النقد

(سيرةُ عالية) وفضاءاتُ الهويّة الدرناوية(*)

سيرة عالية، مجموعة الكاتبة محبوبة خليفة
سيرة عالية، مجموعة الكاتبة محبوبة خليفة

(1)

تتعدد وظائف وأغراض ومجالات السرد إجمالاً والقصة القصيرة على وجه الخصوص، وإن ظل الإمتاع هو أساسها جميعاً وأقصى غاياتِها وأنبلُ أهدافها. وفي (سيرةُ عالية وقصصٌ أخرى)(1) جاء العنوان صريحاً مباشراً يحيل القارئ إلى الموضوع الذي تتناوله المجموعة القصصية وهو سردٌ نثري لمشوار حياة وسيرة وحكايات شخصيات هذا العمل الحقيقية الظاهرة أو المتوارية المقنّعة على حد سواء، ولكن رغم هذا الوضوح النسبي فهو يحتفظ ببعض أسراره وخصوصياته، والكثير من التشويق والجاذبية والدعوة للتأمل والتخمين في حقيقة هذه الشخصيات وعلى رأسها (عالية) مثلاً؟ وأثناء أي فترة زمنية عاشت، وأين سجلت سيرتها؟ وغيرها من الأسئلة الأخرى التي تبعث رغبةً وتحفيزاً للكشف عن إجاباتها للحصول على قسطٍ أوفر ومعرفة أبعد.

وتمثل هذه المجموعة القصصية للأديبة محبوبة خليفة محطة ًثانيةً لها في الكتابة السردية بعد إصدارها الأول (كنا … وكانوا.. روايتي) التي سجلت فيها جوانبَ سياسيةٍ واجتماعيةٍ مهمة من سيرتها الذاتية الشخصية، ومعاناتها الخاصة كإنسان يملك رهافةً حسّيةً وملكةً شعرية أولاً، ثم كأنثى تحمل على كاهلها مسؤولية الأمومة والاهتمام بأطفالها أثناء غياب زوجها المتكرر في المنافي المتعددة ثانياً، وكزوجة سياسي ليبي معارض تطارده عناصر التصفية الجسدية ويتصيده الموت الذي يحتضنه، ويصطحبه معه في كل وقت، في جميع خطواته بالداخل والخارج بينما هي تترقب خبره مع كل نفس.

في روايتها (كنا.. وكانوا) كتبت الأستاذة محبوبة خليفة تقول (كنتُ أتساءلُ دائماً: هل فيما عشتُه من عمرٍ ما يستحقُ التدوين؟)، ويبدو أن إجابة ذاك السؤال المستفز للذات الإنسانية المرهفة القلقة، لم تكتمل لدى الكاتبة بإصدارها تلك الرواية، ولم تكن كلُّ حكاياتها التي نشرتها بها شافيةً لرغباتها في البوح والسرد والتوثيق، فسعت في مجموعتها (سيرة عالية وقصص أخرى) أن تجعلها إضافةً تالية في نفس السياق التعبيري، وبمضامين مختلفة حيث اختارت فضاءات متعددة داخل ليبيا وخارجها وشخصياتٍ غيرية أخرى بجانها، وأحداثٍ مختلفة عمَّا تناولته في جنسها الروائي الأول.

وعند استعراض عناوين (سيرة عالية وقصص أخرى) التي بلغ عددها اثنتين وأربعين قصة نكتشف أنها جاءت مكتظة بالكثير من التنوع سواء بأسماء الأعلام والشخصيات أو الأماكن أو اللغة أو التقنية، حيث تكرر اسم عالية في ثمانية عناوين كالتالي: (عالية 1)، (عالية: اشتباك بين المنام واليقظة)، (عالية: ما لي بها لا تتركني في منامي ولا في يقظتي؟)، (عالية: ويا مريم “اللي قلبها مرهون.. انريدوا نباها كلنا”)، (عالية 5)، (عالية 6)، (عالية: الغرِّيفة)، (عالية: ابنة عالية)، وهي بهذه الغزارة الكمية البيّنة استحقت بجدارة أن تكون عتبةً أولى للظهور على واجهة غلاف المجموعة، إضافة إلى كونها تمتلك في ثناياها خاصية تعبيرية تمكنها من تطوير أحداثها، وتوسيع نفَسِها السردي وزيادته حتى تتخلق روايةً مستقلة، وهي جديرةٌ بالانتماء إليها موضوعياً وفنياً. كما تكررت بالمجموعة عناوين أخرى مثل (التكرة “الدنقة”) مرتين، و(حكاياتٌ من سِفر الاغتراب) مرتين بعنوانين فرعيين هما “أم تكليف” و”د. عطور”، و(سيرة ضحكة “لابلاكا ., ذات صيف) تكررت ثلاث مرات.

