخهما بالكثير من العطاء والمثابرة والتميز المهني والسمو الأخلاقي واتساع شبكة العلاقات الودودة التي يملكانها داخل ليبيا وخارجها. وتعتبر هذه القصائد الخاصة رسائل هدية إليهما وتحية من الشاعر الدكتور نورالدين سعيد عبّر بها عما يعتمر داخله من شعور إنساني تجاههما وما يضمره لهما من تقدير ومحبة واحترام.
(3)
أولاً: رسالة الملكة إلى الأستاذ محمود البوسيفي
تتصدر رسالة الملكة الأولى (إلى محمود البوسيفي) عبارة (لاَ تحزن!) كاستهلالٍ لغويٍّ جامعٍ للنهي والطلب والنصح والتوجيه والتنبيه يكشف عمق العلاقة الشخصية المفعمة بالأحاسيس الودودة والمشاعر الإنسانية التي يكنها الشاعر إلى الأستاذ محمود البوسيفي الذي يخاطبه بصفةٍ يلصقها بذاته وكيانه حين يناديه (يا صديقي) وهي مكانة ومرتبة متقدمة في سلم العلاقات الثنائية الخاصة تحمل كل المحبة والاعتزاز والتقدير.
ثم نجده يقترح عليه ويسرد عدة صور حياتية ونماذج وشخصيات أعلام بارزة مثل (ابن رشد) ودلائل مكونات طبيعية تكتسي الرقة والعذوبة والشذى والجمال (زهور اللوز) المستلقية في أحضان رياض الحدائق الأندلسية وفضاءاتها الجميلة الزاهية بخضرتها وزقزقات عصافيرها وروائح عطورها وصدى موسيقاها الخلابة، غايته خلق فضاء إيجابي تنتشي فيه العلاقة وتهيء مناخاتها للبوح والتعبير، ليتبع ذلك مباشرة وبكل الحرص المنبعث من فيوض المحبة النقية الخالصة إرسال تنبيهه الأخوي وتذكيره بما يجب أن يتسلح به للتحصن ضد فلول جيوش النسيان أو التناسي:
(تَذَكَّرْ أَنْ تَحْفَظَ النَّصَ
عَنْ ظَهْرِ حُزْنٍ
عَلَى جَوَادٍ
عَرَبِيّ أَصِيلٍ!)
وهذا المقطع التعبيري الناصح يحمل صورتين جميلتين، الأولى (عن ظهر حزن) وهي إشارة بضرورة اعتماد الكمال والتمام والدقة لحفظ النص وإظهاره عن ظهر قلب، وقد اختار الشاعر كلمة (حزن) بدلاً من (قلب) لأنها مجاز أكثر اتساعاً وشمولية، تظهر المشاعر المنبعثة من العضو الجسدي الصغير الذي تعتمر فيه كل الأحاسيس المفرحة السارة والمحزنة المؤلمة، كما أن عبارة (على ظهر) تشير بضرورة تجاوز الأحزان والتحديات والتغلب عليها وتركها وراء الظهر للمضي إلى الأمام. والثانية (عَلَى جَوَادٍ عَرَبِيّ أَصِيلٍ!) استحضرت أصالة الجياد والخيل المعقود بنواصيها الخير، وشجاعتها وإقدامها وهيبتها، وبلاءها الحسن في ساحات الوغى وكذلك أثناء سباقات الركض ومنافاسات الفروسية كافةً وبسالة فرسانها. ولا شك أن هاتين الصورتين تنبعثان من قلب صديق محب وغيور على صديقه، فتبعثان في النفس المقابلة الأخرى قوةً ودعماً وتشجيعاً لمواجهة مكابدات الحياة بكل صنوفها، وهذا يجسد الصداقة والمحبة الحقيقية المنحازة للقيم النبيلة والخالية من المصالح النفعية أو المظهرية الزائفة.
وتطرزت أجواء النص برموز شخصية وإيحاءات حسية عامرة بالبهاء والموسيقى والجمال والفكر هيمنت على فضاءاته الفلسفة الأندلسية، والحدائق الإندلسية، والموسيقى الأندلسية فظل متنوعاً باذخاً بعناصره المادية، وزاخراً بدلالاته التعبيرية والفكرية، تتعالى فيها أنغام فنان الأندلس (زرياب) التي وطّنها الفنان الأسباني (باكو دي لوتسيا) في معزوفاته الموسيقية الحديثة مستمداً من الإرث الماضوي الأندلسي عبق الفن والإبداع ورسالته الإنسانية النبيلة.
