انتظم خلال الأسبوع الماضي (ملتقى تداخل للفنون التشكيلية) للوحات والرسومات الفنية التشكيلية الذي أقيم في “بيت اسكندر للفنون” بمدينة طرابلس خلال الفترة من 15-18 مارس 2022م، وقد وصل عدد اللوحات المعروضة به حوالي ثمانين لوحة لرسامين ورسَّامات تفاوتت أعمارهم، وخبراتهم وتجاربهم، وتوجهاتهم ومذاهبهم الفكرية ومدارسهم الفنية بين الفنان القدير (محمد الغرياني) الذي يعد أكبر الرسامين المشاركين في المعرض سناً، والفنانة الواعدة (ملك الرياني) أصغر شابة مشاركة. ولاشك أن هذا الفارق العمري يمنح الكثير من فرص نقل التجارب والخبرات بين المشاركين من أجيال وأعمار مختلفة، وإتاحة فرص إطلاعهم على أعمالهم الفنية الحديثة، ومواضيع لوحاتهم، وتقنيات رسوماتها ومظاهر التجديد والتحديث فيها، وتبادل النقاشات حولها لخلق حوارات تثري أفكارهم كافةً. وكل هذا بلا شك يسهم بشكل كبير في حركية تطور المشهد التشكيلي الليبي بصفة عامة وأدوات وأفكار الفنان بوجه خاص.
ومن خلال شعار الملتقى (تداخل) نكتشف أن رسالته تتمثل في عدة جوانب لعل من بينها التداخل العمري بين المشاركين، وكذلك الجنسي الذكوري والأنثوي، وأيضاً التأكيد على التعالق والترابط والتداخل بين الفنون التشكيلية سواء من حيث الفكرة أو اللون أو التقنية المستخدمة، وانفتاح مضامين اللوحة على أوجه الحياة برمتها، بداية من الأجناس الأدبية والفنية المختلفة كالقصة والموسيقى مثلاً، أو الجوانب الاجتماعية التي أساسها الإنسان الفرد، والبيئة والمحيط بكل ما تحمله من أزمنة وأحداث تاريخية، وشخصيات وأعلام، استوطنت الذاكرة الفردية أو المجتمعية وظلت تتفاعل فيها بمناحي مختلفة.
وحين نلاحظ غياب تثبيت عناوين محددة للوحات المعلقة بجانب أسماء الرسامين وبالمطوية الورقية الأنيقة التي أعدت بمناسبة هذا المعرض يتأكد أن رسالة هذا التجمع الفني الكبير تتوسع لتمنح الزائر المشاهد فرصة اختيار العنوان الذي يقترحه للوحة حين يقف أمامها، يتوافق مع زاوية قراءته لها، وترجمته للخطوط والألوان التي يتتبع ويتأمل مساراتها والتمعن في موضوعها، ومن ثم إيجاد عنوان مناسب لها وفق مستوى استيعابه لعناصرها الفنية كافة. وهذا بلا شك جانب مهم من جوانب رسالة التداخل الفكري التي اختارها الفنانون عنواناً وشعاراً لهذا المعرض يعمل على تمتين الصلة بين الفنان والمتلقي والمجتمع، رغم أن البعض يعتبر العدد الكبير من اللوحات المشاركة يعمل على تشتيت ذهن المتلقى وبالتالي عدم قدرته على التركيز في التفاعل معها أو نقدها أو إبداء ملاحظات حولها.
ومن بين اللوحات المشاركة في هذا الملتقى برزت لوحة الفنانة الدكتورة إلهام الفرجاني التي تمثلت في باب مدخل بيت رئيسي تعرض بفعل القدم والعوامل المناخية لتغير وتهالك مكوناته وألوانه وربما حتى وظيفته. فاللوحة البسيطة قدمت لنا منظر بابٍ خشبيٍ قديمٍ من دفتين متساويتين موصدتين، وسط قوس خرساني، يطوقه عمودان حجريان على جانبيه في أعلاهما بقمة الباب الخشبي، يظهر بروز تصميم جداري متطابق على الجانبين، يعلوه تقوس به تشكيل معدني حديدي متشابك على هيئة نصف دائرة يسمّى “الضوّاية” وهي نافذة مدخل الضوء وأنوار النهار للبيت، ويعرف أيضاً لدى الحدادة بتصميم باب مخدوم ب”الشُكريك”، ترتسم في قمته كتلة حجرية تقسم القوس نصفين بشكل بارز من خلال تفاوت لونها الترابي مع لون القوس الأزرق الخفيف “السماوي”. كما أن اللوحة لم تغفل إظهار الاهمال الواضح الذي تعرض له الباب الخشبي وعناصره المحيطة سواء التصدعات الحائطية والحفر بالعمود القائم، أو التهالك الخرساني للجدار، أو وساخة الشباك الصغير مصدر بعض التهوية ويمنح العقار إطلالة على الشارع، أو أسلاك الكهرباء المتدلية بشكل مبعثر وغير منظم، وغياب مصباح الكهرباء العلوي وبقاء مدخله خاوياً بارزاً ومتدلياً من التشكيل المعدني الحديدي.
