النقد

مدخل إلى بعض جماليات السرد في رواية النص الناقص لعائشة الأصفر

 مع مداخل ممكنة للاشتغال عليها من وجهة نظر السرديات

الروائية عائشة الأصفر وروايتها النص الناقص.
الروائية عائشة الأصفر وروايتها النص الناقص.

حكاية رواية “النص الناقص”:

تحكي رواية النص الناقص لعائشة الأصفر حكايتين متداخلتين ربط بينهما خيط السرد المميز بالإضافة لحضور مميز للفضاء المكاني، والشخصية المركزية الرابطة: “عامر”.

هاتين الحكايتين لشخصيتين رئيسيتين هما: مريم، و (هيما) أو إبراهيم. مريم فتاة من مدينة سبها مدرسة للرسم وباحثة في مجال إنساني ارتبطت بعلاقة خاصة مع الشخصية الرابطة (عامر). حققت مريم حضورها المستمر عبر الرسائل التي كانت تكبتها وتوجهها لعامر بينما تحقق حضور هيما عبر خطاب فانتازي إذ تعرف عليه عامر بعد موته وظل يحكي له حكايته ويرسم ماضيه. هيما شاب أفريقي انطلق من الجنوب في النيجر باحثا عن الأمل الموهوم في الشمال وتقاطعت بذلك رحلته شمالا مع رحلة مريم العائدة في آخر النص جثمانها.

عامر هو الشخصية التي أطر صوته غالب الرواية وكان غالبا مركزا لانطلاق الراوي، كما كان مروي له ثابت في رسائل مريم.

بدأت الرواية على الحدث الأكثر أهمية في الحكاية وهو لقاء عامر بالأستاذة مريم معلمة ابنة أخيه نجمة التي تدرس في الصف الخامس الابتدائي. هذا اللقاء كان في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وكان مصدرا لشقاء المرأة الطرف الأضعف كما هي العادة.

عامر موظف في السجل المدني بمدينة سبها، وهو رسام له عديد الاهتمامات الأدبية والثقافية، وشخصيته هذه كانت أداة لرسم بعض ملامح المشهد الثقافي في مدينة سبها وطبيعة الأنشطة التي تقام فيها. اللقاء الثاني بين مريم وعامر كان في بيت صديقه مفتاح حيث كانت مريم صديقة زوجة مفتاح: صالحة. استمرت اللقاءات ثلاث سنوات قبل زواج مريم من شخص أخر ولمدة تسعة سنوات تالية وهما متزوجين.

أصول مريم كانت حاجزا بينها وبين عامر الذي لم يكن (فيما يبدو) جاد بشكل كبير في علاقته معها. تزوجت مريم شخص آخر غير عامر، وتزوج عامر من زوجته فاطمة وبعد سنوات من المعاناة نقلت مريم إلى مستشفى الأمراض العقلية في طرابلس بعد أن فشلت في علاقتها الزوجية مع زوجها وتعرضت لمحاولات العلاج التي تبدو فيها غرائبية كبيرة خاصة من أسرتها، وزوجها، وذلك باعتبارها مصابة بمس من الجان أو شيئا من هذا القبيل، تعرضت للحرق بالنار في أماكن متعددة من جسدها، ثم عندما توترت حالتها تم إرسالها لمستشفى الأمراض العقلية في طرابلس.

نتابع ما يحصل لمريم في المستشفى والشخصيات التي التقتها هناك من خلال سبع عشر رسالة أرسلتها إلى عامر مع الخالة جود، هذه الرسائل لم تسلم لعامر إلا في اللحظات الأخيرة من الحكاية.

مقابل طبيعة مريم المخلصة كان عامر يعيش تناقضه بين زوجته وأطفاله وعائلته التي لا نجد لها كبير حضور في هذه الرواية وبين صديقته الثانية سمر المشرفة في بيت سبها الثقافي التي كانت حاضرة هي وحكايتها وإدارتها للبيت الثقافي في عقد الألفية الثانية الأول.

نتابع أيضا التحولات التي طرأت على حياة مفتاح صديق عامر بتحوله مهربا للمهاجرين من الجنوب إلى الشمال، وتطور تجارته ليصير تاجر أسلحة وكل ما يمكن بيعه بعد ثورة فبراير، الأمر الذي انعكس على حياته الزوجية التي كانت بشكل استثنائي أكثر الحيوات الزوجية في حكاية الرواية استقرارا، حيث قام بالزواج من زوجة ثانية على زوجته الأولى: صالحة، بعد أن بنى قصرا جديدا كبيرا. مفتاح وتهريبه للعمالة كان مدخل الراوي لتصوير عمليات الهجرة غير الشرعية وكانت شخصية إبراهيم وحكاية سفره أداة الراوي لحكاية قصص المهاجرين من أرض المنطلق من النيجر.