كما أبرز تكرار الشاعر أسلوب النداء (يا صديقي) تأكيداً على درجة العلاقة الودية ومتانتها، وفي المقابل اعترافاً بواقعية ومحدودية قدراته (لا حيلة لديّ) بعد أن خذلته مفردات اللغة لاستذكار واستحضار عوالم ماضوية بشكلها التام، فاكتفى ببعضها حتى عصفت به تيارات الشوق بعيداً، وجعلته يستلهم سيرة الكاتب الأرجنتيني المبدع (غورجي لويس بورخيس) واعتماده نموذجاً للمثابرة والصبر والتحمل والإبداع والعطاء في إشارة إلى معاناته المعيشية وتحدياته طوال حياته (1899-1986م) التي جعلت منه أحد أبرز كتاب القرن العشرين في الشعر والقصة والمقالة.
وبعد التنقل بين أمكنة عديدة في ربوع قرطبة عاصمة الجنوب الإسباني ودولة الأندلس في عهد عبدالرحمن الثالث الأموي حتى قيل بأن الماشي يستضيء بأنوارها وأسرجتها المضاءة على بعد عشرة أميال، وكذلك التجول بحدائق الأندلس العامرة بالخضرة والورود والرياحين، ونهر الوادي الكبير الرقراق، والوصول إلى أقصى القارة الآسيوية عند سور الصين العظيم، ثم الحوار مع طيف (محمود البوسيفي)، وأيضاً الاستماع إلى أنغام الموسيقي (زرياب)، ومتابعة أنامل الموسيقي (باكو دي لوتسيا) وهي تتراقص على بساط آلته الموسيقية ومداعبتها، ومطالعة شذرات من إبداعات (غورجي لويس بورخيس)، وأخيراً تأمل صورة الحورية بجمالياتها الظاهرة، ودلالاتها الصامتة، وفي ذلك إحالة إلى الأساطير الإغريقية التي أظهرت الحورية مخلوقاً إنسانياً أنثوياً شبيهاً بالألهة القديمة، يفاجأنا الشاعر بأنّ كل هذا الفضاء التصويري البلاغي الجميل كان مجرد ومضة حلم قصير عابر، لا يمت للواقع بأية صلة، وهو على غرار مفاجآت الإخراج السينمائي، التي استمتعنا بها أثناء مشاهدة أفلام المخرج البريطاني “الفرد هيتشكوك” المباغثة وغير المتوقعة، وكأنه يقول وصيته في خاتمة نصه بضرورة الابتعاد عن الحزن والكدر وجميع ما يعكر صفو الحياة لأنها مجرد لحظة خاطفة وفانية علينا أن نغتنمها في محبة الناس وسعادة القلوب بود وألفة مع الجميع.
(أَفَقْتُ
دُونَ أَنْ أَعِيَ
كَلِمَاتِ الوَصِيَّةِ.)
إنّ نصَّ (إلى محود البوسيفي) يحمل دفقة شعورية صادقة ثرية، ازدانت بعناصر متعددة تداخلت فيما بينها برابط إيقاعي خافت، غلبت عليه زخرفة المفردة وفاعليتها الواثقة في تحقيق رسالتها التعبيرية التي جسدت مشاعر العلاقة الودية بين صديقين، وتطعمت بشخصيات وأمكنة وفضاءات تتعالق في كيانها البنائي وهيكلها الفني بشكل متماسك أظهرت براعة الشاعر في توظيف كل تلك العناصر لإنتاج نص يليق بالصداقة وسموها ونبلها بين الأحبة.