أما شخصيات المجموعة فبالإضافة إلى شخصية (عالية) المحورية في مستهل نصوصها فقد برزت أسماء وأعلام عديدة أخرى من أهمها (يامنة) والدة (عالية) و(مريم) و(سي عوض المسلماني) و(هنية) و(فاطمة) وكذلك الإشارة العابرة للعراقيتين (أم تكليف) التي يمازحها الأطفال بأم تكييف، و(د. عطور)، وأيضاً (أم سليمان) التي استحضرتها الكاتبة من أغنية المطربة العربية فيروز (تك تك يا أم سليمان.. تك تك جوزك وين كان)، وغيرهم.

وبالإضافة إلى ذلك فقد سكنت بعض الأسماء والعبارات الأجنبية العتبات الأولى ومتون القصص مثل رئيس الوزراء البريطاني (تشرشل) وسفينة الحجاج (ماريانا لاتسي) وشارع (لورينزو المانيفيكو) في إيطاليا، إضافة إلى (السوريلات) الايطاليات واليوناني (الرقريقي)، وأيضاً جاءت عناوين إحدى القصص مكتوبة بحروف لغة أجنبية وهو Un pezzo di carta وترجمتها “إنها مجرد ورقة”، وعنوان أخر يحمل جزءاً من بيت شعر قديم (من ذكرى حبيبٍ ومنزل) وهو شطر يتصدر معلقة أمرئ القيس (قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ …. بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ وحَوْمَلِ)، كما تضمنت عناوين ومتون المجموعة تسجيلاً وتوثيقاً لبعض الأحداث المهمة في الحياة السياسية والاجتماعية في ليبيا مثل السابع من أبريل 1976م، وفيضان وادي درنة سنة 1959م وقصة دبابات القائد الالماني “رومل” في درنة خلال شتاء 1941م، وإرسال الليبيين للقتال في الحبشة أثناء الاحتلال الايطالي وغيرها.

أما المدن والأماكن فقد تنوعت جغرافياً وتعددت كثيراً وتكرر بعضها حسب سياق السرد، وقد ظهرت أولها العاصمة العراقية بغداد التي عاشت فيها الكاتبة سنواتٍ خلال تغربها عن أرض الوطن ومطاردة زوجها المعارض السياسي، ليتوالى بعدها ظهور درنة، وضفاف نهر التيفري في روما، والعاصمة اليونانية “أثينا”، وقوس “ماربل آرش” و”ادجور رود” بلندن، و”شارع السيدي” بطرابلس حيث معهد التمريض، ثم مجدداً مدينة درنة وقراها وضواحيها ومعالمها مثل ساقية درنة، و”وادي بنت”، و”سيدي بومنصور”” وشارع الكوي”، وبعدها “توكرة” و”عقبة الباكور” وحتى “الغريفة” بالجنوب الليبي وغيرها.

وحضور كل هذه الفضاءات المكانية المتعددة والمتنوعة هنا ينسجم مع استنتاج الأديب عمر الككلي في كتابه (تحرشاتُ المبدع) وقراءاته الممتعة للسرديات في ليبيا حين يقول (إنَّ مسرح أحداث القصص التي كُتبت منذ البداية وحتى نهاية السبعينيات كان المدينة أساساَ، في حين أصبحت عوالم القرية تأخذ موضعاً واضحاً إلى جانب المدينة في القصة التي تكتب حالياً.)(2) هو ما نرصده في (سيرة عالية وقصص أخرى) من تعدد وتكاثر غزير، مع ضرورة الإشارة كذلك إلى الحضور الوافر للأدب اللامادي ممثلاً في التراث الشعبي وأجناسه المختلفة مثل غناوة وشتاوة العلم والخرّافة والأهازيج الشعبية وأغاني الأعراس والأفراح وغيرها.

