المالكي يثري مشروعه النقدي العملاق بإصدارين جديدين خاصين بالسرد عند الشباب
الإصداران الجديدان في الحقيقة صدرا على نفقته الخاصة، وفي نسخ محدودة جدا لأسباب كثيرة، أولها ربما هو تكاليف النشر التي ترهق الكاتب الأصيل في العادة، وثانيها هو قلة رواج مثل هذه الكتب لما تمر به علوم السرديات في ليبيا (وفي الوطن العربي عموما) من كساد وعزوف حتى من أولئك الزاعمين بأنهم أرباب في هذا الحقل.
وقد يكون من الموجع القول إن معامل علوم السرديات سواء كانت رسمية (كالتي تضمها وترعاها وتنفق عليها الجامعات أو وزارات الثقافة) أو تلك المشاريع الشخصية التي يتبنى أصحابها جهدا مستقلا، تنحدر انحدارا مخيفا إذا قورنت بما يجري على الشواطئ الأخرى من انطلاقات كبيرة في شتى العلوم النقدية وعلوم اللغة واللسانيات، هذا عدا التطور المعرفي الهائل في العلوم التقنية الأخرى.
ولعل أغلب ما يطرح الآن من محاولات نقدية من طرف البعض (سواء كانوا أكاديميين أو هواة) لا تزيد عن مجاملات فارغة تغلب عليها العاطفة والنبرة الاحتفائية والمجاملة الفجة قبل كل شيء (نبرة احتفائية يغلب عليها في العادة طبع التودد إن كان الكاتب أنثى أو طابع المصلحة إذا كان الكاتب ذكرا)، أو في أحسن الأحوال اجترار ساذج لما يقوله غيرهم وترديد لنظرات الغير من النقاد الغربيين دون فهم ودون حتى رغبة أصيلة في تطوير ما قالوا أو النبش بحرقة باحث فنان في اكتشاف شيء ما أو إضافة شيء ما، باعتبار أن كل ما يأتي به الغرب هو المرجع الأعلى الذي لا ينبغي تجاوز عتباته.
هي حال مزرية في الواقع، وعندما يكون الكاتب وصاحب الرؤى العبقرية منبوذا من الجميع (من الدولة ومن النخب) ولا يُلتفتُ إليه، فعندها تكون العواقب أشد سوءا ويكون الانحطاط المعرفي العام أنكى وأضل سبيلا، لا ريب..
في ليبيا حالة انحطاط ثقافي كبير. وزارات ثقافة كثيرة تعاقبت منذ 2011 ولم تكن هناك وزارة للدفاع، أو هيأة قوية للأمن القومي في وقت تعج البلاد فيه بآلاف الجواسيس والمرتزقة والمهربين ولصوص الحدود وعملاء مخابرات القاصي والداني وسماسرة البنادق والدم.
والغريب في الأمر أن ما نهب من وزارات الثقافة هو مبالغ هائلة في الوقت الذي لم تقدم هذه الوزارات جميعها شيئا يذكر من أجل ثقافة الناس، أو من أجل الكتاب المطبوع أو غير المطبوع أو الاهتمام ورعاية مواهب الشباب، أو المساهمة في إعادة من تهشم من أساسات ليبيا وترميم ما تآكل في النفوس في زمن تطحن البلاد حروب أهلية ودعاوى ضغينة وكراهية وفتنة ونعرات قبلية متخلفة وتصارع بالمخلب والناب بين فرق بائسة تتحرك مدفوعة بأيدلوجيات إسلاماوية وغير إسلاماوية لا يأخذها في الوطن إلٌّ ولا ذمة.
مبالغ فلكية سرقت تحت ألف اسم ومسمى أهدرت في أروقة وزارات الثقافة المتعاقبة، أسفار فارغة لمعارض الكتاب وندوات تعيسة وهمية ومهرجانات للخيل والطبول والزكرة والأزياء، وزيارات وأنشطة مخجلة.. كل هذا حدث بفعل الشخصيات المأساوية الذين جلسوا على كرسي الثقافة بطول هذه السنين، وأيضا بفعل الشخصيات المأساوية الأخرى المنتسبين إلى النخب، الذين تراهم في كل واد يهيمون.
ولكن مهما كان الأمر، فإن على المثقف الأصيل أن يواجه قدره..
عبدالحكيم المالكي الذي شق طريقه بعبقرية فذة حتى في مجال تخصصه الأصلي وهو الهندسة الميكانيكية ليثير في رأسي الآن تلك الذكريات البعيدة حين كنا نترافق في كلية الهندسة وكيف كان بارعا بحق وكيف كان صبورا كريما مفتونا بالأدب والشعر وهو يتفوق في التفاضل والتكامل وعلوم المصفوفات والانتقال الحراري وميكانيكا الموائع وهندسة التوربينات والديناميكا الحرارية. ثم يكمل مشواره العلمي بعد ذلك في دراسته الهندسية العليا بتفوق كبير.
