قصة

خشخشة غلاف الحلوى

صورة من أعمال المصورة سارا كمال
صورة من أعمال المصورة سارا كمال

كان الممر طويلا جدا، تتوزع الغرف في كلا الاتجاهين، بعض الأبوابِ مقفلة وبعضها الآخر موارب، تختلف الإضاءة على امتداد الممر، ترتعش في أحد الأجزاء إضاءة مصباح النيون؛ فدبتْ رعشته في جسدي الآيل للانهيار، شددتُ حقيبتي بصعوبةٍ وتوتر، خنقتني رائحة مطهر الفانيك؛ أحسستُ وكأنه تسرب إلى حلقي، ثمة مرارةٌ تضج في داخلي بينما ظلّ الألم على أهبة الاستعداد.

في الغرف المستلقية على جانبي الممر مرضى وكلٌ له سيرةُ الألمِ خاصته، سمعت تارةً بعض الأنين وتارةً أخرى همساتُ أحاديثٍ تلحقها أحيانا ضحكاتٍ مخنوقة، ثمة ممرضة خرجت تحمل طاولة الأدوية، تفحصتُ ملامحها باحثةً عن ركن ألتجئ إليه، كنت أبحث عن شخص يسندني، ولو بابتسامة وحسب؛ فبعض الابتسامات تنتشلنا من أفواه قلوبنا.

شعرت إنني في مأزق؛ فكيف وصلت إلى هنا؟، ولماذا خارت قواي، لم أعد أشعر بأطراف أصابعي وظللت أشد على حزام حقيبتي وكأن عضلات يدي تمزقت، توقفتْ الممرضة التي ترشدني إلى الطريق في نهاية الممر عند المصعد والتفتت إليّ، كانت ملامحها مريبة ومتشابكة، ربما لأنها لم تعاملني بود، كانت تحمل ابتسامة ماكرة تشبه ابتسامة الساحرات، ضغطتْ على زر المصعد وهي تتفحصني بنظرات جامدة، ازداد المغص، باغتني سائل سال بين فخذيّ، ارتبكت واهتز كل جسدي، قلت لها: حاجة غريبة، لزجة، ميه ميه، فقالت بصوت يشبه صرير الأبواب: عادي عادي.

منذ يومين كنت مستلقية وابتسم ملء قلبي، بينما كانت أختي تقوم بحناء أطرافي، سألتها وهي تضع الشريط اللاصق الذي يحمل فراغات لنقشة الحناء وقد كانت عبارة عن مربعات متشابكة وحلقات دائرية حول الأصابع: كيف كان شعورك؟، قالت وبينما كنت أشعر بضربات الجنين على جدار بطني: ما فيش شعور.

لم أفهم ماذا قصدت بهذا الجواب، كانت المربعات تتداخل وتتداخل، والحلقات الملتفة حول أصابعي تدور وتدور، ولازالت ضربات الجنين تصدمني، تحولت ابتسامتي فجأة إلى حزن غريب لم أدرك كنهه وساورني شعور بالخوف.

هذا الشعور يتغول الآن ويحكم قبضته على قلبي، وها أنا أركب المصعد مع ممرضة مُبَرْمَجة، وقد ذكرني صوت احتكاك المصعد بالجدار؛ بصوت خشخشة غلاف الحلوى، رغبت بقطعة حلوى، تخيلت أنني سأهرب من هذه اللحظة أجلس في بيتي بكل هدوء، فُتِح باب المصعد وسمعت صراخا.

رأيت في الممر امرأة حامل تتمشى وقد قبض الألم على ملامحها، دخلنا على اليمين حيث ازداد صوت الصراخ علوا، وَلَجْنا لإحدى الغرف المقابلة وأشارت الممرضة إليّ بالاستلقاء على السرير، وضعتُ الحقيبة على الدُرج وتنفستُ الصعداء.

