طيوب عربية

لا أتذكر متى انقطع حبك

نورالدين بن بلقاسم ناجي (تونس)

من أعمال الفنانة التشكيلية "مريم الصيد"
من أعمال الفنانة التشكيلية “مريم الصيد”

أحياناً تنقطع خيوط الحب في ذاكرتي كما تنقطع خيوط الكهرباء في حجرتي، اتذكر متى انقطع الكهرباء، لكن لا أتذكر متى انقطع حبك، تسلقت كل اعمدة الكهرباء حتى تعود الذكرى الى غرفتي، انا ارفض الظلام الدامس، كم صعقني الكهرباء في حجرتي، كم صعقني الحب في فراشي، صعقات الحب أقوى من صعقات الكهرباء، صعقات الذكرى وسط الذكرى تشبه صعقات البرد في الشتاء،  احتاجك في كل شتاء، احتاج الى البرد حت احبك، احتاج الى الدفء حتى اعشقك، صار انقطاع الكهرباء امرا معتاد في كل البيوت، لكن انقطاع اللذة في الفراش امر غير معتاد، ما هو معتاد غير معتاد الى درجة معتادة، اشعلت الشموع على أمل أن يعود الكهرباء الى غرفتي، أشعلت شموع الحب على أمل أن تعود النشوة الى فراشي، طال انتظاري، بكت شموعي كثيرا، صارت طيورا تحلق فوق اعمدة الكهرباء، اعطتني الطيور الراقصة حبا غامض الملامح، غريب الاطوار، حبا أعرفه الى درجة لا يمكن ان  أعرفه، هو حب في شكل نور وسط نور خافت كالبرق او كالرعد، يشق ظلاما دامسا، عرفت انك قادم، عرفت ان الحب كالكهرباء عاد الى جسدي.

   بعد وقت طويل تم إصلاح العطب الفني، فرحت لان الحب عاد الى غرفتي المظلمة منذ غيابك، اعتذر الاعوان عن التأخير في إصلاح الخلل التقني، قالوا لي بأن العطب كان في العمود الكهربائي المجاور لبيتنا، لحبنا، لم اقبل اعتذارهم بسهولة لانهم لم يستطيعوا تحديد اسباب الخلل الفني بدقة، لقد كان العطب في بيتي، تحديدا في غرفتي… في فراشي… أحسست ان الخلل في قلبي، احسست ان الحب طائر يحلق من مكان إلى مكان، يتحول من عمود الى عمود اخر، هو طائر يراقب المسافة الفاصلة بين العشاق في طريق عودتهم، في طريق بحثهم عن حب ضائع تسلل خلسة الى بيوتهم، هو طائر الحب، يجازف، يغامر، يحلق فوق كل اعمدة الكهرباء، لا يخشى في اثناء بحثه عن وجهك الاسمر ان يصعقه عمود كهربائي، هو لا يخشى الكهرباء اصلا لان الحب مخلوق من كهرباء، شعرت ان حبي لك قد يعتريه العطب في اي لحظة، من الليل، في اي لحظة من النهار، كل عاشق يحس احيانا بان القلب قد يتعطب، قد يتوقف، قد يتوقف في اي لحظة من الحب، ينقطع الكهرباء عن غرفتي عندما ينقطع الحب عن جسدي، كم فسرت لهم اسباب الخلل؟ كم فسرت لهم اسباب الحب؟ منهم من اقتنع بأن الخلل في القلب…في دوافع الحب، ومنهم من ارجع ذلك الى اسلاك الكهرباء، حقا في الحب عدة اسلاك شائكة، المهم اني فسرت ما لا استطيع ان افسره اكثر من ذلك، المهم اني اصلحت العطب بمفردي، الخلل في غرفتي… في قلبي…الخلل في الطيور التي حلقت فوق بيتي، حلقت دون اذن، دون موعد سابق مع الحب، لكنها وقعت في الحب الى ما لا نهاية، كل الاشياء لها نهاية، الا الحب لا نهاية له، ولذلك احتفالا بعودة الكهرباء الى حجرتي، احتفالا بعودة النشوة الى فراشي ادعو كل الطيور الى ان تحلق فوق بيتي، ادعوا كل العشاق ان يعودوا الى بيتي، اتركوا اعمدة الكهرباء، هي لا تتكلم، هي لا تغادر مكانها مازالت في مكانها. هي ترفض ان ترتدي ملابسها، خلعت في هذا الليل كل نشوتها، صارت دون نشوة.. تبحث عن تحقيق نشوة.