ولقد استطاعت الكاتبة من خلال كل هذه البانوراما من العناصر المتنوعة تطريز نصٍّ قصصي بلغة شاعرية سلسة، متماسكة وواضحة، تنساب بكل عذوبة وإمتاع إلى وجدان المتلقي، وتتهادى بكل سهولة ويسر، تعينه على استيعابها تقنيةُ الهوامش السفلية التي سجلتها الكاتبة، وقدمت من خلالها مساعدة مهمة لقارئها لفهم ما قد يصعب عليه من مفردات اللهجة العامية الدرناوية أو اللغات الأجنبية أو إحالات أو شروح وافية ومستفيضة أخرى وغيرها.

(2)

الكاتبة محبوبة خليفة، والكاتب يونس الفنادي، على هامش الندوة التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون بمناسبة حفل توقيع (سيرة عالية وقصص أخرى) بالقبة الفلكية بطرابلس يوم الثلاثاء 14 مارس 2023م
الكاتبة محبوبة خليفة، والكاتب يونس الفنادي، على هامش الندوة التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون بمناسبة حفل توقيع (سيرة عالية وقصص أخرى) بالقبة الفلكية بطرابلس يوم الثلاثاء 14 مارس 2023م

القراءة الفنية للقصة القصيرة ترتكز في الأساس على النظر في ثلاثية شكلها العام وهي: الموضوع والحوار والشخصيات، إلاّ أن الأديب فرج العربي في مقالته (قراءاتٌ في القصة)(3) يحرِّض على تجاوز ذلك المذهب التقليدي باعتباره لا يحيل النص إلى حالة إبداعية، ولذا فإنَّ التعاطي مع (سيرة عالية وقصص أخرى) وفق المنهج الشكلاني الكلاسيكي في هذه القراءة البسيطة مستبعدٌ، وبدلاً عن ذلك يأتي التركيز على عرض بعض الجوانب التي رأيتها تميز مجموعة (سيرة عالية وقصص أخرى)، وهي كالتالي:

أولاً: الانتماء

تنتمي نصوص المجموعة القصصية إلى ما يعرف بالأدب الواقعي الذي يتأسس على مشاهدات الحياة المعاشة في الواقع المكاني والزماني ونقلها بأساليب سردية مزدانة بلغة تعبيرية مطعمة بلمسات خيالية. وقد تجسدت واقعية هذه المجموعة في هوية شخصياتها، وظروف أحداثها ورموز ومعالم بيئتها أو فضاءاتها المكانية التي تدور فيها الأحداث والتقطتها عين الكاتبة ونقلتها الساردة بكل مهارة وفطنة وحسٍّ ذوقي رفيع، تستنطقها تارة بألسنة وحوارات الشخصيات المختلفة، وتارة أخرى معززة ببعض تواريخها الحقيقية المدونة بها. وكما يقول الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه فإن (القصة الواقعية الاجتماعية من أنضج ما كتبه كُتَّابُ القصة في ليبيا بل تصل إلى أرقى مستويات القصة في المشرق العربي] ويضيف [وما يتصف به هذا الاتجاه القصصي هو التلوين والتنويع من حيث الايقاع والأسلوب. فجاءت التجربة القصصية الواقعية ناضجةً حاملةً لشحناتٍ عاطفيةٍ واقعيةٍ تعبِّر عن الأدب الليبي تعبيراً قوياً)(4)، ووفقاً لهذا التوصيف فإن (سيرة عالية وقصص أخرى) نجدها بأساليبها الفنية المتنوعة والمتقنة، ومضامينها الإنسانية والتوثيقية، وجماليات لغتها الوصفية والسردية الرقيقة تمثل نموذجاً منتمياً بكل جدارة للقصة الاجتماعية الواقعية في ليبيا.

