الإنسان لا يموت .. حتى الإنسان الصغير لا يموت.. ففي أعماقه تولد الشمس
فطومة
وكانت الشمس تزرع نفسها من فوق البيوت، وتنزل إلى منتصف النوافذ وتأخذ أشعتها لون الغبار، والنساء الصغيرات القميئات ينشرن الفراريش والحوالي، ويستقبلن النهار .. وكانت “فطومة” لا تكره النهار، فمنذ أن رجع الأستاذ فتحي من القاهرة وقلبها يخفق للصباح.. وتنشط شرايينها وتخف حركتها ويزداد ترددها على النافذة ذات الشباك وعين الزرزور، تحاول أن تراه.. وكانت دائما تراه من فوق.. وتعجب في نفسها لفرقة شعره، والخط الأبيض البارز الذي يقسم شعره إلى قسمين ورأسه المستطيلة وحاجز نظارة سوداء فوق عينيه .. ولكنها لم تكن لتستطيع أن تتصور شكله العام وهو يبدو لها كما يبدو الناس وجها لوجه! حتى إذا غاب في انحناءة الشارع، وأختفت فرقة شعره نزل على قلبها ظل خافت للصباح، وأحست طيلة اليوم بشوق إلى الشمس وهي تنزل من فوق البيوت وتزرع نفسها على النوافذ، والغبار يلون أشعتها بما يشبه الضباب.
في ذلك الصباح خرج الأستاذ “فتحی” مبکراً من منزله وكانت فرقة شعره غير واضحة وجزؤه الكبير يتدلى على عينيه ويحجب بظله جبهته المستطيلة الواضحة.
كان في مشيته ما يشبه القلق، وعندما رأته “فطومة”، يدور برأسه في منعطف الطريق عند الشارع الكبير أحست أن هناك ظلاً قائماً لشخص يتبعه.. وأن الأستاذ فتحي، لم يلق لها بنظرة الصباح، ولكن قبل أن يختفي في انحناءة الشارع ألقي بنظرة قاسية سريعة على الظل القاتم الذي يتبعه.. ثم بلعه الشارع الكبير.
وبحركة سريعة شاهدت “فطومة” الرجل الذي ينبع الأستاذ “فتحي” كان مفلطح الرأس.. يخفي شعر رأسه بطاقية حمراء فاقعة و ملامحه غير واضحة ولكن خطواته على الرغم من اتساعها كانت كسولة شبه منتظمة يغلب عليها طابع التسلل المزري !!!
غمامة قاتمة على وجه “فطومة” وهي تلصق وجهها الأسمر بالشباك، والظل القاتم لوجهها من خلف النافذة تتسرب إليه إضاءة خفيفة والشمس تنزل في كسل حاجز الشباك ليستقبلها الرصيف.
فتحي
كان الرصيف قاسياً أمام مكتبة الأستاذ.. و “منصور” يحس أن الشمس تزرع النقود وأن الأستاذ لم يخرج لهم الجرائد كعادته كل صباح..
– يا ولله نهار مزمر.. نصف النهار كمل!
– الجرائد قاعدة في الرقابة !
– باهي .. وبعدين!
ويتسلل “منصور” إلى داخل المكتبة بيحاول أن يفهم شيئا، ولكن نظرة واحدة من الأستاذ تغنيه عن السؤال .. فالمدينة نفسها في ذلك الصباح تتسع أكثر من أي يوم … الناس في الشوارع تشع على وجوهها حوادث بعيدة ولكنها أقرب إليه من حكايات الشاي أو أفلام الموسم.. الناس جميعا يهمسون ويحكون الحوادث التي يعيشها الناس في العراق.. ومنصور! منصور نفسه تأكله أحاديث الأستاذ “فتحي”، في أول الليل من نهار الأمس.. قال له فتحي وهما يجلسان فوق حاجز الكورنيش أول الليل ولفافة محترقة يشق دخان الهواء..
– نسيت يامنصور
ولكن منصور لا ينسى بسهولة. فقد كان دائما يذكر أنه كان يجلس وفتحي تحت “البالو الكبير”، وضوء “اللمبة” فوق رأسيهما.. وكانا يلعبان الورق.. وهو يذكر أنهما شربا مرة أو اثنتين.. وأنها ذهبا أكثر من مرة “للبنات”
– إيه شوق ما عملنا يا أستاذ!
– خليها فتحي
ويحس منصور أن مسافة طويلة قد انطوت.. وأن فتحي يقترب منه مثل أيام زمان .. وأن تراب المحلة وضوء لمبة “البالو” الكبير يلون حياتهما معا.. ويجمعها إلى الأبد
وكان حديثها ذلك المساء ككل الناس.. الناس في المدينة وفي وجوههم إشراقة خفية من الشمس.. والجرائد تمنعها الرقابة عن الناس!!