أهملت ما قاله الكهربائي، حافظوا على أعمدة الكهرباء في الطريق فهي ملك عمومي، اقتصدوا في الطاقة، لم اقتنع بما قاله، هو لا يعرف ان الحب ملك شخصي، هو لا يعرف ان الاقتصاد في الحب يقتل الحب نفسه، تلك الاعمدة لها طاقة شحن أخرى، هناك طاقة أخرى خارج المجال الجوي، طاقة نووية مدفونة في اعماق الارض، في اعماق النفس، كم ضاعت من طاقة وسط طاقة لم يكتشفها العلماء؟ كم ضاعت من حب وسط حب اخر؟ كم بنى العشاق على أرضهم من مفاعلات نووية؟ كم منعوا من امتلاك تلك الطاقة؟ من حقي ان أمتلك تلك الطاقة، من حقي ان احبك، من حقي ان اصنع حبا نوويا اهدد به كل من يعتدي على ارضي؟ في الحب طاقة وسط طاقة، في الحب ذرة نووية لم يكتشفها العلماء، اكتشفها العشاق، في الحب طاقة مغناطسية، أليس ذلك الحب النووي اكتشافا علميا يفتخر به العشاق؟ في الحب هناك مبدع وابداع وتقبل، الا يدل عمود الكهرباء على اكثر من مبدع؟ لماذا هو صامت منذ سنين؟ الم يكن الصمت او الإضراب عن الكلام هو أرقى أشكال الإبداع البشري؟، وصل العلماء الى القمر لكنهم لم يصلو الى كوكب آخر لا يعيش فيه الا متقبل واحد، لا يعيش فيه الا انسان اخر، هو  عاشق، لماذا منعوه من استخدام الطاقة؟ لماذا منعوه من الإبداع او الخلق والابتكار على طريقة العلماء؟ لماذا فكروا في قتل كل عالم؟ لماذا فكروا في قتل كل عاشق؟ كل العشاق يمتلكون  أسلحة الدمار الشامل، الحب سلاح نووي، انت من أخذت طاقتي، انت من اخذت جسدي، انت من عذبتني بالكهرباء.

 لم ينتبه أحد العشاق في طريق عودته من الذكرى انه فقد كل طاقة على الحب لأنهم منعوه من حقه المكتسب في امتلاك الطاقة، فكرت ان كل عمود كهربائي يرمز الى عاشق مات بسبب صعقة كهربائية بقوة البرق، بقوة الرعد، بدت تلك الاعمدة الواقفة دون سبب واضح كالأعلام السوداء في البحر، تطلب النجدة، تطلب الحب، من نكس تلك الاعلام؟ من أطفأ تلك الاضواء؟  من أطفأ تلك الاحلام في الارض؟ من أشعل تلك النجوم في السماء؟ من أعطاهم الأمر بأن يقطعوا عني التيار الكهربائي؟ فكرت ان اصعد الى كل اعمدة الكهرباء حتى أصلحها، فكرت كم وقعت في خطا لم أصلحه؟ فكرت كم وقعت في حب لم اعرفه، لم اجده، فكرت كم صعقني الكهرباء؟ كم صعقتني الذكرى؟ كم صعقني من شخص قال لي احبك؟ تركني لا أحب.. تركني ومشى الى غرفة أخرى يبحث عن نشوة أخرى.

  بعد وقت من الذكرى جاءتني فاتورة الكهرباء، كانت تكاليف الصيانة والانارة مجحفة، لأني وقعت في حب مجحف، لأني استهلكت أكثر من حب، اكثر من ذكرى، لقد تجاوزت السقف المحدد للاستهلاك المحدد، دفعت فاتورة الكهرباء، عفوا فاتورة الحب وحدي، لم انزعج لأنها كانت باهظة، بل كنت مفتخرة بذلك لان الحب ثمنه باهظ، لا تهم التكاليف، المهم اني احبك، لا تجعل طاقتك في الحب، طاقتك على الخلق والابتكار مدفونة، فجر طاقتك في فراشك، أجعلها تشتعل لا تفكر في ثمن الفاتورة.