 الرواية كانت سجلا لعديد التحولات الحاصلة في ليبيا بدءا من معارك الجهاد ضد الطليان، مرورا بالمرحلة الملكية، ثم عهد حكم القذافي، ثم مرحلة ثورة فبراير وما بعدها، كما كانت مادة يتداخل في حكايتها السرد العادي بالسرد العجائبي مع نص الرسالة، الأمر الذي حقق تنوعا في خطابها.

تنتهي الرواية على زمن قريب من سنة 2017 وكان الموت في نهايتها هو السيد، حيث تصاعدت الأحداث الدرامية في قصة مريم بعد هربها من مستشفى المجانين، ثم إعادته له، ثم موتها وإعادتها جثة لمدينتها سبها، كما نجد الموت أيضا في قصة هيما الذي اكتشف عامر بعد عديد الحكايات أنه ميت أصلا وأن من يحاوره هو شيء أقرب للشبح.

هذا الموت في نهاية الرواية للشخصيتين المذكورتين هو استكمال لنصين بدأت بهما الرواية: الأولى مستقطع من آخر قصة مريم قبل موتها عند إعادتها عنوة للمشفى، والثاني عن هيما والطبيب الذي يضع له (الحرز) الذي يكتشف آخر الأمر انه غير نافع وأنه مجرد وهم كبير. بين هيما من الجنوب في النيجر، ومريم في مستشفى الأمراض العقلية شمالا، كانت الرواية رواية مدينة سبها باقتدار، حيث يرصد (الراوي) في لغة خاصة التحولات الحاصلة فيها ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، ويرسم بهدوء التباينات الحاصلة فيها.

هذه التباينات تبرزها في بعض الأحيان الأحداث، وفي بعض الأحيان الأخرى ما وراء الأحداث، أو ما لا يظهر مباشرة من خلفيات الأحداث.

في الرواية حضور عديد القضايا بالإضافة لقضية الزوج العابث نجد قضية الأنثى الإنسانة ونجد قضية المثقفين والتحولات التواصلية بعد الفيسبوك وقضايا الهجرة غير الشرعية وأحلام أهل الجنوب أمام قسوة أهل الوسط والشمال، كما نجد الحديث عن الحياة زمن المملكة السنوسية وعن حرب تشاد وتحولات ما بعد فبراير كذلك ترصد أنماط حياة المثقفين والرسامين في مدينة سبها.

أولا. المنعطف الذي تمثله رواية النص الناقص في الرواية الليبية النسوية

الأستاذة عائشة الأصفر وهي تنجز بناء شخصية عامر، الشخصية الإشكالية في الرواية، تكون قد أعلنت بشكل جاد عن تحول كبير في الرواية الليبية النسوية، وهي تخرج من عباءة الصراع الاجتماعي وقضايا الألم النسوي المعتاد، لتضعنا وسط شخصية ذكورية تسبغ عليها ظاهريا كل سمات البطولة، وهي في الآن ذاته تبرز مقطعا بشعا من حياته المركبة شديدة التعقيد والمبنية على الكذب.

تمضي إذا الروائية مع الشخصية (الذكر/عامر) وتصور ما يشاء وترسم العالم بعينيه فتقصي من النساء: الزوجة والأم والأخوات كذلك الذرية التي لا تظهر إلا نادرا، بينما نجد حضورا مستمرا من الشخصيات النسوية التي يعشقها عامر مثل: “مريم، و”سمر”، أو تلك الشخصيات التي كانت مدخلا من مداخل عشقه مثل صالحة زوجة مفتاح.

أي أن كاتبتنا هنا نجحت في جعل شخصية الذكر ماثلة حاضرة بكل واقعية أو بلهجة أكثر دقة بكل ما فيها من سوء، لكن دون أن تقول أي كلمة ما مباشرة تجاهه، حيث عين الراوي وهي تتبع عامر وما يريده عامر تضعنا دائما بين زمنين: زمن ماض كانت فيه مريم هي مناط السرد، وزمن حاضر نجدنا فيه مع سمر الشخصية الثقافية الجديدة.

قدمت الرواية أيضا من خلال رسائل مريم صورة شديدة البشاعة عن مستشفى المجانين والممرضات، هذه الصورة نحتتها مريم عبر رسائلها وهي تحكي عن الظلم الحاصل هناك وعن مأساة التعيسة سعاد رفيقتها في المستشفى.