(4)
ثانياً: رسالة الملكة إلى الأديب صادق النيهوم
تأسس نص (إلى صادق النيهوم) في مستهله على عناصر متعددة ينثرها الشاعر وسط عالم دخاني غائم وملبد بالغيم تختلط فيه الآراء لتبدو صورة اليقين بالنسبة للكائنات والعرائس بعيدةً في وضوحها وصفاء ظهورها. كما ازدحم منذ بدايته بعدد من الأعلام والشخصيات المتباينة تاريخياً وموضوعياً في حضورها الزمني والمكاني: (الفاروق) لقب ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب، لأنه كان يفرق الحق عن الباطل ويميزه وينحاز إليه، و(بوذا) مؤسس الفلسفة البوذية التي لها أتباع كثر في قارة آسيا غالباً، و(زارا) اختصار “زارادشت”، مؤسس “الزرادشتية” في وسط قارة آسيا وإيران الحالية والتي ظلت تعاليمها الروحانية منتشرة في القارة حتى ظهور الإسلام، وقد تناوله الفيلسوف الألماني (فيردريك نيتشه) في كتابه (هكذا تكلم زارادشت) مقدماً مفاهيم عميقة للإصلاح والأخلاق والقيم الإنسانية، و(أبوالطيب) الشاعر المتنبي الكبير ونموذج الإبداع الشعري على مر العصور العربية كما أنه أيقونة الإعتزاز بالذات الموهوبة المبدعة، و(الحلاج) الشاعر الصوفي الذي خاض جدالاً فكرياً حول العلاقة بالإله واشتهر بقوله “أنا الحق” الذي ظنه كثيرون إدعاءً بالألوهية، بينما أكد في تفسيره أنه دافع عن صوت الله ليحرره في ذاته، كما خاض صراعاً مع العباسيين حول السلطة الأمر الذي أدى للزج به في السجن سنوات طوال.
ولم يكتفي شاعر (الملكة) بتلك التشكيلة الفكرية والإنسانية المتنوعة بل أضاف كُلَّ (مَنْ كتبوا المعلقات في الجاهلية) تلميحاً لمعلقات شعراء العصر الجاهلي العشرة (امرؤ القيس، طرفة بن العبد، الحارث بن حلزة، زهير بن أبي سلمى، عمرو بن كلثوم، عنترة بن شداد، لبيد بن ربيعة، الأعشى، عبيد بن الأبرص، النابغة الذبياني) تذكيراً بأصالة الشعر وروائعه العربية القديمة.
وبعد تأثيت هذا الفضاء الشعري بتلك البانوراما الجميلة يلتفت الشاعر لإلقاء تحيته على الأديب صادق النيهوم فيسبغ عليه فيها منذ البداية صفتين مستمدتين من مسيرته الإبداعية والفلسفية الفكرية، وهما (سفراً من رؤى) وهذا تعبير شامل لكل الكتب والأوراق والأسفار والمخطوطات التي تحتضن فكراً وعلماً ورؤى بكل تنوعها واختلافاتها، و(عابثاً بعقول الجهالة) وهو إشارة إلى مطرقة النبوغ الفكري التي يقرع بها الأديب الصادق النيهوم في مقالاته وحواراته وإصدارته العقول المتكلسة الغارقة في الجهالة والضلال ومعارضاته ومشاكساته ونقوده الفكرية والفلسفية وتصديه بالحجج الربانية والمنطقية لها:
(سَلاَمٌ عَلَيْكَ يَا سِفْراً مِنْ رُؤْى
وَيَا عَابِثاً بِعُقُولِ الجَهَالَةِ)
وبعد هذه التحية ذات العمق الأسلوبي والروح الجمالية والاتساع الإنساني سرعان ما يحفزه ويستنجده ويدعوه إلى التحرك والانتفاضة والتمرد على القوالب الفكرية التقليدية البائسة بعد أن ضاقت النفوس ذرعاً ونفذ صبرها:
(إِذْ لَمْ يَعُدْ ثَمَة مَا يُقَالُ
فَالحِبْرُ بِالْمَجَّانِ
وَالدِّينُ بِالْمَجَّانِ
وَاللهُ بِالْمَجَّانِ
وَالْمُسْلِمَةُ لاَجِئَةٌ سِيَاسِيَّةٌ!)
