«أن تعيد اكتشاف نفسك، وتستعيد صوتك ولسانك المصادر، وأن تكتشف أن لك حياة من حقك أن تعيشها، وتكون مستعداً لدفع الثمن. يعني أن تغامر وتركب البحر وتكسر القهر وتنتصر».. هذا ما تقوله فاطمة، بطلة رواية مروان كامل المقهور.
أفاطمَ مهلاً، رواية الغربة والمعاناة، ورواية الأمل كذلك، صدرت أخيراً عن دار نشر الفرجاني بطرابلس، لتنضم إلى قائمة روايات الغربة التي ترصد عوالم المهاجرين في بلدان الغرب.
مروان كامل المقهور، نجل القاص المرحوم كامل المقهور، في الخمسينيات من عمره، ولم يسبق له النشر، يعلن حضوره أدبياً، وينضم أخيراً إلى صف طويل من روائيين ليبيين، من الجنسين، ظهروا فجأة على الساحة الأدبية الليبية في السنوات الأخيرة، وأشهروا حضورهم، كاشفين مواهب وقدرات وجرأة غير عادية في تناول قضايا ومواضيع تتسم بحساسية، وكلهم دخلوا عالم الرواية من باب أمامي، وأثبتوا أنفسهم على المستويين الليبي والعربي. لكن السؤال: لماذا انتظر مروان المقهور كل هذه السنين للإفراج والإفصاح عن موهبته؟.
من بين المدن الأوروبية، اختار مروان مدينة إيطالية سياحية مشهورة عالمياً، هي مدينة بيزا، ذات البرج المائل الأعجوبة، لتكون مسرحاً تنطلق عليه شخوص أبطال روايته، وهم يحاولون فك خفايا وطلاسم عالم سمعوا به ولا يعرفونه ولا يقبلهم، وعليهم تدبر أمورهم، وحل مشاكلهم وسط بحر من العداء، وإيجاد موطئ قدم لهم فيه.
رجل ليبي وزوجته وطفله يقررون الرحيل بحراً عن طريق مهربي البشر، ويجدون أنفسهم على متن قارب في عرض بحر، وبرفقتهم شاب ليبي لا يعرفونه. أربعة ليبيين وسط خليط عجيب من بشر من جنسيات مختلفة. قد تختلف تفاصيل قصصهم، لكن الألم واحد والحلم واحد أيضاً. وهناك في بيزا، تبدأ دوامة أخرى.
الزوجة والطفل المريض يُسمح لهما بالخروج، ويمنحان شقة صغيرة في المدينة، والزوج والشاب يظلان في الحجز عشرة أشهر. في غياب الزوج، تجد فاطمة نفسها مع ابنها، للمرة الأولى، وجها لوجه مع حقائق الغربة ومفرداتها الصعبة. لم تهرب من المعركة التي فرضت عليها، وخلالها تكتشف نفسها، وتتحرر ذاتها الإنسانية السجينة من قيودها.
وحين تفرج السلطات عن زوجها، يجد هو الآخر أن فاطمة أخرى ولدت في بيزا. ليست فاطمة التي عرفها في ليبيا. ينقلب الوضع، وتتغير الأدوار، وصار هو من يعتمد عليها في عيشه على مضض. وحين يتعب من الوضعية الجديدة التي تهمشه كرجل ليبي، يهرب مع طفله عائداً إلى ليبيا، ويتركها لمصيرها، فينقذها الحب، ويفتح لها أبواب حياة جديدة مع رجل ليبي مهاجر، من أصول جنوبية، هرب هو الآخر من ليبيا، بحثاً عن حياة سرقت منه عنوة في بلاده.
فاطمة تركت بلادها فراراً بابنها، المصاب بمتلازمة «داون»، من التنمر الذي يلاقيه في الشارع وفي المدرسة. كرست كل حياتها لسعادته، وتحيا لأجل ابتسامة منه، ولكنه اُنتزعَ منها غدراً. الصادق زوجها تبعها مرغماً، هرباً من واقع لم يعد يفهمه، تغيّرت فيه القيم، وصار السلاح فيه لغة التفاهم. غامر بركوب البحر إلى إيطاليا، بحثاً عن عيش رغيد، صار يراه في بيزا من حوله، لكنه لم يطله، ويختل توازنه النفسي.
الطاهر (الابن) يجد العلاج والعناية والحرص، فيكبر سريعاً، وتنطلق مواهبه. وضاح الشاب المغدور في أحلامه، وفي حبه، وفي تجارته، ضاقت عليه ليبيا بما رحبت، فلم يجد سوى البحر ملاذاً.
يصمم مروان المقهور روايته بعناية، وبلغة شفافة آسرة، ممزوجة بلهجة محلية طرابلسية ساخرة وجارحة. وتتحرك شخوص الرواية الأربعة في دوائر مدينة إيطالية مشهورة تعج بالسائحين والمهاجرين، الثراء الفاحش والفقر المدقع. ومقابل ذلك المربع، تأتي شخوص إيطالية وعربية، لتزيد في جمال الحبكة وتعقدها بتورطها في الحياة معاً في تلك المدينة، وهم جميعا يخوضون معاناتهم.
المحامي الإيطالي الذي يثمل كل ليلة، هربا من العودة إلى بيته، لأنه لا يتحمل رؤية ابنته الصغيرة المعاقة، فيلقي باللائمة على الخالق. زوجته التي تكابد الثكل، بعد وفاة الابنة، وتنخرط في العمل بمتجر للبضائع والسلع الغذائية المرفهة. صاحب المتجر العجوز لا ينسى ألم فراق ابنه العاق له، وهجرته إلى أمريكا. شادي اللبناني، وغيرهم.
رواية مروان كامل المقهور إضافة مميزة إلى ما صدر من أعمال روائية عن عوالم المهاجرين التي طالعتنا في السنوات الأخيرة. رواية كتبت بإحكام، تدخل بقرائها إلى عالم المعذبين في الغربة، وتكشفه أمامهم بكل حيثياته، وهو عالم معقد، تتشابك فيه الخطوط، وتتعدد فيه آلالام، لكنه في الوقت نفسه عالم يستند بكامله على الأمل. الأمل في العثورعلى ملجأ آمن، هرباً من موت محتمل في حروب أخوة أعداء، أو في عتمة سجون الوطن. ملجأ آمن يوفر حداً أدنى من حياة إنسانية كريمة.
بوابة الوسط | 14 سبتمبر 2023.