من جانب آخر فإن الرواية بحكم ذلك الإتقان والتميز من الراوي في الانتقال الزمني من زمن لأخر كانت ترصد ليبيا والفضاء المكاني سبها ضمن أزمنة عديدة، تبدأ من الماضي البعيد إلى زمن المملكة، ثم زمن القذافي ومن ثم الحاضر مع ثورة فبراير. كما كانت الطبقات النصية أو المتون النصية متعددة وكذلك الخطابات.

ثانيا. المتون النصية المكونة للرواية وتداخل الخطابات النوعية

نقصد بالمتون النصية تلك المادة المكتوبة المنفصلة عن غيرها من مادة النص، ونفصل هنا فيها بشكل أكبر، حيث المتون النصية عددها ثلاثة متون نصية:

1. متن الرواية النمطية؛ حيث حكاية عامر هي المركزية والراوي يرسم العالم بوعيه، وقد نوّع الراوي الخطاب ضمن هذا المتن بين الخطاب النمطي العادي، والخطاب الفنتازي، الذي كان يحضر بعض الأحيان خاصة عند الحديث عن شخصية هيما وسرد حكايتها.

2. متن الرسالة الذي تأسس من خلال العلاقة بين مريم كاتبة الرسائل أو الراوي وبين عامر مرسلا إليه أو مُخاطبا وهذا المتن أيضا يحضر ضمنه بنسبة أقل بعض من الخطاب الفنتازي.

3. متن النصوص غير السردية (المناص الداخلي) وهي كما يلي:

 النص الشعري، والنص الفلسفي ورسالة الفيسبوك. الشعر كان من نوع الشعر المنثور، والكتابة الفلسفية كانت مقاطع منقولة عن بعض الفلاسفة.  هذه الكتابات والخطابات المختلفة كانت مندمجة يصهرها دفق اللغة الخاصة. هذه اللغة يمكن أن أسميها باقتدار لغة الأستاذة عائشة الأصفر.

ثالثا. خصوصية لغة السرد وجماليات رسم الفضاء المكاني

كانت مدينة سبها مكانا مركزيا للسرد، ومكونات فضاءها التي تم تصويرها وإبرازها بشكل شديد الخصوصية ضمن لغة فيها خصوصية في شعريتها ومرجعية كلمتها.

 كما نجدها مختلفة عن كل ما سبق يعني نحن مع المكان حاضرا مميزا هو ومكوناته لكن بلغة مختلفة لم نجدها عند سابقيها: هي ليست لغة الأسطرة المعتادة ولا لغة الواقعية الفجة.

الدراما السردية بدأت من خلال وضع الكاتبة إشارات تضمن مناصها للشخصيتين الرئيسيتين: هيما ومريم. هذه الدراما السردية بدأت ولم تتوقف. ما نحن هنا بصدده هو محاولة التعريف ببعض المداخل الممكنة التي تعبر عن الشحنات الجمالية التي تميز بها هذا النص الرائع.

من جهة الخطابات من الممكن أن نرصد الخطاب النمطي العادي الذي يتخلله من الحين للآخر الخطاب الفنتازي.

1.2  مداخل ممكنة لقراءة الرواية والتعرف على بعض جمالياتها من وجهة نظر السرديات

نقصد بالسرديات التي ننطلق منها هنا سرديات الحكاية عبر عناصرها الأربعة وسرديات النص وسرديات الخطاب. حيث نجد ضمن السرد نظاما مترابطا مميزا في السرد، حيث ينتقل الراوي من تصوير المكان إلى الشخصيات إلى البنية الاجتماعية أو التاريخ وهكذا.

2.2 على مستوى عناصر الحكاية الأربعة

عناصر الحكاية هي الأحداث والشخصيات والأمكنة والأزمنة. والزمان هنا منظورا له في لإطار حضوره ضمن الحكاية، لا كما يتم النظر إليه تمظهرا من تمظهرات الخطاب، حيث هناك يكون الزمن إطارا لدراسة العلاقة بين زمن الخطاب وزمن الحكاية.

أولا. الأحداث:

 تتباين الأحداث من أحداث مهمة في واقعنا الحديث، وأحداث عابرة غير مؤثرة، وهي تمثل في مجملها رصدا لتفاعل الإنسان داخل الفضاء المكاني سبها وما يحيط بها شمالا وجنوبا. ويمكن أن نرصد ما يلي من بنى الأحداث التي يمكن أن تكون مادة للدراسة:

1) أحداث الوله والعشق التي ترسم علاقة الذكور بالإناث، وتتباين بين العلاقات عبر المؤسسة الرسمية أو أخرى غيرها وهي على الرغم من تقليديتها إلا أن الكاتبة بحكم براعتها السردية وحسن الرصد للأشياء وخروجها عن المثالية وفقت في جعل تلك الأوجاع والآلام منطقية ومقبولة ومصدر مهما من مصادر قوة النص عبر رفع نسق التوتر الدرامي من جهة وعبر اعتبارها أداة لبناء الشخصيات ولإظهار بواطنها.

