قصة

سيرة ذاتية لموتٍ أنيق

[إلى شهيد الكلمة مفتاح بوزيد بمناسبة إحياء الذكرى السابعة لاستشهاده]

من أعمال التشكيلية شفاء سالم

. . صباح مزروع بشمس أحد أيام مايو، سماء فسيحة تلتقط أنفاس مدينة يخضّها الوجع، ارتشف قهوته الصباحية، دوّن ملاحظات عابرة في مفكرته الشخصية، رؤوس أقلام لافتتاحية العدد القادم من الصحيفة، تأنق كعادته مثل عريس ليوم زفاف، تأبط حقيبته الجلدية، اتجه نحو الباب، التفت نحو زوجته التي تصافحه بعينيها القلقتين، قال لها:

– هل ثمة ما ينقص البيت؟

قالت:

– حاليًا لا أتذكر.

– على أية حال لو تذكرتِ شيئًا اتصلي هاتفيًا.

.. لاحقته ببصرها حتى توارى.

في السيارة تفقد رزم الصحيفة، مسح بنظراته العناوين الرئيسة، تذكر ليلة البارحة واللقاء التلفزيوني، وَمَا وصل إليه من تهديد عبر هاتفه، استرجع عباراته التي قالها لمحاوره الإذاعي: سأُقتل كما قُتِل عبد السلام المسماري، وسيذهب دمي هباءً كما ذهبت دماء ضباط الجيش. تمتم:

– إنما الأعمار بيد الله.

ابتسم وهو يقود سيارته على امتداد شارع جمال عبد الناصر، أو الاستقلال الذي لم يثبت على اسم بعد، كل الأشياء تترنح في هذا الوطن، من اسماء الشوارع إلى السياسيين، إلى طلّاب السلطة، والثراء، وجه الإرهاب وحده الواقف على قدميه، ركن السيارة جانبًا، سجّل في مفكرته ما دار في ذهنه من أفكار، سيضمّنها الافتتاحية، وصل قرب المكتبة، فرز رزم الصحيفة التي سيسلمها.

. . قبل أن يخرج من السيارة باغته وابل مفاجئ من الرصاص، تناثرت دماء غزيرة، مال برقبته إلى رزم الصحيفة، بقع حمراء على الورق، اختلطت بشعر رأسه، وبالعناوين، والأحرف، أغمض عينيه من دون أن يرى وجه قاتله، شعر بآلام تهاجم جسده كله، ثم خدر بطيء في أطرافه يرحل به نحو غيبوبة تراءى له خلالها كأن طائرًا يشبه الفينيق ينهض من الرماد، يحلق عاليًا وسط سماء المدينة رغم الضباب.

. . على بعد مسافة تمتد بين الحياة، والموت كانت زوجته تتصل للاطمئنان عليه، ولتذكره بتوخي الحذر، والعودة مبكرًا، وأن يشتري خبزًا، وقنينة ماء، وبعضًا من فاكهة الموسم. ظل هاتفه يرن وهو غائب في سِنة من نوم، ترتسم على شفتيه ابتسامة أمير متأنق باللحظة تحت سماء رحبة، وشمس ازداد قرصها احتراقًا.

مقالات ذات علاقة

الرغيف الفارغ

عزة المقهور

غَنِيمَة

غالية الذرعاني

المعطف الأبيض

عزة المقهور

اترك تعليق