ثانياً: الحبكة

غناوة العلم (اعزاز وطنهم فاتوه سمعوا نباك جو جاي يا علم) هذه الدفقة التراثية المكثفة يمكن اعتبارها ركناً وحبكةً دراميةً أساسيةً في (سيرة عالية) لأنها نسجت علاقة جميلة مع ثلاث شخصيات هي الفتاة (عالية) وزوجها راعي الغنم في درنة، ثم لاحقاً مع المشرفة (مريم) بمعهد التمريض بشارع السيدي بطرابلس والطالبة الوافدة، وأخيراً مع (يامنة) الحفيدة ورحيلها إلى الغريفة في الجنوب الليبي حين خطف قلبها طبيبُ المستشفى فاستطاب لها المقام في الغريفة وهي تدندن (اليوم يا غريفة فيك الضي وفيك ازويل يعز علي). وبالتالي فالغناوة هي محور متعدد الأركان في سيرة الفتاة (عالية) سواء من حيث معنى مضمونها الإنساني، وتعدد فضاءها المكاني والزماني، أو الحدث السردي ذاته وتواصله وتنوعه بين جيل وأخر، وقد استطاعت الكاتبة تدوير هذه الحبكة بكل براعة وإتقان وتحريك شخصياتها في إطار موضوعها بأسلوب زاخر بالتعاطف الوجداني والشعور الإنساني المتدفق تفاعلاً وهياماً وتماهياً في النصّ.

ثالثاً: الأسئلة

الأسئلة هي محرك الفكر، وهي لعبة من الواضح أن الكاتبة تجيدها ببراعةٍ اكتسبتها من تخصصها الفلسفي الذي يؤمن بأن الأسئلة المتوالدة بغزارة هي المطرقة التي تدق نواقيس الفكر وتحريك ركوده ودفعه للتأمل والتدبر. والأسئلة في (سيرة عالية وقصص أخرى) تكشف تأثير تخصص الفلسفة بكل وضوح على الأسلوب القصصي عند الكاتبة من حيث الغزارة والتنوع والأدوات الاستفهامية. وقد اختارت الكاتبة أن تكون معظم الأسئلة في قصص المجموعة مفتوحة بلا إجابات محددة، لمنحها القدرة على خلق حوار تفاعلي مع المتلقي للتعاطي معها بجميع الأوجه، وقد طرحتها بأدوات استفهام متنوعة (ما الذي جرى لبيتها الساكن بلا حركة دوماً؟ كيف ضربته تلك الرياح الهوجاء فاقتلعت سكونه؟ متى حدث هذا؟ وأين كانت؟). وكذلك (احتضنت ابنتها بخوف ورعب.. فالبنت التي تراها غير التي كانت. ما الذي جرى؟ هل الحمل هو ما يتعب جسدها، أم القلب المشغول بحبيب ينشغل عنها بمراعيه وراعياته الشابات؟).

إن الكاتبة وظفت شتى أنواع أسئلتها لملامسة وجدان وفكر المتلقي وبث روح تفاعلية في فكره، وأيضاُ لتعزيز مضمون نصوصها، فزرعتها في متون السرد بكل سلاسة حتى امتزجت في النص وأدارت محركات التفكير ببراعة لا تفتقد التشويق الدائم والتعلق المستمر.