2) أحداث الرحيل شمالا وجنوبا إل سبها ومنها وهي قضايا ترتبط بالأرض من جهة وبفلسفة الحركة لدى الإنسان.

3) الصراع والحروب من أجل البقاء وأحداث الصراع السياسي كحرب تشاد والتحولات الدراماتيكية التي تلت ثورة فبراير.

4) البعد التاريخي والثقافي والسياسي لأهل المكان.

ثانيا. الشخصيات

يوجد في الرواية شخصيات مركزية محدودة هي: عامر، مريم، هيما، مفتاح، صالحة، سمر. كما توجد عديد الشخصيات الثانوية الأخرى ونجد في جانب بناء الشخصيات ما يلي من النقاط المميزة التي يمكن دراستها:

 خط بناء الشخصيات يقوم على ركيزتين: الأولى التصوير المباشر للشخصية عبر الوصف والسرد، والثاني وهو مختلف عن الأول: وهو متحقق مما يمكن تسميته بالخصائص للشخصية الناتجة بشكل غير مباشر أفعالها وتصرفاتها التي تعكس بعدها الداخلي.

من الممكن دراسة بناء الشخصيات وطبيعة علاقاتها المختلفة كذلك جمالية هذا التباين بين المعلن من وصفها وبين المضمر عبر الرواية كلها خاصة شخصيتي إبراهيم ومريم.

ثالثا. المكان

الرواية رواية مكان باقتدار، حيث الفضاء المكاني المركزي هو سبها، وتتحرك عدسة السرد في دائرة محيطة بها شمالا وجنوبا، وفي بعض الأحيان تتقلص حدود الصورة إلى شوارع سبها الرئيسية وحواريها.

تتقن الروائية تصوير الفضاء المكاني وشحنه بحمولات ثقافية ويصبح هو ذاته أداة للتعبير عن التباين الطبقي والاجتماعي. كما نلاحظ حضور أمكنة محددة مركزا لعديد الأحداث ومنها: مستشفى المجانين، السجل المدني. بيت الثقافة، بيت مفتاح وصالحة. وقد يكون المكان أحيانا أداة للانتقال زمنيا للماضي كما في المقطع التالي الذي يعبر عبر الحكاية عن ترابط المكان بالتاريخ (أو انتقال للماضي عبر صورة المكان):

“في مدرسة عائشة أم المؤمنین المتربعة بین البنایتین الحمراء بیوت العامة، والبیضاء حیثُ قصور بطابع تراثي قدیم وبسیط وبنایات معتقة برائحة السلطة والباهویة منذ إعلان الاستقلال والولایة في الواحد وخمسین كل طوبة في معمارھا تحكي قصة وفي دهالیزها حیكت انتخابات الولایة ومصیر (…) قصور الضیافة والولایة والمحاكم والمجالس التشریعیة والتنفیذیة، والشرطة الفیدرالیة، والمصرف المركزي ومقار المسؤولین الكبار والمدرسین المنتدبین وغیرھا جمیعھا تحیط بقعید (السوق)، فيها كان اللقاء. “

بينما يصبح ها المكان فيما بعد أيقونة تستخدم لتنويع التصوير للواقع الاجتماعي كما استخدمت نفس المكان في مقطع أخر من الرواية، وهو ليس مجرد تصوير عادي للتباين الاجتماعي إنه أيضا نحت في الحقيقة المرة القائمة التي تدفع كل اهل المكان للصراع:

“خلف مبنى الثقافة هذا، حیث كانت قصور الباهویة، وارتسمتْ الفوارق الطبقیة والاجتماعیة، بین أهالي فزان القدامى، وبین الذین استوطنوا وتسلطوا ربما بسلطة الحمایة لا أدري هذا ما یقوله “عبد الله”، تجدّرت الفوارق والانقسامات، واختلفت المقامات في القامات وبین الهامات، “سالم” یفخر ببداوته ونسبه وناقته، ویرى في “عبد الله” عبداً له، و”عبد الله” یحقد على سالم الذي یرى أنه لفي من بعید وبقوة السلطة أستبعده واستعبده، “عبد الله” یفخر بسانیته، وبئره، وعراقة وجوده، ویرى في سالم البداوة والتشرذم، وتشویه للحیاة والنظام، وفي كل انتخابات تحصد قبیلة “سالم” الأصوات وتختنق أصوات أهالي عبد الله، الذي قال أن أحد القائمین علیھا أسرّ لھم بأنھم كانوا یملئون صنادیق الاقتراع قبل البدء فقد كانت مُعتمة، طغیان وجبروت یقابله  كبت وحرمان، كبرتْ النفوس ونشأ جیل العقد.”