ها هو اليوم (بالرغم من كل هذا العنت والزمن الصعب) يثري المكتبة العربية بهذين الإصدارين الرائعين:
- اتجاهات كتابة الشباب للقصة الليبية القصيرة (البعد الاجتماعي للقصص).
- الفنتازيا والسخرية في قصة الشباب الليبي القصيرة.
وربما بعيدا عن المبالغة يمكن القول بأن ما يقوم به الأستاذ المالكي لم تقم به مؤسسة مكتملة في ليبيا حتى الآن. فما أنجزه الأستاذ المالكي حتى الآن يعتبر من أهم المراجع البحثية للطلبة الدارسين، بل وربما أعتبره أهمها على الإطلاق لأنه يؤسس لقواعد جديدة، ويطرق أبوبا ربما لم تكن مألوفة في حقول النقد وعلوم السرديات على مستوى الوطن الكبير، وأيضا يعتبر محطة فائقة الأهمية حتى للسائرين في دروب السرد الباحثين عن أسراره الراغبين في خوض معامعه..
قبل خمسة عشر عاما أو يزيد همس لي الناقد العراقي الشهير الدكتور صالح هويدي وهو أستاذ النقد الأدبي بجامعة الشيخ زايد وقتها قائلا إن عبدالحكيم المالكي يقود فتحا كبيرا في عالم النقد الأدبي. كنا نتجالس في مقهى صغير في حارة من حواري الشارقة القديمة ذات أصيل نحتسي القهوة.
أضاف الدكتور صالح وهو يرفع فنجانه إلى فمه وصلعته تلمع في شمس الغروب: حكيم درس الهندسة أليس كذلك؟ لكنه لم ينتظر إجابتي فأكمل: ربما هذا سر عبقريته.
وفي ليلة أخرى التقيت فيها بالناقد السوري الكبير الدكتور سمر روحي الفيصل على هامش ندوة حوارية حول آفاق السرد العربي فأسر لي بأن عبدالحكيم المالكي يتجاوز كثيرا ما يطرح الآن في معامل النقد ونظرياته التقليدية المعروفة، وابتسم قائلا: إن حكيم واسع الاطلاع حقا.
وفي الواقع، لا زلت أذكر جيدا كيف كان الناقد المغربي الكبير الدكتور سعيد يقطين ينصت لأحاديث حكيم باهتمام حين كان في زيارة لمصراته بعد ذلك بسنوات، وكيف كان يولي البروفسور محمد الخبو وهو الناقد التونسي الأشهر لما يطرحه المالكي من رؤى وآاراء نقدية اهتماما خاصا.
لم ينته ذلك العام حتى حصد حكيم جائزة كبيرة في النقد الأدبي هناك عن كتابه آفاق جديدة في الرواية العربية.
ثم ألحقه بإصدار كتابين عن مجلس الثقافة العام بليبيا هما كتاب السرديات والقصة القصيرة الليبية وكتاب استنطاق النص الروائي الذي بذل فيه جهدا إضافيا من حيث اشتغاله على نصوص روائية ليبية لروائيين شباب لم ينالوا الحظ الكافي في المعامل النقدية، وهو موسوعة ضخمة صدرت عن دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة.
ثم جائزة دار نعمان للثقافة والنشر بلبنان سنة 2006، في مجال النقد الأدبي.
ثم أصدر بعد ذلك كتابا عالي القيمة ودراسة موسوعية عميقة ضمت ثلاثة كتب موسّعة تغطي مدونة السرد الليبي في القصة والرواية، وكان هذا الكتاب قد صدر ضمن منشورات جامعة مصراته قبل سنوات. وكتاب جماليات الرواية الليبية من سرديات الخطاب إلى سرديات الحكاية.
ثم كتاب السرديات والسرد الليبي، وهو كتاب عالي القيمة ودراسة موسوعية عميقة ضمت ثلاثة كتب موسّعة تغطي مدونة السرد الليبي في القصة والرواية، وكان هذا الكتاب قد صدر ضمن منشورات جامعة مصراته.
ثم جاء كتابه جماليات الرواية الليبية الذي خرج للنور بعد صدور الموسوعة النقدية الضخمة التي صدرت عن المجموعة العربية للتدريب والنشر، وأخضع فيها الكاتب أكثر من 20 عملا روائيا من 9 دول عربية للنقد والدراسة والتحليل في محاولة للوصول بالنقد العربي إلى نظرية موحدة تجمع بين علوم السرديات وعلوم السيميائات..
أبحاث المالكي وكتبه ودراساته الطويلة والقصيرة التي تناولت أكثر من مائة كاتب وكاتبة من شتى أقطار الوطن الكبير خلال سنوات كدحه الطويلة يعرف من اطلع عليها أو على بعضها أنه نزل فيها برؤاه المتفردة إلى أعماق لم تطأها قدم إنسان من قبل، وثرية جدا بكم هائل من الاكتشافات والرؤى الجديدة تكشف بحق قدرة هذا الناقد على سبر الأغوار القصية لفن كتابة السرد وزواياه المعتمة.
ومن عرف المالكي عن قرب لابد أنه عرف أيضا أي إنسان نبيل كريم وأي باحث عظيم هو..