رابعاً: اللغة والحوار

تراقصت الكلمات في لغة المجموعة القصصية بنسقٍ وإيقاعاتٍ شاعريةٍ رشيقة، ومفردات رقيقة ضاجة بحيوية واضحة الدلالة والغايات. وحتى إن استضافت معظم نصوصها كلمات أعجمية عديدة خاصة من اللغة الايطالية، وكذلك مفردات وعبارات باللهجة العامية الدرناوية تحديداً سواء فيما يتعلق باللباس أو العادات أو الأمثال أو الأكل أو أغاني الأعراس، فإن التناغم الهارموني والانسجام ظل بارزاً في الأسلوب التعبيري سواء الوصفي العميق أو السردي العابر أو حتى أثناء حوارات الشخصيات التي تجنبت الكاتبة إظهارها بشكلها العمودي المتتابع بل بثتها أفقيةً لتستريح بين السطور والفقرات مما جعلها انسيابية تكتسب حميمةً ودفئاً يزيدها استيطاناً في وجدان المتلقي. (تقول: “كان أجملهم”. ونتساءل بذهول: “وهل تعرفينه؟”، فتضحك بعلو صوتها: “وليش نعرفه؟”، فتزيد دهشتنا. “وماذا تحبين فيه؟”، تقول: “كلامه سمح وزوله سمح! نفوِّتُ الإشارة الأولى، ونتمسك بالثانية. “وين شفتي زوله؟”، فترد: “عنده برنامج في التلفزيون، يقول في كلام يمسح الكبد!”، “وبعدين؟” نواصل إلحاحنا!، “وبعدما يمسح كبدك؟ تنتبهي لسماحته؟”، تضحك منا، وتواصل: “مش بس نا، الصبايا كلهن عاجبهن.. سمعت انه صار طلاقات في جرة آهاتهن، وهو يقول في الشعر، ومعنقر هذيك الشنة الحمراء على جبهته اللي تقول عاج!”)

خامساً: القصة داخل القصة

عملت الكاتبة على تنويع تقنياتها القصصية فبجانب الوصف والحوار استخدامات تقنية القصة داخل القصة والتي يطلق عليها بالإنجليزية Story within a story، وهذه التقنية تمنح الساردة فرصة إضافية لإثارة المزيد من التشويق في الحكي بتعدد الأصوات الراوية والتنقل بين فضاءاتِ أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفةٍ علاوة على المضامين التي تتناولها كل قصة فرعية، مع محافظتها على العناصر المشتركة بين القصتين. وقد ظهرت القصص أو الحكايات الفرعية التي احتضنتها قصص المجموعة مواكبة لسياق المضمون وبنفس الإيقاع السردي مثل (تقول بعض الروايات إن عالية تمردت ذات يوم، وأعلنت أن هذه الحياة لا تستطيعها.. وأن عريسها الراعي الذي يعيش وأهله على هذه المهنة، يتوارثها جيلٌ بعد جيل، قد صُدم وثار حينما رأى أن الحبيبة لا تعرف تفاصيل حياتهم، ولا تريد أن تعرف)، وكذلك (تواصل “مريم” القصة. قصة شقيقة روحها “عالية” كما سمعتها من ابنتها “يامنة”.)

سادساً: الزمن المتداخل في أزمنة عديدة:

لا يبدو أن هناك ترتيباً زمنياً لقصص المجموعة، سواء من حيث وقائعها الحقيقية أو أزمنة كتابتها، وبالتالي فإن التباين الزمني يجعل السرد يتصاعد ويتراجع حسب الأحداث التي تستنطقها الكاتبة والأماكن التي تختارها لتكون وعاء لها ولأزمنتها. وكما تستنتج الأستاذة حليمة مصباح جلاّب في بحثها الموسوم (بنية الزمن السردي في القصة الليبية القصيرة) عند دراستها نماذج من الكتابة النسوية، فإن زمن الخطاب السردي هو محاولة لضبط الإيقاع العام للنص من خلال تتبع المفارقات الزمنية ودراسة ما بينها من تداخلات وانكسارات. وهذا ما نكتشفه فعلاً من خلال التفاوت الزمني بين أحداث المجموعة القصصية (سيرة عالية وقصص أخرى) وعدم تسلسلها الزمني الدقيق، إلاّ أن الكاتبة استطاعت بناء هارمونية سردية تستوعب كل تلك الاختلافات خلقت بها ترابطاً بين زمن تلك الأحداث الفعلي، وزمن استحضارها في الخطاب القصصي، سواء بفواصل محددة ممثلة في تجزئة وتقسيم نصوصها إلى قصص منفصلة أو بتقديم نقلات استرجاعية ماضوية، أو الانتقال إلى علائق أخرى ذات صلة بالنص، وذلك بهدف توفير استراحة ذهنية قصيرة للقارئ لتجاوز العناء الذي قد ينتابه جراء السرد.