ولعل هذه المقاطع التي تعبر عن بنية الشخصيات والبني الاجتماعية داخل المكان تجعل من المكان أكثر حضورا بحيث يصير فضاء للتباين وفضاءً للصراع ومن ثم فضاء حقيقيات لحياة واقعية فيه قوى خفية طاحنة ومدمرة وتصبح الرواية بهذا الشكل عملا إنسانيا باقتدار يسمو عن الفردية والجهوية والقبلية.

رابعا. الزمان عنصرا من عناصر الحكاية:

يتم في هذه الرواية رصد أزمنة مختلفة من عمر الشخصيات تبدأ من ستينيات القرن الماضي وتنتهي سنة 2017 تقريبا، ويبدو الزمان وقد حدد بدقة متناهية من خلال الرسائل إطارا يساهم في تلقي النص وجعل القصة ممتلكة لحضور اكبر، كما كانت أزمنة الحكاية تتوزع بين الماضي والحاضر ونلاحظ أهمية زمن منتصف التسعينيات الأول وأيضا زمن ما بعد ثورة فبراير.

3.2 بعض جماليات الرواية على المستوى النصي

البعد النصي يعني كما هو معروف بتفاعلات النص المختلفة ضمن خمسة أبعاد متعارف عليها في السرديات.

أولا. النص الموازي.

من الممكن الوصول لنتائج مميزة من بعدين: أحدهما دلالي والثاني جمالي عند دراسة هذا النص من زاوية عنوانه الرئيسي: (النص الناقص) الذي تكرر بروزه وفق نظام محدد. كما يمكن النظر للعناصر الأخرى الداخلة ضمن النص الموازي ومنها الكلمات السابقة للنص وإن بدت جزءا من النص (يخيط باراتو…) كذلك النص التالي (قبلت الهالة الخشبية التي تحيطها…)، هذين النصين أيضا يمثلان مدخلا لفهم دلالات النص وأداتين جملتين رابطتين لجل الحكاية. أيضا النصين الذين تم وضعهما في خلفية الكتاب (حتى ولو كانا اختيارهما من الناشر).

لنتابع مدخل الرواية الذي يجسد حقيقة معنى النص الكامن والخفي باعتباره رسالة من الكاتبة وليس مجرد خطاب الراوي، ويؤكد أن الشخصيتين الحقيقيتين من أصحاب المكان يموتون هنا في مكان غير مكانهم. تموت مريم في الشمال وكذلك هيما يموت مثلها:

” (أ) یخیط “باراتو ” الجرح الذي شقّه في ذراع ” هيما” بعد أن رصّها بأعشاب السحر والنجاة لرحلتھ نحو الأمل. عندما تزوجتُ اثنتي عشرة فرنسیة یا ” هيما ” ،هيما في هذه الصحراء، اثنتي عشرة فرنسیة ..طمعا في تغییر جلدتنا، عبثا كان، ففي كل مرة تنتصر جلدتي، في الاثنتي عشرة مرة أنجبتُ مائة وعشرین ولداً، جميعهم جاءَوا سوداً ،ومن نجا من السواد كان مختلطاً، علمتُ یا “ھیما” أن ھذه الصحراء ترفض استبدال لونها، أن هذه الصحراء كسرتْ قانون “مَنْدَل”..

یخیط “باراتو” الجرح.. وإن بلغتَ “عین الضد” خلف البحر، وإن اغتسلتَ فیها، ونهلتَھا كلها، لا أظنك ستتحول إلى ضدك یا “هیما”..

(ب) وعندما اُتهمت مریم بالجنون، وأودعت المصحة العقلیة، وأعادھا ذلك البسیط بعد هروبها مقابل قیمة مالیة، احتشد المسؤولون والأطباء النفسانیون، والإعلامیون یتسابقون لالتقاط الصور معھا،

(ج) بصقتْ “مریم” في وجوههم.. وقالتْ:(…)

(د) إنه الشقاء یا “هیما”، سیلاحقك ومریم، وسلالتك، فقدموا القرابین  لهذه الصحراء، شفاهھا عَطشى، وجَوفُها مُكْتظ بالذهب والماء والدراویش، دعوا السحرَ یسري فیها، وهو منثور هباء على قمم ” “تاسیلي” و”أكاكوس” في قبضةِ جانِها.”

