طيوب عربية

نيران الطرابلسي: أطلقت العالم على اتساع دهشتي

الطيوب | حاورها: مهنّد سليمان

الشاعرة التونسية نيران الطرابلسي
الشاعرة التونسية نيران الطرابلسي

الصدمة مفتاح يستهدف زلزلة الجمود لتحقيق شروط اليقظة والحركة، ومجتمعاتنا تمر منذ قرون بواقع حضاري جامد أكسبها مشقة الركض نحو الوراء، مما يحذو بالكثيرين لتبني الصدمة والدفع بالصدام قدما كحل جذري يجعل المجتمع ينصهر في بوتقته تدريجيا، وضيفتنا اليوم هي أحد القلائل اللذين قرروا معالجة أشكال الكلس والجمود في المجتمع الشرقي بالكلمة الصادقة وبلغة حية تفضح القبح المستور، نيران الطرابلسي صوت تونسي صادح قررت مواجهة العالم والدخول معه في معركة مفتوحة، فعبر باكورة إصداراتها الأدبية (نمفومانيا) تفك الحزام عن خناق حنجرتها وتصرخ وسط شارع مكتظ يتعامى عن عُريه، نيران صاحبة الـ28 ربيعا تكتب كلماتها كما ينقش النحات على الحجر، ولدت في ضاحية أريانة بتونس صدرت لها عام 2018م مجموعتها القصصية الأولى(نمفومانيا) وقد نالت المجموعة جائزة المخطوط في الملتقى الوطني للأقلام الواعدة بالإضافة لتأسيسها رفقة كوكبة من الشباب التونسي المثقف تظاهرة حملت عنوان فنتازيا الثقافية، وحظيت أيضا بعدة تكريمات مختلفة.

نمفومانيا عنوان صادم لمجموعة قصصية صدرت لك عام 2019م، هل نفهم أنك بهذا العمل أصررت على مواجهة العالم بحقيقته؟

الإهداء في المجموعة القصصيّة كان موجّها إلى أبي أولا لأنه أوّل رجل في حياتي وإلى الآباء عامّة لأنهم يلخّصون كل الرّجال الذين لن ألتقي بهم..

كنت أريده أن يكون صادما لجنس الرجال قبل جنس النساء.. أردت أن أنبش في المسكوت عنه، وأحرّر النساء من الصمت المطبق الذي تربينا عليه…

لقد عزمت منذ أوّل نصّ كتبته وأنا طفلة في الرابعة عشر على مواجهة العالم بأفعاله….

– الموضوعات التي ترصدينها غالبا ما تأخذ شكلا يميل للأدب الأيروسي ما هي رسالتك ككاتبة آثرت تبني هذا النوع من الأدب؟

لم يسبق لي أن صنّفت نصوصي لكن إذ كان يعتقد القرّاء أو النقاد أن نصي ينتمي إلى الأدب الأيروسي فلا بأس بذلك..

فالإيروسيّة لطالما كانت حاضرة في الأدب العربي الذي تناولها بجرأة فاحشة: نجدها في العصر الجاهلي في قصائد امرؤ القيس..

في العصر العباسي في قصائد أبو نواس وفي كتاب ” العقد الفريد” للأصفهاني، وغيرهم من الشعراء والكتّاب العرب: النّفزاوي، التّيفاشيّ، التّيجانيّ…الذيّن تعمّقوا في النص الأيروسي وأبدعوا فيه.