سابعاً: استثمار التراث الشعبي

ارتبط فن القصة القصيرة في ليبيا وغيرها من الأقطار العربية منذ نشأته بالتراث واستدعاء الموروث الماضوي بهدف الاستفادة من الدروس والعبر في تعزيز الجانب الأخلاقي والتربوي والجمالي كذلك. وقد استضافت (سيرةُ عالية وقصصٌ أخرى) أصنافاً من مأثورات الأدب الشعبي بأجناسه المختلفة بداية من الإشارة إلى خرّاف وحكايات الجدات للأطفال، إلى توطين بعض نماذج من غناوة العلم مثل (اعزاز وطنهم فاتوه سمعوا نباك جو جاي يا علم) و(يتيمة العين اقعدت عزيز كان بوها وامها) وأبيات الأغاني الشعبية المتداول ترديدها في مناسبات الأعراس والأفراح مثل (ربيعك يا باهي التوصيف يزهي في حنان الصيف)، و(مبروكين على اللي جاته هي زينة والزين خذاته)، و(غزالة واخذها لاريل.. امبيريكة عالناس الكل)، و(بكَّايا عيني وعنيدة.. ما تاخذ غير اللي تريده)، ولا شك أن هذه الاستدعاءات التراثية تربط أزمنتها الماضوية بأزمنة القصص، وتواصل حفظها في الذاكرة الأدبية من جيل لأخر، إضافة إلى ما تبعثه في النص من جماليات إيقاعية وحسية وذوقية متنوعة وبهجة آسرة ترفع مستوى التشويق إلى درجات أعلى.

ثامناً: الهويّة الدرناوية

تكتنز المجموعة القصصية علاماتٍ ودلالاتٍ بيّنة تمثل الهوية الدرناوية المميزة سواء في شكل عبارات ومفردات لغوية خاصة، أو رصد طقوس العادات والتقاليد، أو توطين معالم الأمكنة الدالة، أو الوصف الدقيق لمشاهد إيقاع الحياة في مدينة درنة وطبائع أهلها بشرائحهم العمرية والجنسية كافة، البنات والصبايا والشباب والعجائز ذكوراً وإناثاً.

وكل هذه الخصائص تمثل بصماتٍ ومكونات أساسية للهوية المكانية والاجتماعية الدرناوية التي لا نجدها تتوفر مستنسخةً في أمكنة غيرها. فالحديث عن (عين الساقية) و(قناطر الساقية) و(وكيل الساقية) ومنظومتها المائية للري التي عرفتها درنة على أيدي الموريسكيين منذ أن غادروا الأندلس واستقروا بها، و(شارع الكوي) و(جامع الصرواحي) وضريح الولي (سيدي شاهر روحه) ومنطقة (سيدي بومنصور) و(وادي بنت) و(عين بنت) وأعشاب (الغرنبوش) و(كريشة الجدي) و(حذاء الرقعة)، وأغنية (الوادي جا .. ويريد عشا.. ويريد ابنيَّة مالزنقة) و(يا باخرة يا ماريانا يرعاك المولى سبحانه) التي يرددها أطفال وأهالي درنة، والأكلات الشعبية اللذيذة، وروائح الزهر الشذية المميزة بالبصمة الدرناوية، وطريقة الدرناويات في لبس (الجرود) ولف (الحِرام)، وعبارات (طيبك عرب) و(القمح إيحمل) و(تعالوا يا ضناوين)، هذه كلها تحيلنا إلى خصائص ومفردات الهوية الدرناوية المميزة والتي وطنتها الكاتبة في المشهد القصصي والأدبي الليبي مما يمنح عملها أهمية توثيقية ورسالة وطنية تنال الاستحسان والتقدير، على جمعه وحفظه في ذاكرة الجيل الحالي التي تواجه الكثير من التحديات ومخاطر النسيان والاندثار، وبالتالي فإنها تؤكد أن الأدب عموماً والقصة تحديداً يقدم شهادةً وخدمةً أرشيفية للحياة الاجتماعية تعد مصدراً للبحاث والدارسين في هذا المجال.