هنا نحن مع البنية السكانية الأصلية من خلال “مريم” و”هيما” وهي تغادر الحياة كما نجد من خلال حكمة باراتو وهو يلخص تجاربه لهيما في (أ) كيف لا يمكن أن يكون هو هيما الأمر إلا ما هو عليه، أيضا تجربة مريم في (ب) وما حدث لها والتناقض بين واقعها الذي تعيش وبين أولئك القائمين عليها. الغضب نعبر عنه مريم مباشرة، بينما الراوي/الكاتب يعلن عن البنية النصية الخفية الحقيقية في نقطة البداية التي هي مختتم تلخيص للنص في (د) حيث الحديث عن الشقاء والألم الذي يتهدد هيما ومريم من الأغيار..

ثانيا. التناص

 يمكن دراسة التناص بين هذه الرواية وبين أعمال الكاتبة السابقة كما يمكن أن يتم دراسة العلاقة بين أي من مكوناتها وشيء أخر خارج النص. ما يمكن دراسته في تصوري في هذا النص من جانب التناص كثير وعميق الغور ولا يجب أن يتم بالطرق التقليدية لدراسة التناص التي يتم فيها تخريج الشواهد أكثر من كونها دراسة تناصية.

ثالثا. النصية الواصفة

 يمكن أن نلحظ حضورا مميزا للنصية الواصفة التي يعرفها البعض بالميتانصية. وذلك عبر مناقشة عديد القضايا الفلسفية والفكرية المختلفة، لنتابع هنا دور النص المنقول عن نيتشة، وهو يشتغل مدخلا لانطلاق الراوي من وعي عامر، ثم يكاد يحيلنا على وعي مسيطر وكلي هو وعي الروائية في (أ) وكلك (ج) بينما الجملة (ب) فقط تحيلنا من خلال الضمة إلى عامر.

في (أ) و (ج) وعي أنثى خفية تسير النص بدله وتبكي ما يحدث من ظلم للإناث. هذا المقطع من المقاطع المركزية في النص ودلالته أحد الدلالات الخفية التي يدور عليها النص:

” (أ) وھل أخطأ “نیتشة” بقوله أن (المرأة لا تكون صدیقة ولا تصلح إلا للحب والولادة).. أو لیستْ الصداقة أسمى مظاهر الحب؟

یقول “نیتشة” إن المرأة هي لعبة الرجل..

ألهذا وضعَ “مریم” في مصحة عقلیة؟

وضَحكَ على “سعاد” بجنین في مخزن مواسیر؟

وسَلب قلب “فاطمة” بزواج مصیري؟

واستبدل مفتاح حب “صالحة” ” ؟

(ب) ودغدغتُ نبض “سمر” بكلماتي المعسولة؟

(ج) واستسلمتْ نعجة الحاجة “مستورة” إلى كبشها؟

وفتحَ القط المتوحش عنق قطتنا المسالمة؟

ھل علیهن أن یكنَّ “علیّسة” قرطاجة، رمتْ بنفسها وسط محرقة

كبیرة أعدّتها لذلك، عندما طُلبَ منھا الإذعان للزواج ؟

ما أتعسنا ..وما أشقانا .. وسأقولها في كل مرة..

نتوه نحن بین نظریة القوة عند “نیتشة” ، ونظریة الحب داخل

قلوبنا المیتة.. ننتحر ألف مرة داخل كذبة.. نسلخ جلداً لینبت جلدٌ

بلون آخر وبنفس الإحساس..”

مقطع يعبر عن آلام كل الإناث بصوت أنثى وألم أنثى ونزف أنثى، يختصر هنا في هذا المقطع قضية النص الكبرى: النص الناقص. وتأتي هنا احد خدع النص المميزة أو لنقل انفتاح دلالته، حيث يطرح ما يبدو أن المقصود بالنص الذي لم يكتمل هي الأنثى، خاصة ونحن نجد قولا مباشرا من مريم في أخر رسالة (12) من رسائلها تقول فيه:

 “ويتكرر السؤال ماذا جنيت من كل هذا، ما لمصير الذي ألتُ إليه، أظنني النص الذي لم يكتمل؟!  .

4.2 مميزات الرواية عل مستوى الخطاب

يتم دراسة الخطاب الروائي من خلال أوجه تحققه الثلاث وهي : الزمن والصيغة السردية والتبئير.