ويمكن القول بأن هذه اللوحة تقف بين زمنين هما: (الماضي الذي كان) و(الحاضر الظاهر) الذي عليه الباب كما يظهر في اللوحة، وما آل إليه مصيره وما تعرض له من إهمال وهلاك وتخريب، وهذا التحول ربما يثير في المشاهد أو المتلقي العديد من الأسئلة عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع المتدهور؟ وهل بالإمكان تصحيحه وترميمه وتحسينه، وإعادته براقاً زاهياً بألوانه، وبهيجاً بمظاهر التحسين والتجديد التي قد تطاله؟
وهنا تكمن فاعلية اللوحة الفنية التشكيلية وقدرتها على اختراق فكر المتلقي من خلال درجة التأمل والغوص فيها واستيطانها فيه، وتمكنها من إطلاق العديد من الأسئلة ذات العلاقة سواء كانت بعيدة أو قريبة من هدف الرسالة الفنية للوحة، لأنها نتاج قراءة متلقي وترجمته للخطوط والألوان حسب فهمه وثقافته واستيعابه قد تختلف مع الفنانة التي قامت برسمها أو ربما تتلاقى معها في بعض النقاط أو جلها أو كلها.
كما أن وظيفة الباب من الناحية العملية تكمن في أنه يفصل بين فضائين متلاصقين هما (داخل البيت بكل خصوصياته) وحفظه حياة أسرته وسترها وكتمان أسرارها، و(خارج البيت بكل عمومياته) وما مر به الشارع أمامه من أحداث ومناسبات، وخطوات للعديد من الأهل والأقارب والجيران والبشر العابرين أمامه، والناظرين إليه أو المقتربين منه أو الطارقين عليه، أو الداخلين والخارجين منه كذلك، وظل شاهداً صامتاً عليهم جميعاً.
ولم يخلو يسار اللوحة من إبراز جزء بسيط لباب عقار مجاور تتدرج فيه الخطوط بشكل أفقي عريض تصطف في تسلسل وتتابع عمودي يبدو كأنه مدخل لمحل أو دكان تجاري لم تمنح اللوحة أية تفاصيل لهويته مما يجعلها تدير محركات تفكير القاريء للتخمين في ماهية هذا العقار واصطناع بعض التصورات التخيلية له.
من الناحية اللونية حافظت الفنانة إلهام الفرجاني على محدودية ألوان لوحتها حيث برز فيها لونان أساسيان فقط بدرجات متفاوتة، وهما الأزرق الخفيف “السماوي” الذي نراه في الباب والعمودين الجانبين والقوس الخرساني وإن ظل خافتاً في أغلب حالاته، واللون الترابي الذي تدرج وتفاوت على الحائط والأرضية الحجرية والترابية، مع حضور طفيف للأسود في أسلاك الكهرباء الرقيقة، وتداخله مع الرمادي والأبيض في حفر وكسور الجدار أو بعض البقع المبعثرة على خارطة اللوحة والتي جاءت بلون بني غامق ومتمازج أحياناً مع الأسود في أسفلها.
إن هذه اللوحة تشتمل على عدة عناصر لونية وتشكيلية ذات دلالات مكانية جمالية وتاريخية عديدة تمنحنا فسحة تآلف وجداني وشعوري بين اللون والرسم وتأملات فكرية قد تكون هذه الكتابة الانطباعية غير المتخصصة في النقد أو الفن التشكيلي قد اقتربت منها، أو لامست بعض جوانب فلسفتها أو مفهومها، وربما هي بعيدة عن ذلك، ولكنها تحفز الآخرين على استنطاقها بزوايا وقراءات أخرى أكثر وأشمل وأدق فنياً وموضوعياً. وفي كل الأحوال فالشكر كل الشكر للفنانة الدكتورة إلهام الفرجاني مبدعة اللوحة وللأسرة التشكيلية وبيت اسكندر للفنون على جهودهم كافةً.