بعد برهة من الحب ذهبت الى الحديقة كنت على موعد مع الذكرى؛ كل الذكريات  تجلس هنا؛ كنت على موعد مع حب تركته مع تلك الازهار؛ مع تلك الاوراق؛ ينبت الحب كما تنبت الازهار؛ تحتاج الازهار الى من يقطفها؛ تحتاج الانثى من يحبها؛ فكرت انه بعدد الازهار في الارض؛ بعدد النجوم في السماء؛ احبك…تركت كل العشاق   امام ابواب حديقتك؛ عددهم لا يحصى؛ هم بعدد النجوم، هم بعدد الازهار؛ فكرت انهم صاروا يعبدون الأزهار؛ صاروا على طريقتهم يعبدون ما لا اعبد؛ صاروا يحبون عندما احبك؛ صاروا ينظرون الي بدهشة عندما التقي بك؛ عندما أقبلك؛ كلهم جلسوا هنا؛ احتراما لنا؛ احتراما لتلك القبلة او النظرة؛ كلهم كانوا يصلون…يسبحون تحت تلك الشجرة. لماذا تأخرت في صلاتك معي؟ لماذا رفضت ان تسقي الاشجار معي؟ لماذا…لماذا تفيد السبب؛ وانت خرجت على الحب دون سبب؛ خرجت عن سائر العشاق تبحث في صلاتك؛ في حبك؛ عن سبب لا يدل على سبب بعينه. حتى هجرتني دون سبب؛ حتى في لغتنا تفيد ما هو مستبعد الوقوع؛ ليس مستبعدا ان نلتقي؛ ليس مستبعدا ما هو مستبعد في الحب؛ كل شيء ممكن؛ كل شيء مباح؛ كل شيء حلال؛ ما عدا تلك الشجرة لا تلمسها فإنها حرام عليك؛ ما عدا تلك الانثى حلال عليك؛ عفوا حرام عليك؛ لا تقبلها؛ ابتعد عن ابليس؛ لكن لا تبتعد عني؛ ابليس اغوته الشجرة؛ فقطف منها تفاحة؛ اما انا؛ فقد اغوتني نظراتك الى السماء؛ ولذلك قطفت من حديقتك اكثر من تفاحة اكثر من قبلة؛ انت من اعطيتني اكثر من قبلة بل اكثر من تفاحة؛ لا تلمني قطفت من حديقتك اكثر من زهرة؛ وقعت في الحب من اول نظرة؛ نعم وقعت في الاثم من اول قبلة؛ ضع قبلتي فوق قبلتك؛ لا استطيع الانتظار؛ امتلأت الحديقة بالعشاق؛ جاؤوا للصلاة؛ هم يحافظون على الصلاة في وقتها؛ هم يحافظون على الذكرى في اوقاتها؛ تركوا في حديقة العشاق صلاتهم؛ تركوا كتابهم المقدس؛ تركوا دينهم وعادوا الى ديننا؛ تركوا معتقداتهم؛ تركوا ازهارهم؛ تركوا اصنامهم؛ تركوا الهتهم تبكي؛ انتبهت الى ان صلاتهم تبدأ مع الخريف وتنتهي مع الشتاء؛ نحن نطلب في الصلاة نزول المطر وهم يطلبون في صلاتهم نزول الحب؛ الحب مثل الماء يسقي كل شيء؛ اذهلتني تصرفاتهم… صلاتهم…دعاؤهم… لا يشربون مثلنا الماء؛ لا يأكلون مثلنا الطعام؛ لا يفكرون مثلنا؛ لا يشربون الا من انهار عذبة كالحب؛ هو نهر واحد في اقصى الجبل؛ له باب واحد لا يدخل منه الا الصائمون؛ هو نهر واحد في اقصى الجنة؛ لا يشرب منه الا العاشقون.