أولا. الزمن

من الممكن متابعة جمالية الانتقال الزمني من زمن لأخر لنتابع هنا كيف يتم الانتقال عبر تعيين الزمن المرتبط بحدث من الأحداث:

” وكان صباحا غیر كل الصباحات، وضُحى النسائم المختلفة، أوائل التسعینیات أُلبّي دعوة “مریم” كوَلي أمرٍ “لنجمة” ابنة أخي…”

التأطير الزمني حاضرا كما رأينا عبر تحديد الزمن تاريخيا والساعة صباحا. أيضا هناك  استخدام لتقنية التواتر الزمني لنتابع هذا المقطع حيث يرسم الراوي المندمج مع عامر حياته مع زوجته لتي طالما كان يلغي حضورها

“وكل مساء أتساءَل ما ذنب هذه المسكینة الغارقة قربي…”

بينما هنا بعد انتقل الراوي لماضي عامر يرسم جمال ذلك الماضي المحون بالثقافة.

كانت سنوات تلتصق فیها رائحة الثقافة مع رائحة الخُبز ألبیتي، مجلات وقصص للأطفال والكبار، كانت متلازمة بیتنا، نتبادل روایات “ھوغو” و”تلستوي” و”نجیب محفوظ”، وغیرھم ، ربما كان هنا میزة انعدام المسلسل المدبلج، ووقف القنوات الفضائیة على قناة واحدة لا یحظى بها الكثیرون.”

يمكن دراسة جماليات الاشتغال الخطابي زمنيا، وذلك بمتابعة طبيعة العلاقة بين زمن الحكاية وزمن الخطاب عبر دراسة ما يلي:

1) دراسة علاقات التقديم والتأخير الزمنيتين بين زمني الخطاب والحكاية، ودور ذلك في إنتاج المعنى وتحقق جماليات السرد، حيث توجد طاقات مميزة في هذا الجانب.

2) دراسة علاقات السرعة عبر متابعة السرعات الأربعة المختلفة وهي الحذف والوصف والمشهد والتلخيص. حيث نجدنا ونحن نقرأ النص منتقلين من تلخيص لمشهد ومن مشهد لوصف وهكذا، هناك اشتغالا مميزا في هذا الجانب.

3) دراسة بعد التواتر. أعتقد أن دراسة التواتر سيكون له نتائج مميزة في هذه الرواية: سواء من نوع تواتر جملة (خاصة فيما يخص استكمال شخصية الزوجة دون تركيز السرد طويلا عليها)، كذلك التوار من نوع رصد حدث لأكثر من مرة ضمن السرد.

ثانيا.  الصيغة السردية

1) الحوار. الرواية التي أمامنا رواية حوار باقتدار ولعله مما يميز الحوار فيها ما يلي:

أ‌) تأطير الراوي المميز لحوار الشخصيات.

ب‌) سيطرة الراوي المميزة عل مناطق بين الحوارات وتلك اللغة المميزة لتلك المناطق.

ت‌) لغة الحوار مميزة وتعتمد على عدم المباشرة حيث نجد حضور المجاز في خطاب الحوارات وأحيانا نجد لغة خاصة دالة على كينونة المتكلم مما يجعل للكلمات فعلا أكبر من دلالتها المباشرة.

2) حضور باقي الصيغ السردية: تم توظيف صيغتي الخطاب المنقول والمسرود وكانت هذه الصيغ أداة فاعلة في لحظات درامية خاصة.

ثالثا. الصوت والرؤية.

يجيب سؤالي الصوت الرؤية عن السؤالين التاليين : من يرى؟ ومن يتكلم؟

1) بخصوص الراوي. نجد في هذه الرواية عديد الرواة بحكم عدد المتون النصية الداخلة فيها، من الممكن دراسة شعرية ذلك التباين في خطاب الرواة المتعددين.

2) الرؤية أو إجابة سؤال: من يرى؟ و عبر أي منظور يرى؟

من الممكن ملاحظة تتبتاين الرؤى من خلال تتباين المتون النصية، حيث نجد بشكل جلي ذلك التباين بين الرؤية في خطاب الرواية النمطي وبين الرؤية ضمن خطاب الرسائل. كذلك نلحظ طبيعة التباين وبين خطابات (هيما) عندما يتحدث.

الراوي كما هو واضح ينطلق من وعي المكان عند التعبير ومن رؤية اهل المكان وفهمهم لكل عناصر وأشياء المكان حولهم.

1.3 مميزات الرواية بحسب رؤية السرديات الجديدة

نقصد بالسرديات الجديدة مستويات الاشتغال الجديدة التي حاولنا وضع صور لها وهي سرديات التداخل النوعي والإجناسي، وسرديات الممارسة السردية.

2.3 الرواية والتداخل النوعي والإجناسي.

يتكون خطاب هذه الرواية من عديد الأنواع المتداخلة مع بعضها البعض. بعض هذه الخطابات قد انفصل عن المتن الأصلي لدرجة تحوله إلى متن نصي خاص، ومنها خطاب الرسالة وخطاب القصيدة وخطاب النص الفلسفي. بينما هناك خطابات نوعية تداخلت مع النص العادي دون أن تشكل متتنا نصيا خاصا، ومنها الخطاب الفنتازي حيث تظهر هنا وهناك ضمن نسيج المتن النصي الأساسي.