ونجد شاعرنا يستحضر في هذا المقطع عنوان أول مقالة للأديب الصادق النيهوم (الحبرُ بالمَجَّانِ) ويجعلها متجاورة مع العقيدة والذات الإلهية ليستعين بها على تأييد الحقائق، متعززاً بكل تلك البراهين والشواهد بهدف تحرير المرأة المسلمة حبيسة العُقد والشرائع الفكرية الدنيوية من تلك القيود. ويواصل تحريضه بصوتٍ قويٍّ هادرٍ وغاضبٍ أحياناً وإنْ كان صامتاً، وبفكرٍ مستنيرٍ وإنْ كان مكبلاً، بعد أن طفح الكيل، وصار الواجب يُحتِّمُ أنْ يكون هناك فعل ما بأي شكل من الأشكال (تَفَلْسَفْ … تَعَقَّلْ … تَمَهَّلْ)، مستخدماً أسلوب الاستفهام والتعجب من ذاك الخنوع والاستسلام والهامشية بكل مرارة، موقناً أهمية ما يبثه السؤال من استفزاز للتأمل والتدبر، والبدء في الحركة واتخاذ الفعل:
(تَفَلْسَفْ … تَعَقَّلْ … تَمَهَّلْ،
فَعُقُولُنَا صَدِئتْ
وَلاَ مَنْ يُبَالِي بِمَا تَحْبُلُ الأُنْثَى
أَقِرْدٌ صَغِيرٌ أَمْ بَشَرٌ تَرَبَّى عَلَى الهَامِشِيَّةِ؟
أَيُمْكِنُ هَذَا؟)
ويستمر شاعر (الملكة) في استحضار روح أفكار وكتابات النيهوم من خلال مضامين إصداراته وعباراته بشي من التصرف (الإسلام في الأسر) و(إسلام ضد الإسلام) و(شريعة من ورق) و(ثقافة مزورة) مع تكرار الأسلوب الاستفهامي الإنكاري بشكل لاذع وتحفيزي مباشر مسكون بالاستغراب والتحسر الخفي:
يَسِيرُ التُّرَاثُ إِلَى أَسْرِهِ
أَمْ فِي مَحَالِيلِهِ المَّاضَوِيَّةِ
ثَقَافَةُ زُورٍ هَدَتْهُ إِلَيْنَا
أَمْ هَدَّهُ الأَسْرُ بِلاَ فَاعِلِيَّةٍ؟
وفي خاتمة النص نجد الشاعر يطلق دعواته باستعمال أسلوب النداء (تعال) مكررةً ثلاثة مرات لغايات مختلفة هدفها (إعادة القراءة) و(معانقة المجد) و(تزيين المقهى الكبير) وجميعها تجسد الحاجة المادية والحسيّة إلى روح وفكر الأديب الصادق النيهوم مثلما الحاجة كذلك إلى كيانه الشخصي لمواصلة إبداعه الفكري وتنويره العقلي:
تَعَالْ نُعِيدُ القِرَاءَةَ أَكْثَرْ
تَعَالْ نُعَانِقُ مَجْداً تَبَعْثَرْ
تَعَالْ نُزَيِّنُ مَقْهَى الكَبِيرِ
عَلَى قَهْوَةٍ فِي أَوَانِهَا يَعْرُبِيَّة.
وجسدت نداءات خاتمة النصّ براحاً تفاعلياً بين المكان ولهفة الحضور الشخصي والشوق لاستعادة ذكريات ماضوية مكللة بلذة رشفات فناجين القهوة العربية وتوقيتاتها المحددة، وهذه الصورة حملت مشهدية إيحائية بحميمية العلاقة الثنائية التي استحقت توثيقها في النص الشعري ونالتها بجدارة.
(5)
ختاما،ً إنّ نصوص (الملكة ونصوص أخرى) تعيد للشعر غاياته وأهدافه النبيلة وتغوص به في وجدان الإنسان لتستوطنه بكل القيم النبيلة التي ترسخها معزوفات أناشيد الروح وأسرجة الفكر، وتلك هي رسالة الإبداع الحقيقية، فتحية للملكة وشاعرها وهنيئاً لمن اصطفته برسائلها ونصوصها كافةً.
1 – نص قصيدة (إلى محمود البوسيفي)
لاَ تَحْزَنْ!
اُنْظُرْ يَا صَدِيقِي
فِي صُورَةِ الشَّيْخِ
اِبْنِ رُشْد،
أَوْ أَسْرِق النَّظَرَ
إِلَى زَهْرِ الَّلوْزِ
فِي حَدَائِقِ “الأَنْدَلُسِ”
تَذَكَّرْ أَنْ تَحْفَظَ النَّصَ
عَنْ ظَهْرِ حُزْنٍ
عَلَى جَوَادٍ
عَرَبِيّ أَصِيلٍ!