– ما فيش جرايد اليوم .. اللي يبي يبيع، فيه”الكورييري”!
وابتسم منصور والأستاذ يلقي بجملته المميتة.. فقد كان يحس أنه يفقد الكثير ذلك الصباح .. وهو يجول الشوارع ورجلاه يأكلها التعب ولا بيع إلا نسخة قليلة من “الكورييري”! وأن فتحي قال له أول المساء:
– لازم يمنعوا الجرايد!
وابتسم له منصور وقلبه يخفق غير مصدق هذا الكلام :
– علاش ؟!
– باش الناس ما تعرفش!
وكان كلامه هادئاً ساذجاً لطيفاً يدخل القلب .. تماما كما كان يجلس تحت ” البالو”يدفع “الفوز”، ويضع القروش الواحد فوق الأخر، وصوته الرقيق يلون ضوء “البالو” بما يشبه الطيف!
ليلتها قال فتحي المنصور كلاماً كثيراً.. كانت كلماته تتجمع كلمة كلمة يدفعها في خفوت .. كان دائما ينظر إلى يمينه وإلى يساره .. وعلى البعد ربما لاحظ منصور أن هناك ظلالا لأناس واقفين.. ظلالا قائمة عندما تتحرك كانت خطواتها تبدو كسولة ولكنها شبه منتظمة يغلب عليها طابع التسلل المزري ..
– غير منين نعيش يا ناس؟!
وكان عمار بدفع كلماته وهو يحاول أن يحتج على “الأستاذ” فيرد عليه الأخر وهو يهز كتفيه في حركة لا مبالية يدفع بها عن كاهله حياة عار وغيره . .
– قدامك البرط با خوي !
وتنزل كلمة البرط على كتفي منصور کثقل الحديد.. فهو يعرفه!
بالأمس آخر الليل ذهب مع الأستاذ فتحي للبنات وكانت كلماته الصغيرة تنساب إلى قلب منصور وهو يجذبه إليه في صداقة لذيذة
– الناس لازم تعرف یا منصور .
وكان منصور بجس بكلياته عميقة على الرغم من بساطتها .. وكان يشعر أن “فتحي” يعهد إليه “بالناس”.. هذه الكلمة البسيطة كان منصور يحس أنه يحملهم جميعا أمانة في عنقه .. وأنه للحظة ينسى أنه صغير. . وأن خاطره ربما اتسع لأكثر من “جوليا”… وأن رأسه الصغير ربما احتمل مشاكل أخرى أكبر من قصتها آخر الليل وهي تقفل الشباك خلف زائر غريب! |
وليلتها أغرق منصور نفسه في حضن “سالمة”، وكانت عيناه وهو ملقى فوق السرير إلى جوارها تجمعان خيوط حديث فتحی شعاعا أثر شعاع.. ويحس بكل شعاع يحمل إليه إنسانا من محلته.. “الحاج”.. “وعلي الفحام” و “مبارك” و”خليفة” وعيون أصدقائه الصغار يذيبهم الصباح وشوارع المدينة تفتح أحشاءها لاستقبالهم كل صباح.. وكان يحس أنهم جميعا يجب أن يعرفوا، أن يحسوا مثله بحديث “فتحي»” كلمة كلمة وكأنه يصنعها من خيوط الشمس!! |
وتلمع الشمس فوق عيني علي وتنعكس نظرة حادة فوقها وهو ينظر في مرارة إلى الأستاذ الذي يكتب الحساب في دفاتره ..
– يا ناس الدوا كيف نذیر له؟
وتتجمع في قلبه خيوط ألم “العزوز”، والموت يخط الشوارع ويده المعروقة کابوس ثقيل فوق الجرائد يمنعها من الصدور..
– غير علاش؟!
إنه لا يستطيع أن يرى الأشياء بوضوح.
ويحس منصور أن الجرائد لیست موردا للرزق فقط.. وتنساب في أعماقه اللحظات المشرقة، وفتحي بضع يده في يده في قوة ويبتسم له آخر الليل وهو يصر في عناد:
– الناس يا خوي لازم تعرف..
فيرد منصور ويده تنقل حدیث فتحي إلى قلبه
– کیف یا فتوحة؟!
وعندما غمرهما الظلام ذلك المساء .. كان ظل معتم يسيطر على آخر الزقاق، خطوطه شبه منتظمة، ملقى بکسل ورأسه تتحرك في تسلل عجيب !!
عمار
كان عمار أكثر الصغار حركة.. نظر بصمت إلى أكوام “الكورييري”، المكدسة داخل الدكان، ونظر مرة أخرى إلى الشارع الذي يعمر بالناس، وأحس هم ينسابون من يديه كقطرات الماء .. ولم يكن ليستطيع أن يكظم غيظه .. و الألم المر الذي يقطر داخل لعابه يصبغه بالسواد
– أولاد الكلب .. حتى الجرايد؟!
