خرجت بتؤدة، تدب على ساقيها الضعيفتين… حافية القدمين تغرسهما في الرمل، تدور بعينيها تبحث عنه بين الزرع…كان الفصل ربيعيا.. تتناثر ورود “البقرعون” الحمراء ذات القالب الأسود الذي يتوج سيقان ضعيفة ذات أشواك خفيفة.. الورد الأصفر يعم المكان لا ينبت إلا جماعات.. والبنفسجي ذو الأشواك… والقطن الأبيض المتطاير من سيقان تشبه سيقانها وبياض قلبها .. بين كل هذا الزرع الربيعي تبحث عنه.. ما أن ترى تلك العشبة الخضراء بأعوادها الفوضوية، وزهورها الصفراء الصغيرة، حتى تمد يديها المعروقة الخشنة وتقطفها.. تنحني لها في كل مرة، تقبض على عرفها الاوسط وتجذبه نحوها فينصاع إليها… تكرر انحناءاتها والتقاطاتها حتى تجمع باقة منها.. تعود بقدمين مغبرتين بالرمل، تتجه نحو المطبخ وتضع باقتها على الرخامة..
لا أتذكر في سانية الساحل إلا خالتي حليمة وهي تجمع “ربطات” العسلوز..كانت سانيتها فسيحة غنية بكل أنواع الفاكهة تتدلى منها عناقيد العنب الابيض والاحمر، كريات الرمان وكأن لونها الأحمر يحتقن داخلها، ما أن تشقها الى نصفين حتى ينسكب عصيرها الأحمر، و”الكرموس” الذي يقطر عسلا على جلدته السوداء أو الخضراء، تضغط عليه بحنو وتناولني نصفه وقد برزت منه أشكال حمراء وتلتهم النصف الآخر..
“تعالي غدوة تغدي معانا عسلوز…”
أنتظر الغد بفارغ الصبر وأعلم أنه آت، لذا يغمرني الفرح بانبعاث نور الصباح.. أهرع الى سانيتها.. تستقبلني رائحة الثوم وأرى البخار يتصاعد من “طنجرة” الكسكسي.. يحتضن المقفول الكسكاس ويربط بينهما حبل من القماش المبلل.. الجو حار في المطبخ وخالتي حليمة تدور في وسطه وهي ترتدي ردائها القطني وتضع خفها البلاستيكي…
“خشي تعالي… قريب يطيب”
تهرس قطع الجزر المسلوق ثم تصب عليه الصلصة الحمراء التي يسبح فيها الثوم المهروس والليمون والتوابل، وتخلطه بعد ذلك بحبيبات الكسكسي وقطع نبات العسلوز المطهية على البخار، والذي جمعته بنفسها..تبتعد عن ” المعجنة” وهي تنظر اليها بعينين لامعتين…
“خلي يشرب الكسكسي المرقة”..
أقف على رؤوس أصابعي، تنفذ إلى أنفي الرائحة، وبالكاد أرى تلك الألوان التي يغلب عليها البرتقالي الممزوج بقطع خضراء ذابلة..
تفرش للغذاء.. أجلس الى جوارها على ركبتي وأغطيهما بالمفرش.. اتناول الكسكسي بالعسلوز بنهم واستطعام.. حموضته العذبة والثوم النيء فيه يعطيه نكهة خاصة.
إنه أول طبق نباتي أتذوقه…
تنهض بخفة، تلم “السفرة” وتتجه إلى السانية مجددا…
“هيا نلموا العوينة”.. اتناول البرقوق الاحمر والابيض والسانتا روزا من الشجرة الى فمي مباشرة… وخالتي حليمة تقهقه وهي تمسح لي فمي براحة يدها من عصير البرقوق السائل نتيجة لقضمي له..
لا أتذكر إنني رأيت رجلا ببيتها ولا أبناء.. هي وسانيتها وأشجارها المعطاءة.. هي وأنا وطبق العسلوز الشهي.. يجمع بين أجيال .. بين المدينة وأطرافها.. بين نساء تعشق دفن أقدامها في الرمال وعلى ظهر يدها الخشنة وشم أخضر يلفت النظر.. وبين يد ناعمة لم تلمس إلا اصابع البيانو وتقبض على الاقلام.. بيننا نبتة برية بسيقان خضراء متشعبة تنمو في أرضنا دونما استئذان…قوتها في خليطها، في إمتلائها وتنوعها وألوانها..في حرارتها و حموضتها.
مايو 2015