الأيروسيّة في عمقها ثقافة مناهضة للشموليّة وللسلطات الدينيّة، والاجتماعية والسياسيّة وحتي الاقتصادية، باعتبارها نوعا من الفنتازيا الفنّيّة وليس بالنظر إليها عبر زاويّة ضيّقة كوظيفة فسيولوجية يتساوى فيها الإنسان مع بقيّة الكائنات، إن الخيال بكلّ تجلّياته هو سلاحنا شبه الوحيد في وجه الجمود، هو الذي يحوّل ميكانيكيّة الجنس إلى إروسيّة..وحين وظفتها  في بعض النصوص في “نمفومانيا” لم تكن لغاية جنسيّة، بل كان الجنس وسيلة عبرت من خلالها إلى ما أعمق من  ذلك، فنصوصي تحمل الكثير من القضايا النسويّة التي تتمثل في المساواة الفعليّة بين الرجل والمرأة، تدعو المرأة لتحرّر من السلطة الذكوريّة التي تمثلها العائلة أولا والمجتمع ثانيا، تدعو الآباء إلى إعادة النظر في طريقة تربيتهم لأطفالهم، طرحت بعض الصعاب التي تواجهها المرأة في علاقتها مع الرجل  إذ كان أبا او أخا أو زوجا أو حبيبا، وفي علاقتها مع جسدها، وللعادات البالية التي يجب أن نتخلّص منها اليوم.. تحدثت عن تجارب مختلفة لنساء.. كان صوت المرأة واضحا وصريحا وهيا تدافع عن أفكارها ومعتقداتها، كانت عارية جسديّا وفكريّا أمام القارئ وإن كانت هناك رسالة أريد أن أوجهها للعالم فهي “إن الحب ينقضي ويبقى الاختلاف”

طالع: ذيل فسالتي الطويل | نيران الطرابلسي

-الجنس الأداة المُحرّكة لتفاصيل نصوصك القصصية، برأيك لماذا تظل قضية الجنس عربيا في دائرة الابتذال؟

كما سبق أن أشرت الكثير من الكتّاب كتب عن الجنس في تاريخ العرب لكن يبقى الجدل واضحا بين من يعتقد أن التحدث عن الجنس ووصف حيثياته بدقة ابتذالا لأنّ الكاتب يشترك في تجربته مع القارئ..

وهناك من يعتقد أنّ توظيف الجنس في النص او في أي عمل مسرحي أو سينمائي أمر بديّهي يعطي للفن حياة ويجعله أقرب للواقع..

أعتقد أن الجنس ليس ابتذالا، الجنس هو محرّك الإنسانية ودليل على استمرارية الحياة، كما أنه يوجد أكثر من نوع جندري أي من هويّة جنسية ومن هويّة جنسيّة اجتماعية في العالم العربي لكننا لم نعترف بها بعد كما يجب.. ولم نكتب عنها كما يجب رغم أنها مهمّة جدّا.. الكتابة عن الجنس هي كتابة ناقصة عن الدوام، وذلك منبع الجمال فيها، كلّ واحد منّا يراها من زاويته، من منّا لم يطلّع على تاريخ الجنس ابتداء بالكاماسوترا.. الإيروسيّة أو البرنوغرافيا هي نزع الحيوانيّة عن الفعل الجنسي كما يقول “مارغو بارغاس” وتحويله إلى عمل فنّي يجتمع فيه الخيال والحساسيّة والفنتازيا والثقافة…

– هل لابد أن يضع الكاتب مسافة واضحة بين وجهة نظره الخاصة وبين أفكار شخصياته؟

لنتفق أولا أن الكاتب هو الخالق، خالق شخصياته وأفكار الشخصيات ليست سوى أفكار الكاتب مهما كان التناقض فيها واضحا، ليس هناك أي قاعدة للكتابة تفرض وضع مسافة بين أفكار الكاتب وأفكار شخصيّاته.. أظنّ أن لكلّ عمل أدبي خصوصيته وأدواته، في نمفومانيا تحدثت باسم أكثر من شخصيّة، كان لكلّ شخصيّة أفكار متناقضة عن الأخرى رغم ارتباطهم ببعضهم جنسيّا في مخيّلة القارء.

المجموعة القصصية (نمفومانيا) لنيران الطرابلسي
ديوان (نمفومانيا) للشاعرة التونسية نيران الطرابلسي

-ثمة من يقول بأن شخوص العمل القصصي أو الروائي تقودها حتمية الأحداث؟

يحدث أن تتمرّد الشخصيات عن الطريق الذي أريدها أن تسير فيه، ولم يسبق لي أن قمعتها، أنا مع أن كلّ شخصيّة هي كائن حيّ ولو على ورق ومن حقها أن تحي بالطريقة التي تراها مناسبة ربما يعود ذلك لإيماني الشديد بالحرّيات وبالاختلاف، وربما لأنها تمتلك وعيا وخيارا في الحياة يخالف الوعي والانتماء الذي قد اختاره لنفسي كإنسانة قبل أن أكون كاتبة..