ثم استدرك والأستاذ يقلبه من وراء جفونه المنهمكة في الحساب
– يزينا يا فرخ الحرام !
وأحس لأول مرة بوقع كلماته في صدره.. أحس بها كنصل حاد ساخن يقطر دما في قلبها
– حتى الجرايد؟
وظلت عيناه تنتقلان بين الصغار .. نظرتان کسيرتان تغشاهما ببطء نظرة حادة مسمرة .. والشارع يشرق في عينيه والناس تنتظر الأخبار..
– كله على الثورة؟.. ما هو الناس عارفة؟
ويرفع الأستاذ مرة أخرى حاجبيه :
– ما هو تكفني دعوتك!
وعمار..
قلبه يقطر مرارة وعيناه لا تهدأن بين الشارع الواسع العريض وأكد اس الجرائد في مكان ما يمنعها الظلام من الخروج.. – -خايف على الخبيزة يا بي؟
ومن بين ضحكات الصغار كانت ابتسامة صفراء لها ظل قاتم تتسرب في تسلل عبر جو المكتبة وتدور في ضبابية. وتنهمر دمعة حزينة فوق خد على وهو هز رأسه في حركة رتيبة يمينا ويسارا، وكحة بعيدة ترن في أذنه کخشخة
-هذا وقته.. غير اعطيني حق الدوا..
ونظرة عمار تزداد احمراراً ويده يهرش بها قفاه في ألم ويحس لوقعها مرارة عجيبة وهو يتصور أنه يفقد الناس .. الخيط الصغير الذي يربطه بهم يقطعه السواد. فقد كان عمار يحس وهو يقدم الجرائد للناس أنه يرتبط بهم .. وجوههم جميعا تمت إليه، وانفعالات عيونهم وهم يلتقطون الخبر من الصفحة الأولى أصبحت جزءا كبيرا من حياته .. كان يحس ذلك اليوم أن جزءا كبيرا من حياته قد خنق.. وأن يدأ ضخمة سوداء تمسك خناقة وتحاول أن تقتله
-الجوف.. یا خوي يقطع الجوف!.
عمار شدوه
وبينما كان الأستاذ يقفل کراسة الحساب في غضب كان الظل الباهت للابتسامة يستقر في جبهة عمار وتمتد يده لتمسك به من ذراعه، وينسكب ظله القاتم المنتظم فوق جسمه النحيل الصغير، وتتحرك رجلاه في كسل وتسلل وهو يدفع عمار:
۔- معاي للمركز !!
وتتوالى الكلمات من عمار جريئة مضيئة كالنهار :
– وعلاش.. خانب وإلا قاتل؟
والصغار ينظرون إليها في وجل، النظرة الوحيدة التي يملكها عمار لم تنطفىء.. كان يدفع قدميه أمام «البوليس، والشارع الرحب ينفتح أمامه وعيون الصغار جميع متعلقة به، وصورته تملأ الشارع وتضيق كلما بعد بها الطريق .. وصمت ثقيل يمسك ألسنتهم جميعا عن الكلام .. وجملة وحيدة کجرس ضخم ترن في قلوبهم:
– عمار شدوه !!
حتى تسقط بينهم كلمة الأستاذ كالحية الميتة :
– اشكون يي کورييري؟..
فتنتقل إليه عيونهم جميعا.. وتهتز صورته مشوهة مع اهتزاز صورة عمار الرائعة ، عمار اللي شدوه..ويحسون جميعا بنفور منه.. بأن الناس لا تبحث عن “الكورييري”، وأن عمار لیس سارقاً وليس قاتلاً.. وأنه قد راح!
إلا منصور فقد أحس بارتياح لموقف عمار.. كان الألم الذي صبه عمار جزءاً من شعور ضخم بأن الناس يجب أن تعرف الأخبار.. أولها أن عمار شدوه .. وأن الجرائد لن تصدر اليوم .. وأن هناك خبراً كبيراً يحتجزه الظلام.
وارتسمت أمام عينيه صورة فتحي بوجهه الدقيق وجبهته العريضة وكلماته اللطيفة الصغيرة التي تدخل القلب.
وكان ذلك قبل أن يودعه تحية المساء. فقد أخرج له فتحي ورقة من يده مكتوب عليها كلام كثير.. وعندما كان فتحي يقرأها له كان منصوريحس أن المعرفة شيء كبير، وأن الحروف تضيء على شفتي فتحي وهو يخرجها له في خفوت وراء حائط الكنيسة تحت “البالو الكبير” حيث كانوا يلعبون، الفوز.. ويندهش منصور ويحس بأن ما في الورق عمل كبير..
