وُلد الهدى
سواني الجبيلة التحتية تمتد جذلةٌ كبستان فارسي يهيم من نفح طيب بخور الصندل، سحائبها تعزف الحان الخريف ومن قريب غيمة فضية ستبلل الأزقة والشرفات لبرهةٍ، سحائبٌ تجمعت تحتها طيور السليوة مترنمة فوق حقول الجبيلة الخصيبة، طيورٌ لا تبالي بالخريف، حلّقت فهبطت فحطت، تتيه دلالاً، حطت ببهجة فتعطرت تترقب لحظة من سجاياها إلفةٌ حراء.. أثواب شجرة برتقالٍ نزهيةٍ بهيةٍ تأويها عند هبوطها، غنت تتلوا مواجدها.. يذوب عطر ماء الزهر من رقصٍ ويروي السواني ومحرابها السامي، عطرٌ يحمل أمواج الياسمين، طيور سليوة لا تخفي دهشتها من فيض سماء فيروزية ومن فرحة الصبية والصبيات بشموع القناديل المتلألئة ضياء، طيورٌ لم تتعبها الدروب ترنمت تنثر لحونها، أثمر الزهر أزهاراً، الزهر للحياة استعد يقرأ لها سيرة الغيوم الخفية وسيرة الإنسان المُكمل.. جدّه يتلو عن قربٍ ” وُلد الهدى فالكائنات ضياء”، سواني الجبيلة التحتية تستعد لبهجة قناديل الميلود وانوراها الباهرة ولترانيم ” هذا قنديل، وقنديل … “، هكذا يتغنى الصبية والصبيات.. وفي آخر الليل تستانس السواني لمزمار سي منصور الزروق المغرد ذاكراً من زاوية بن عيسى صحبة بندير سي عمران وباز الشيخ محمود الزروق وطبلة سي علي.. وُلد الهدى.
في نداه دعاء
جدّته تُعد القهوة بعد أنْ أعدت “العصيدة”، ماء الزهر يبتهج أكثر، رائحة القهوة مُبهجةٌ، جدته الوقورة مبروكة أعدّتها بالبن السومطري بصوتها الغرِدُ، أطلقت البخور منهمراً، تحبو في عزّ بخطواتٍ واثقاتٍ، تبتسم في فرحٍ بسمةً مشرقةً، عجوز مُعلّمة رؤوم، لا موعد بينه وبينها، أنِسَتْ به مثل أُنس ضياء الفجر بالندى، ترنو اليه مبتسمة، هادئة السمات، قدمت القهوة بيديها المليئةً بالدروب المورقة، يرنو اليها في غبطةٍ وارتياح، تقدمت منه، قالت وفي نداها حنين ودعاء : ” مريحبة وعشر مراحب”، مدّ يدّه، أمسك بأُذن الفنجان، قال: سلمت يداك، أحس بتباريح الحنان بعينها، هزّت كيانه طلعتها البهية وظل يحتسي قهوته طرداً للوحشة حتى لا يفيق، وبينما فوق سفوح الهضاب الجنوبية تبتسم الرياح وصله صوت جدّه الرخيم يختتم القصيد: “ولكل نفسٍ في نداك رجاء”.