-لماذا يتبرأ الكتّاب مما يرد من آراء على لسان شخصياته؟

هناك العديد من الأسباب التي قد تجعل الكاتب يتبرأ مما يرد على لسان شخصياته: لعلّ أهمّ هذه الأسباب هو أن الأدب لا يقيّم أخلاقيّا ولا دينيّا ولا سياسيّا فيجب دائما أن نعامله على أنه فن دون أن نلجأ مثلا: “إلى تكفير الكاتب بمجرّد أنه كتب في الأمر”

-اعتبرت نيروز بطلة قصتك أن الجنس وسيلة لاختصار الكثير من المسافات لتحقيق شرط معرفة الذات، هل يكفي عُري الإنسان أمام مرآة الآخر ليبلغ معرفة عمقه؟

“نيروز” كانت نموذجا عن المرأة التي تعاني من “النمفومنياك” الذي له العديد من الأسباب الفسيولوجية والنفسيّة… وقد ساهمت علاقتها مع أبيها وعائلتها في تركيب شخصيتها المعقدة، المرتبكة وغير المتوازنة، وغير المستقرّة… ممّا جعلها في بحث دائم عن الأمان، عن الاكتفاء، عن الاستقرار.. وإن كان الجنس قد أوهمها بهذا الأمان بطريقة أو بأخرى فإنّه جعلها تكتشف ذاتها وتتعرى أمام أفكارها، وتفكّ عقد روحها عقدة عقدة، فلم يعد جسدها يسجنها بقدر ما يحرّرها.

فلا أظنّ أن هناك باب واحد لدخول الآخر ومعرفة ذاتك، فثنائيّة الأنا والآخر موضوع فلسفي قديم الطرح، لم يستقرّ تعريف الأنا والآخر على تعريف واحد منذ نشأته، وإن كانت “نيروز” اختصرت هذه الجدليّة بقولها إن الجنس وسيلة لتحقيق شرط معرفة الذات بما معناه أن الآخر هو نفسه أنت.. الآخر الذي قد يكون نقيضك أو مرآتك، الآخر الذي قد تستعمل عقله لتفكر عوضا عنه والذي قد تستعمل جسده لتغوص في أعماقك..

-نوازع الغضب وانفعالات العاطفة تكاد تسيطر على أبطال شخصيات مجموعة نمفومانيا، هل لجؤكِ للثيمة الأيروتكية كانت مخرجا لإنقاذ أبطالك؟

هناك توتر، غضب، حماس، اكتئاب، صراع نفسي حاد، الكثير من الخوف والحزن في “نمفومانيا”، رغم أن النص في ظاهره يبدو ساخرا، لكنك ما إن تتورّط في عمقه حتى تتحسّس وجع أبطاله وآلامهم، وعدم حياتهم أمام الواقع الذي فرضته سيرورة  الأحداث، والجنس لم يكن مخرجا لإنقاذهنّ، تعمدّت التحدث عنه بحرّيّة مبالغ فيها للانتصار للمرأة بطريقة مباشرة مأكّدة على أنه من حقّها اختيار الحياة الجنسيّة التي تريد أن تحياها دون عقد أو خوف من العائلة أو من المجتمع الذكوريّ العربي الذي مازال يعطي لنفسه الحق في التدخّل في أجساد الآخرين.. وأنه لا يحقّ لأحد سواها التدخل في علاقتها بينها وبين جسدها.