   تألمت لان صلاتي تبدا مع كل ربيع ثم تنتهي مع كل خريف؛ انت مثل امطار الخريف؛ انت مثل ازهار الربيع؛ فكرت في الصلاة مثلهم؛ صلواتهم عشر؛ خمس صلوات في النهار وخمس صلوات في الليل؛ تألمت لأنك تأتي مع الخريف وتذهب مع الربيع؛ لماذا تركت النشوة تغادر جسدي؟  نشوتك اقوى من رحيق الازهار؛ تبدا نشوتك مع طلوع الاحلام الى اقصى الجبال؛ نشوتك لا تنتهي مع الفصول؛ انت فوق كل الفصول؛ عندما يشتد البرد في الشتاء ارتدي ما تركت من احلام وسط احلام؛ افكر في شخص تركته ينام تحت تلك الشجرة؛ تركته يعد الازهار؛ تركته يعد ايام الشتاء؛ تركته يعد ايام الحب؛ تركته يعد القصص؛ افكر في نشوة تركتها لا تنام؛ كنت لا انام الا مع قصتي؛ كنت لا انهض الا مع قصتك؛ مرت قصتك امام فنان تشكيلي؛ اختار الفنان المجهول قصتي؛ اختار دون سبب واضح ان يجلس تحت تلك الشجرة؛ اختار ان يراقب تلك الذكرى؛ جاءني شعور ما انه يعرف قصتي؛ لماذا اختار ان يجلس تحت تلك الشجرة بالذات؟ لماذا اختار ذلك الحب بالذات؛ هل أخبرته الشجرة بقصة حبنا لذلك تعمد ان يجلس هناك؟ لماذا علق اللوحة على اليمين حيث كنت تجلس؛ حيث كنت ولم تكن؟ لماذا تسلق اغصان الشجرة بهدوء؟ لماذا كان يراقب حبي لك بعنف؟ الم تكن تحب تسلق الاشجار بهدوء يتخلله بعص العنف؟ الم تكن تسرق مني اول قبلة بهدوء؟ الم تكن تسرق مني اكثر من قبلتين بعنف؟ الم تكن تحبني ان اصعد معك الى الاعلى الى قمة الشجرة؛ الى قمة الحب؛ انت لا تحب الصعود الا الى القمة؛ انت لا تحب الصعود الا الى قمم الجبال؛ الم تكن في حبك لا تستطيع العيش الا في اعلى الجبال؟ الم تكن تريد الحب على طريقة ذلك الفنان العبقري؛ يترك الاشياء ترسم نفسها بنفسها؛ يترك الانثى تختار أن ترسم نفسها حتى تنسى نفسها؛ ترك الفنان اللوحة تقول ما تقول؛ ترسم ما ترسم وتغني للحياة ما تغني؛ ترك الفنان الريشة؛ سئم كل الالوان والاشكال؛ سئم الحياة نفسها؛ سئم تقليد الاشياء؛ سئم عبادة الاصنام؛ انت من هرب الى حديقتي؛ الى شجرتي؛ انت تبحث عن حب يرسم نفسه بنفسه؛ ترك الفنان اللوحة؛ ترك الفنان جسدي يتعرى امام النهر قليلا؛ تركني وذهب الى الجبال؛ ترك نشوتي؛ ترك ازهاري الى بقية العشاق؛ ترك ما ترك؛ لكنه لم يترك تلك الانثى الى الابد؛ لن يترك الحديقة الى الابد؛ عفوا لن يترك الحب الى الابد؛  مازال ينتظر عودتي؛ مازال ينتظر دمعتي؛ مازال يحب أنفاس سيجارتي؛ مازال لم يرسم؛ مازال الفجر؛ مازال الحب مع الفجر.         

لم يعد الحديقة تتحمل أكثر من عاشقين، عفوا أكثر من ذلك الحب فوق الطاقة، عدت الى بيتنا.. إلى حبنا.. عادت الطيور تحلق فوق بيتي.. حطت من جديد فوق اعمدة الكهرباء كأنها على موعد مع حب قادم من السماء.

فكرت أن عمود الكهرباء عاشق ارضي رفض أن يتخلى عن حبيبته في السماء، بعد انتظار عسير قرر ان يموت واقفا احتراما لتلك الذكرى لا تدل على ذكرى بعينها.

مقالات ذات علاقة

كتكوت البطة كحلي!

آكد الجبوري (العراق)

أموات في الذاكرة

زيد الطهراوي (الأردن)

الترنيمات الأولى من تشرين

إشبيليا الجبوري (العراق)

اترك تعليق