3.3 الرواية والممارسة السردية.

تنقسم مؤشرات مستوى الممارسة السردية  إلى التأطير والترهين على مستوى السرد والأشغال على الحواس والوصف المقارن على مستوى الوصف. والرواية غنية في ه الباب لمن أراد الاشتغال عليها.

4.4 رمزية الرواية أو البعد العميق أو المتواري من خطابها

هناك عديد النقاط المتوارية غير الواضحة التي تحتاج لقراءة معمقة للوصول لنتيجة بخصوصها نتطرق هنا لبعضها لعل ذلك يوضح قصدنا بالبعد الرمزي الخفي

أولا. رمزية ما تقوله مريم في رسالتها الثالثة لعامر، لنتابع بداية ذلك المقطع:

“وأسرح أنا حيث ولدت.. في مستنقع دم أسير..

تتزحلق قدماي في الألسنة المخاطية ..

يتسربل ثوبي في النهر الأحمر، وسط المذبح العملاق أتخبط

أبحث عن تمام النص الناقص، النص الذي لم يكتمل بعد.. تهت في نص قدم أكثر من تسعين ألف قربان لقميص أشعل أكبر فتنة في تاريخه.. كل قرابينه بحد السيف فرادى…”

يستمر المقطع إلى نهاية الصفحة التالية ويشتد حجم الانهيال لتيار الوعي ضمن مونولوج داخلي مميز يعبر بشكل رمزي عن ذلك التشابك العميق في ذهن تلكم التعيسة مريم وجد حجم آلامها ومعاناتها.

ثانيا. تطرق الراوي من خلال مونولوج عامر الداخلي لقضايا داخلية عميقة لها علاقة بالتركيبة السكانية والقبلية:

نجد هنا من خلال المونولوج الداخلي مع شخصية عامر بكاءه لمريم وتحديد أسباب الخلاف بين قبيلته وقبيلتها بشكل رمزي مفتوح في تأويله.

“… محتجزة في مصحة نفسية، يا مريم القصيد أنت يا عرق فزان يا نسيا منسيا”

هذا خطاب خاص عن لحظة خاصة وهمية عندما صعد عامر المسرح كما يعتقد وقال قولا تعاطف معه فن الجنوب وأنساه أحقاده.

ثالثا. الحوار الداخلي لعامر وهو يتحدث عن زواجه من فاطمة زوجته وربط ذلك كله بخطاب التحرير وقصة تشارلي وأسطورة (انتغونا) وغيرها من الرموز مع خطاب التحرير وغيره من التغييرات الداخلية المصاحبة لذلك الخطاب على لسان المستشار.

هل نكتب خلاصة لهذه الدراسة حول هذا النص المميز؟

ليست هذه الدراسة إلا مدخلا يعبر عن بعض ملامح التميز في هذا النص المشحون والمكتنز بالكتابة الرائعة. وطالما كانت هذه النصوص المميزة البديعة تأخذني عن نفسي فاكتب عنها عديد الدراسات ولأن الوقت ضيق فإنني قررت أن أرمم هذه الدراسة لتكون مدخلا  أو متنا لطرح بعض الأفكار حول النص مازالت تحتاج لمن يكملها في عديد الجوانب التي قد أكون أشرت إليها أو قصرت معرفتي عن استكشافها.

هناك هيما ومريم. هيما الأفريقي ومريم المرأة الفزانية وهناك التاريخ والجغرافيا والثقافة وهناك لغة مميزة خاصة جادت بها هذه الرواية والروائية، وهناك سبها حاضرة بكل قوة وعنفوان وجمال من خلال التأمل والفنتازي والشعري والفلسفي ومن خلال الصراع الثقافي والاجتماعي ومن خلال الشعر والفلسفة ومن خلال رسائل مريم الرائعة التي كانت أحد أهم مصادر قوة الرواية ومن خلال شخصية عامر المركبة التعيسة في نهاية الأمر. عمل مميز أدعو الكل لقراءته والتمعن في عميق ما اندس فيه من حكمة. أرحب بالأستاذة عائشة في عالم الرواية الحقيقة الذي على الرغم من عديد المحاولات لم يدخله إلا قلة.

مقالات ذات علاقة

قراءة ومقاربة.. تحذير إلى القارئ !

القصيدةُ ترسمُ مشهداً

عبدالباسط أبوبكر

رفع اللبس أو شبهة الضياع

المشرف العام

اترك تعليق