القضايا الجنسيّة للمرأة شغلت العديد من المفكرين والكتّاب والنقاد ولعلّ أبرزهنّ في المجتمع العربي “نوال السعداوي” تناولت القضيّة من جانب فلسفي نفسي عميق، وأنا شخصيّا مدينة لها فقد أنقذت عقلي قبل أن تنقذ جسدي، في مرحلة المراهقة أنقذتني من الانتحار بكتابها ” المرأة والجنس” فقد كنت أعتقد أن جسدي سبب مأساتي وأردت التخلّص منه بأيّ طريقة، ومثلما أنقذني كتاب “نوال” أتمنى أن ينقذ كتابي شخصا ما…

– اللغة البصرية كما الأدبية تحضر في دائرة اهتماماتك ممثلة في التصوير؟

الصورة مثل الكلمة، توثق المشاعر، الأفكار، المبادئ، وأنا أحب أن ألتقطّ الشعر والأنفاس على شكل صور بالأبيض والأسود، أعرف أنه نمط كلاسيكي لكنّه يبرز الجمال الحقيقي للأشياء، وبرغم من أنّي من الأشخاص المحبّين للألوان وللطبيعة وللضوء، والشمس لكنّ الصّور أفضلها بالأبيض والأسود أظنّها أصدق، إذ كان الأدب موقف، فالصورة أيضا موقف واضح وقابل لتأويل في الوقت ذاته، وموقفي كان واضحا مثل نصّي ” الصّور التي لم ألتقطها ستلتقطني يوما ما ” -هل كان ضروريا إلغاء -رحاب- لتتحرر نيران في المقابل؟

حتى إن كان ضروريّا لن ألغيها، فهناك امرأة أخرى في داخلي، امرأة مستبدة جدا، ساديّة، لا يمكن التنبؤ أبدا بما يمكنها فعله، حين ألتقي بها صدفة، أهرب لأنها لن تتردّد ولو لثانية واحدة في قتلي، والأغرب، أني أرغب في قتلها.. إنّها الحرب الأزليّة بين الخير والشرّ، بيني وبين نيران..

الشاعرة التونسية نيران الطرابلسي
الشاعرة التونسية نيران الطرابلسي

– أيشفي حبر اللغة ثورتك لتفجير المزيد من القوالب؟

مازلت أهرب إلى الكتابة أحيانا لأفجّر الغضب الذي أشعر به تجاه العالم، أظنّ أن إجابتي نعم، رغم أنه أحيانا عليك أن تشمّر على ساعديك وأن تقاتل بيديك في سبيل أفكارك ومعتقداتك وحريتك..

– ماذا بعد اللغة لدى نيران الطرابلسي؟

الحب، أملك من الحب ما يكفي لمواجهة العالم بشجاعة، لا أملك سوى أفكاري وقلبي أحارب من أجلهما بكلّ حواسي، لم أعد أريد العدالة أريد بؤسا موزعا بعدالة..

– تبدو اللغة بائسة أمام تعاظم دوّي الصراخ أليس كذلك؟

 مهما حاولت اللّغة التعبير عن آلام الإنسانيّة ومعاناتها من الجوع، الفقر، الحرب، الاغتصاب الفكري والجسدي، العنصريّة، الظلم، القهر، الاضطهاد، ونقلها إلى العالم بطريقة شاعريّة منمقة، أو سرديّة أو تصويريّة فتبقى عاجزة أمام الكمّ الكبير من الوجع ومن الشرّ، لذلك تعود اللّغة إلى أصلها الأول فتخرج مبهمة في شكل أصوات تتعالى هي الصراخ…

كلمة أخيرة..

لقد أطلقت العالم على اتساع دهشتي وها أنا حافية القدمين أمشي فوق جمر الأمكنة، أمضي إلى الأمام، حيث اشتعال الأسئلة، وبنفس الوقت ألوح للآتي، على حلمي فاض الغد، أشرع على الازمنة وأعصر العمر بين المفردات، لتمتدّ الثنايا، وأزرع حبّات قلبي في عناصر اللغة، أتحوّل منّي الى بعضي وفي بعضي أحاول أن أكون أسوأ مما ثبت علي…!

مقالات ذات علاقة

المستحيل

المشرف العام

يافا في الرواية الفلسطينية

المشرف العام

في البرد الأول من تشرين! *

إشبيليا الجبوري (العراق)

اترك تعليق