يوجد في الغرفة أربعة أسرة، واحد شاغر، والاثنان الآخران المقابلان بهما أيضا امرأتان على وشك الولادة مثلي، المرأة الأولى كانت تضرب بيديها يد السرير الحديدية وتصرخ بعض الأحيان ثم يصدر منها أنينا، يدها منقوشة بالحناء وصبغة شعرها الذي نفر من إيشاربها أيضا لها لمعان يشي بنضارتها، أما الأخرى فكان شعرها منكوشا ويديها جافتين، لم تكن تتألم وحسب؛ بل كانت حزينة.

أتذكر نصائح أختي طالبة إياي ألا أصرخ، ولكن الألم يفقدك إدراكك كلما يباغتك، حاولت عض أصابعي، وحين لامستْ رجلي الجزء الحديدي من السرير شعرت براحة خجولة، لكنني صرخت ثم ارتبكت، تفحصت الغرفة والجزء الظاهر من الغرفة المقابلة ثم سمعت صراخا آخر من الغرفة المجاورة فقل ارتباكي، وظللت اتفحص نقش الحناء واقفز من مربع إلى آخر محاولةً للهرب، ثم رأيت الطبيبة قادمةً نحوي.

أطلت الطبيبة بابتسامة وهي ترتدي القفازات لفحصي، نظرت إلى الورقة المعلقة في ملف حديدي على السرير، ونادتني باسمي توددا وسألتني: أول بطن، وكأنها أدركت أنها أول حالة إنجاب دون أن تنتظر إجابتي، وودتُ لو تظلُّ بقربي، أو أنها تقول لي دقائق معدودة وينتهي هذا التعب، لكنها ذهبت لكشف الأخريات تاركة إياي بقولها: مازال.

عاودتُ القفز بين المربعات، ورددت وردة، زهر، ياسمينة، فلة، كنت أقفز وضفائري تعلو مع كل قفزة، محاولة دائما الثبات على رجل واحدة، كنا نلعب بصوت عال، نركض ونضحك، الحدود الوحيدة التي نتعاند معها هي التي نخطها بالطباشير لنلعب النقيزة، ولا أدري كيف أطل ذاك اليوم الذي رأينا فيه صديقتنا عروسا تلبس فستانا أبيض وقد اصطيدت مثل سمكة تتخبط على ضفاف أحلامنا، وكيف أبعدونا عن ضحكاتنا التي تناثرت في الشوارع حين حرمونا من اللعب خارجا.

صرخت الطبيبات من أجل حالة طارئة، سألت إحداهن ما بها : فأجابتها الأخرى: مش قادرة تدحم، سمعت صوتا آخر يقول: صغيرة لا حول الله صغيرة وولدها اختنق، تذكرت أختي وهي تقول لي: ما فيش شعور، كان الألم في أوج قوته، اختلط صوت نداء الطبيبات والممرضات بأصوات النساء اللواتي يصرخن، المرأة ذات الشعر المنكوش تردد : ما نبيش بنت، نبي الولد، تذكرت صديقتي، صرت أدور وأدور، ظلت الدوائر تخنقني حتى نهاية أصابعي، زاد الألم شراسة وأصبح متصلا، نقلنني إلى غرفة التوليد، طلبت مني الطبيبة أن آخذ نفسا عميقا، ثمة صوت في داخلي يردد: ما فيش شعور ما فيش شعور، في ألم بس، أخذت نفسا عميقا، دحمت بكل قوتي، صرخت وصرخت وصرخت و تذكرت صوتا واحدا عند سماع صراخ طفلتي، خشخشة غلاف الحلوى وتذكرت صديقتي حين قالت لي ذات يوم: في يوم صباحية عرسي؛ كنت أوزع الحلوى للأولاد وكم تمنيت لو أعبها في حقيبتي وأهرب.

مقالات ذات علاقة

ثلاث تفاحات

أحمد يوسف عقيلة

دَم..!!

أحمد يوسف عقيلة

مطر خفيف

سفيان قصيبات

اترك تعليق