ويحس بفتحي يجذبه إلى أعماق الكلمات ويحولها له إلى رؤى عجيبة تفرش نفسها فوق شوارع “المحلة”، وتظلل الناس.. جميع الناس ..
– لكن يا منصور.
ويصغي إليه بقلب يأكله الخوف..
حتى عمار اللي شدوه لا بد أن يعرف به الناس .. وأن عمار لیس سارقاً ولا قاتلاً.. ولكنه كان يبحث عن جرائد الصباح.. عن الخيط الذي يربطه بالناس خاصة عندما يعم المدينة ضوء مشرق تظلله أشعة الشمس!
كانت الشمس قد انتصفت الرصيف عندما انسحب الجميع من أمام مكتبة الأستاذ.. وكانوا جميعا يدفعون أمامهم ظل عمار وهو يهز عينيه في وجه البوليس المظلم.. ويحسون به يرجع لهم .. يخط الشوراع بكلماته الطيبة، وينحني في الطريق، يعاكس بها النساء.. ويثير “الحاج” في القهوة في مطلع كل صباح!
منصور
كان على أكثرهم أشمئزازاً من الحالة.. وخط ثقيل كشبح الموت يظلل نور عينه يدفعه إلى البكاء.. وتنكمش يده وهو يشد بها يد منصور وينقل إليه عينيه وهو يتساءل في طيبة مرة
– زعمة تموت يامنصور؟!
ويخيل لمنصور أن خالتي صالحة امرأة ككل النساء يجب أن تعيش ..
وأن الشارع المضيء لا يمكن أن يموت ما دام يعمر بالناس، وأن دواء الناس جميعاً الكلمات الصغيرة الحية التي يقرأها فتحي في آخر الليل .. وعندما وصلوا جميعا إلى الميدان، كانت الشمس تتوسطه وكأنها تفرشه بالناس، وكان الناس يملأون الميدان ويشدون على أيدي بعضهم وهم يقولون :
-مبروك!…
حتى منصور وعلي.. والجميع، كانوا يقولون لهم “مبروك” وتظل الكلمة تتردد بين الأفواه وصورة عمار بحجزها ظل البوليس.. وفي المدينة ذلك الصباح تیار خفي يحركها عبر الشوارع ويعبر بها الميادين.. وينقلها إلى الأزقة .. وينقل الأخبار
حتى عند ارتفاعة المحلة كان الصغار يعودون يحكون عن عمار اللي شدوه . حتى أمام قهوة الحاج وقد أغلقت إحدى فردات الباب وغطت عينيها الأوساخ
حتي فوق البنك والناس تشرب المبردات.. والحاج يهز شاربه بيده.. كان”عمار”.. والأخبار رائحة حارة في الجو..
– إيه يا سيدي .
ويحجب الصمت الكلمات .. وتتناقل الأعين صورة عمار .
– فرخ الحرام. وشن دخله؟!
ويرمن منصور الحاج بنظرة عجلى ويرى أنه لا يعني ما يقول..
– توا كيف طلب مني عشرة قروش؟
ثم يبتسم الحاج.. وهو يضع يده في البنك يشد بعض ورقات النقد.
– خود با منصور أرفعله بيهم دخان ..
ثم يستدير وهو يفتل جزءا من شاربه ويبلله برياقته..
– الأستاذ فتحي كان يدور عليك..
وتنزل كلمة “الأستاذ فتحي”، كالنار في قلب منصور.. كان يحس تلك اللحظات أن فتحي يعرف الكثير.. وأنهم جميعا يحتاجون إليه.. وأنه ربما صنع لهم الكثير عندما تركوا المقهى ، لم يلق منصور نظرة واحدة على عتبة البيت ذي الأدراج ببا به الأخضر ونوافذه الزرقاء المقفلة.. لم يكن بيده نسخة من “الكورييري”.. وكان ظل «”جولیا” بعيداً يظلله الليل.. بل كانت يده تمتد في غفلة عن الحاج تدفع النقود إلى علي وابتسامة عمار تشده إلى أعماق الصغير
– هاك يا خوي جيب الدوا لخالتي صالحة
ثم يستدرك :
– وقوللها إنشاء الله لا بأس
وكسل النهار بشق المحلة نصفين.. ورجلا منصور تقودانه في إصرار عبر الشوارع الضيقة والأزفة تبحث عن “الأستاذ فتحي”.. سي عبد المجيد يدق باب دكانه بطرف المفتاح يتأكد من أنه قد انقفل.. ورجلاه تقودانه في ضجر ممل إلى الراديو حيث الأخبار.. ورتابة المفاتيح تتابع خطواته في موسیقی كسولة خاملة، وفطومة ترخي ضفيرتها فوق حاجز الشباك ظلا طويلاً اسمر حزيناً محرکه ضوء الشمس وهو ينحدر في اتجاه البحر.