أَوْ اسْتَرِق السَّمْعَ
إِلَى “زِرْيَاب”
بِأَنَامِلِ “باكو دي لوتسيا”
يَا صَدِيقِي
لاَ حِيْلَةَ لِي
تُهَرْوِلُ عَلَى سَاعِدَيَّ الجِبَالُ
أَرَاجِيح مَسْرُوقَةٍ
عَلَى ضِفَافِ الوَادِي الكَبِيرِ
حِينَ كُنَّا فِي “قُرْطُبَة”
صَنَعتهَا ذَاتِ خَيَالٍ
وَهَا أَنَا ذَا
فِي هَذِهِ الأُمْسِيَةِ
تَخُونُنِي اللُّغَةُ
تُهَدْهِدُنِي الكِتَابَةُ
أَلْعَبُ وَكَفَى
عَلَى مَا تَبَقَّى مِنْ ذِكْرَيَاتٍ
لَمْ أَسْتَطِعْ اِسْتِحْضَارَ الأَخْيِلَةِ
كَامِلَةً!
كَتَبْتُ:
أَنَّ الصَّحَارَى تَنْفَصِلُ
ثُمَّ تُعِيدُ رَتْـقَ فَتْقِهَا
وَأَنَّ الجَّمْرَ عَلَى كَانُونِ الحَكَايَا
عِطْرَ عُودٍ …
وَلَمْ أَتَسَلَّقْ “سُورَ الصِّينِ العَظِيمِ”
غَيْرَ أَنِّي فِي غَيَاهِبِ
هَذَا السَّدِيمِ
لِتَوِّيَ أَكْمَلْتُ مَا تَبَقَّى مِنَ الإِشَارَةِ
رُؤْيَا بِلاَ عِبَارَةٍ
وَحِينَ هَزَّنِي الحَنِينُ
إِلَى اِتْسَاعِ الأُفُقِ
هَمَسَ “غُورجي لويس بورخيس”
أَخْلِطْ حِبْرَ النَّبِيذِ
وَأَحْكِمْ إِغْلاَقَ القِنِّينَةِ
سَتَحْمِلُهَا إِلَيْهِ
حُورِيَّةٌ!.
أَفَقْتُ
دُونَ أَنْ أَعِيَ
كَلِمَاتِ الوَصِيَّةِ.
2 – نص قصيدة (إلى صادق النيهوم)
جَبَلٌ مِنْ دُخَانٍ
وَعَرَائِسٌ مِنْ كَائِنَاتٍ خَفِيَّةٍ
وَجَلْسَةٌ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ
مَعَ “الفَارُوقِ” وَ”بُوذَا” وَ”زارا”
وَ”أَبُوالطِّيبِ” وَ”الحَلاَّجِ”
وَمَنْ كَتَبُوا المُعَلَّقَاتِ فِي الجَاهِلِيَّةِ
سَلاَمٌ عَلَيْكَ يَا سِفْراً مِنْ رُؤْى
وَيَا عَابِثاً بِعُقُولِ الجَهَالَةِ
تَمَرَّدْ!
إِذْ لَمْ يَعُدْ ثَمَة مَا يُقَالُ
فَالحِبْرُ بِالْمَجَّانِ
وَالدِّينُ بِالْمَجَّانِ
وَاللهُ بِالْمَجَّانِ
وَالْمُسْلِمَةُ لاَجِئَةٌ سِيَاسِيَّةٌ!
تَفَلْسَفْ … تَعَقَّلْ … تَمَهَّلْ،
فَعُقُولُنَا صَدِئتْ
وَلاَ مَنْ يُبَالِي بِمَا تَحْبُلُ الأُنْثَى
أَقِرْدٌ صَغِيرٌ أَمْ بَشَرٌ تَرَبَّى عَلَى الهَامِشِيَّةِ؟
أَيُمْكِنُ هَذَا؟
يَسِيرُ التُّرَاثُ إِلَى أَسْرِهِ
أَمْ فِي مَحَالِيلِهِ المَّاضَوِيَّةِ
ثَقَافَةُ زُورٍ هَدَتْهُ إِلَيْنَا
أَمْ هَدَّهُ الأَسْرُ بِلاَ فَاعِلِيَّةٍ؟
تَعَالْ نُعِيدُ القِرَاءَةَ أَكْثَرْ
تَعَالْ نُعَانِقُ مَجْداً تَبَعْثَرْ
تَعَالْ نُزَيِّنُ مَقْهَى الكَبِيرِ
عَلَى قَهْوَةٍ فِي أَوَانِهَا يَعْرُبِيَّة.