الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، المكان غرفة الطوارئ في المستشفى الهدوء يلف المكان ولم أشعر اني غفوت إلا عندما فتح باب غرفتي لاستدعائي لحالة طارئة. خرجت في عجل لأجد رجل في منتصف الستينات أعرفه جيدًا، رافقني وجهه وصوته سنوات عديدة، كان ممداً على السرير يحتل الألم كل ملامحه، وبرفقته شاب، يبدوا أنه ابنه، قال لي:
– إنه يعاني منذ أشهر من البروستاتا، ولكن اليوم اشتد عليه الألم وارتفعت حرارته…
طلبت من ابنه الخروج، واستدعيت الممرضة التي ترافقني تلك الليلة لنقوم بما يلزم لحالته، وعندما بدأ باستعادة وعيه، نظرت أليه وقربت وجهي منه وسألته:
– هل تذكرني يا “عبدالله”؟ وهذا كان اسمه.
نظر إليّ جيداً، وعض على شفتيه ثم قال:
– نعم.. نعم!
ثم أشاح بوجهة عني وأغمض عيناه.. خرجت من عنده بعد ان استقرت حالته، وعدت إلى غرفتي، حاولت أن أنام، ولكن وجه “عبدالله” لم يفارقني وقد عادت بي الذاكرة إلى هناك، إلى الزنزانة..
– “عبدالله” أرجوك أتوسل إليك، أبي مريض جدًا، حرارته مرتفعة، ويعاني احتباسا في البول، انقله الى عيادة السجن، كان هذا النداء العاشر لي وأنا أحشر أنفي وفمي بين القضبان، ليسمع “عبدالله” توسلاتي، ولكن كان الرفض في كل مرة بقوله:
– لا أستطيع إخراجه هذه أوامر..
في اليوم العاشر بدأ والدي ينتفض من شدة الحرارة والالم، وبدأت أنا بالصراخ، وأخذت الطبق المعدني الذي يضعون لنا فيه الاكل وبدأت بالطرق بقوة على باب الزنزانة وأنادي أن يأتي بسرعة لينقذ أبي …
أتى أخيراً، ومعه اثنين يحملان (سرير الإسعاف) وأخذا والدي إلى المستشفى، رجوته أن أذهب معهم فدفع بي إلى الوراء وأقفل الزنزانة.. بقيت وحيدًا في الزنزانة الذي شاركني فيها أبي عدة سنوات، فقد وجدنا أنفسنا معتقلين بتهمة حيازة كتب ممنوعة والترويج لفكر متطرف دون محاكمة أو حكم…
مضت أيام وأعوام ثقال، وأتى اثنين آخرين ليشاركوني ولم أعد عما حدث لأبي، الزيارات ممنوعة و”عبدالله” لم يرد على أسئلتي المتكررة ويتركني أحترق بقلقي وحيرتي. بعد ثلاث سنوات خرجت كان أخي ينتظرني سألته حتى قبل ان أحضنه:
– كيف حال أبي.
نظر إلي في استغراب:
– لقد توفي منذ ثلاث أعوام، هنا في السجن كنت أظن انك تعلم!!
يا الله لقد توفي أبي في ذلك اليوم الذي خرج فيه من الزنزانة وكان “عبدالله” يعلم، ليته أسعفه وسمع توسلاتي له في بداية المرض، شهر كامل وأنا أرجوه أن يأخذه إلى المستشفى، حضنت أخي ودخلت في نوبة من البكاء حتى لم أعد أستطيع أن أتوقف؛ عندما عدت الى البيت لم أعد كما كنت ولا كما أريد تغيرت فيّ أشياء كثيرة؛ لم يواسيني سوى حضن أمي وطلب أبي مني ونحن في الزنزانة أن أكمل دراستي في الطب فقد تم اعتقالي وأنا على أبواب التخرج. وجدت نفسي أنا وسجاني في امتحان ولكن لم استطيع سوى أن اسعفه وأهون عليه وجعه.