(3)

لم تخلو (سيرةُ عالية وقصص أخرى) للأستاذة محبوبة خليفة من نفحات عبقة بالقيم الإنسانية النبيلة، فهي لم تكتفي بصياغة فضاءات سردية ممتعة تتضمن معالم وأحداث وشخصيات فحسب، بل نسجت صور تعبير جمالية والتقاطات توطن مشاهد من المشترك الإنساني الذي عايشته داخل درنة وخارجها مثل العلاقة الوطيدة مع السوريلات ومشاركتهن احتفالاتهن بالأعياد (تكبر “يامنة” بين أحضان مُحِبَّة وكثيرة. تعيش نصف النهار بين السوريلات …. تحملها “دومينيكا” معها لجلب ما يحتاجه حوش السوريلات من السوق … تشاهد “يامنة” تدافع الزوار الدراونة القادمين للتهنئة بعيد السوريلات “الناتالي”..) كل هذه تعكس روح التسامح الإنساني والعيش المشترك الذي يستوطن في الذات والمكان، ويوطِّنُ تقديراً واحتراماً ومحبةً ووفاءً للقيم والإنسان معاً.

(4)

منذ بداياتها انصبغت الكتابة النسائية في ليبيا بانغماسها في الذاتي النثري أو البوح الشعري الوجداني البسيط الذي يسجل لحظات شعورية خاصة، ورصد مشاهد ومواقف اجتماعية عابرة، وتوجهات لا تملك رؤية أفقية بعيدة أو عميقة، وظلت إسهامات المرأة الليبية الكاتبة تراوح مكانها في هذا المستوى التعبيري الضيق لعقود طويلة. إلاّ أننا نلاحظ الآن أن قصص محبوبة خليَّفة وكذلك عزة كامل المقهور قد اتخذت جانباً مغايراً لتوجهات الكتابة النسائية السابقة حيث صار المكان حاضراً بقوة في تأثيث نصوصهما القصصية بكل أزمنته وتاريخه وشخصياته رغم هيمنة الحدث الماضوي وسطوته على مضمون قصصهما الجميلة.

ولا شك أن هذا التوجه يمكن اعتباره خروجاً عن السائد التقليدي، وتطوراً موضوعياً مهماً للكاتبة الليبية في استثمار إمكانياتها الإبداعية وقدراتها التعبيرية وتوظيفها في التوثيق للبيئة والمدينة والشخصيات وتوسيع دائرة الاهتمامات والمواقف، وبالتالي فإن (سيرة عالية وقصص أخرى) ليست مجرد قصص أدبية فحسب، وإنما هي سيرة جيل ومدينة زاهرة ضاربة جذورها في العراقة والتاريخ، لازالت أنفاسها تواكب مسيرة الحياة الحالمة بعيون ترسم غدها مشرقاً بألوان زاهية، وعبق الزهر الدرناوي الفوّاح.


هوامش:

(*) ألقيت في الندوة التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون بمناسبة حفل توقيع (سيرة عالية وقصص أخرى) بالقبة الفلكية بطرابلس يوم الثلاثاء 14 مارس 2023م

 (1)  سيرة عالية وقصص أخرى، محبوبة خليفة، دار الفرجاني، طرابلس، الطبعة الأولى، 2022م

(2)  تحرشات المبدع: قراءات في السرد الليبي، دار الرواد للنشر، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2022م، ص 25

(3)  قراءاتٌ في القصة، فرج العربي، مجلة الفصول الأربعة، العدد 25، صفحة 65

(4)  حوار مع الأديب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، موقع رابطة أدباء الشام، 19 أيلول “سبتمبر” 2009م http://www.odabasham.net

مقالات ذات علاقة

وقفة عند مواكب جبران

عادل بشير الصاري

رواية موشومة بالموروث النسائي الليبي

إنتصار بوراوي

“اغتصاب محظية” لعائشة اﻷصفر.. فنتازيا الرواية

عمر عبدالدائم

اترك تعليق