المقالة طيوب عربية

ذكريات طرابلسية (6)

فارس أحمد العلاوي – سوريا

الصورة عن صفحة الكاتب الشخصية على موقع فيسبوك

كتاب وثائق ولاية طرابلس الغرب في سجلات محاكم دمشق الشرعية العثمانية

لم تكن طرابلس بالنسبة لي مجرد مدينة مررت بها في يوم من الأيام ، بل كانت أكثر من ذلك بكثير ، كانت مدينة لها في النفس هوى ، وفي القلب جوى ، لا يغيره بعدي عنها ، ولا توالي الشهور والأعوام ، في كل مكان كان لي فيها ذكرى ، ذكرى تتمرد على النسيان ، غادرتها وأنا في شوق إليها ، نادتني فلبيت النداء ، قلت لها كتبت عنك وسأكتب من جديد ، كنت حينها أبحث في سجلات عثمانية عن مدن وقرى وبلدان ، فلما قرات اسمها مكتوباً في تلك السطور ، وتوالى اسمها في الظهور ، جمعت وثائقها ، ونشرت ما جمعت ودرست في كتاب لأعبر لها عن حبي ، وكان ذلك منذ ما يقرب من عقد ونصف من السنوات ، كتاب من 38 فقرة سبقتها مقدمة ، وقد نال الكتاب حينها التقدير والاعجاب ، ولتعريف القراء به أقدم مقتطفات من مقدمته التي أجبت فيها على كثير من التساؤلات ، وقد بدأت تلك المقدمة بالقول: تعدّ سجلات محاكم دمشق الشرعية العثمانية من أهم المصادر التاريخية التي يمكن من خلالها معرفة وقائع الحياة اليومية في العهد العثماني في المدن والقرى السورية والعربية(1) ، فقد وجدت فيها الآلاف من الوثائق عن هذه المدن والقرى ، وبعيداً عن المدن والقرى السورية التي أخذت النصيب الأكبر من هذه الوثائق ، فإن المدن والقرى العربية يمكن تصنيفها من حيث عدد الوثائق الخاصة بها إلى ثلاثة مستويات : في الأول المدن والقرى اللبنانية والفلسطينية والأردنية(2)، يليها في المستوى الثاني مدن وقرى العراق والحجاز ومصر، وأخيراً في المستوى الثالث مدن وقرى المغرب العربي واليمن.
إن أهم ما يميز لوثائق الخاصة بالمدن والقرى العربية أنها تقدم للباحث مادة علمية يستطيع من خلالها تقديم أبحاث ودراسات تختلف جذرياً عن الأبحاث والدراسات التي تكتب بالاعتماد على المؤلفات التاريخية، ورغم أهمية هذه الوثائق إلا أن كثيراً من الباحثين لا يعرف أنها موجودة، أو أن البحث عنها يحتاج لسنوات وجهد ومال، وهذا قد لا يكون متاحاً لعدد كبير من هؤلاء، وكان هذا بالنسبة لي من أهم الأسباب التي دفعتني لنشر هذه الوثائق والتعريف بها، وتقديمها للباحثين والمهتمين بتاريخ المدن والقرى العربية في كتاب مطبوع يصل إليهم وهم في مكان إقامتهم موفراً عليهم الوقت والجهد والمال.
كان بحثي منصباً في السنوات الماضية على القرى والمدن الليبية، فكنت بصورة لا شعورية أسجل وأكتب النص الكامل لجميع الوثائق الخاصة بولاية طرابلس الغرب والأقضية والنواحي والمدن والقرى التابعة لها.


في بداية بحثي عن المدن والقرى الليبية في سجلات المحاكم الشرعية العثمانية كان هدفي كتابة دراسة أو مقالة عن ولاية طرابلس الغرب في سجلات محاكم دمشق الشرعية، ولكن زيادة عدد الوثائق التي عثرت عليها والحجم الكبير للنصوص التي سجلتها أو كتبتها دفعني للتخلي عن هدفي في كتابة دراسة أو مقالة عنها ، إذ قررت نشر الوثائق الخاصة بهذه الولاية طرابلس وتوابعها وملحقاتها مع دراسة مختصرة عنها في كتاب، وقد استقر الرأي بعد دراسة محتويات أن يكون عنوانه « وثائق ولاية طرابلس الغرب في سجلات محاكم دمشق الشرعية العثمانية»(3).
لا أذكر أنني سجلت اسم مدينة أو قرية ليبية في سجلات محاكم دمشق الشرعية العثمانية التي كتبت في أربعة قرون هجرية تبدأ من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الهجري، واستمر الحال على هذا النحو إلى أن بدأت بقراءة السجلات المكتوبة أواخر ذلك العهد، وتحديداً السجلات التي كتبت في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري / الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت طرابلس الغرب أول مدينة ليبية تذكر في وثيقة من وثائق هذه السجلات، وقد كتبت هذه الوثيقة سنة (1301هـ/1884م ).
والمفارقة أن ذكر هذه المدينة في هذه الوثيقة لا يرتبط باسم مواطن ليبي بل باسم علي آغا بن مصطفى آغا ابن مصطفى آغا قصاب باشي، وهو مواطن دمشقي من محلة الصالحية كان مقيماً في محروسة طرابلس الغرب، وتوفي فيها سنة (1286هـ/1869م)(4).
وذكرت طرابلس الغرب للمرة الثانية في وثيقة رقمها 163 من السجل 1056 يعود تاريخها إلى سنة (1313هـ/ 1895م) وفي هذه الوثيقة أيضاً ارتبط اسم المدينة باسم محمد فيض أفندي ابن المرحوم الحاج محمد بن حسن الحلبي الأصل المتوطن بدمشق الشام في محلة العمارة، ومما جاء في الوثيقة أن محمد فيض أفندي سافر إلى طرابلس الغرب يوم 15 ربيع الآخر سنة عشر وثلاثمائة وألف.
بعد هذا التاريخ لم نعد نجد ذكراً لمدينة طرابلس الغرب في سجلات المحاكم الشرعية العثمانية، وعادت وثائق طرابلس الغرب تظهر من جديد في سجلات الربع الثاني من القرن الرابع عشر الهجري وتحديداً بين عامي (1330 ـ 1336هـ/ 1912 ـ 1918م) وكان معظم هذه الوثائق في سجلات الوكالات والمخلفات والنفقات.


ذكر في هذه الوثائق أسماء أشخاص وعائلات ومدن ونواحي وقرى وأزقة وشوارع وقطع أراضي ودور سكن في ولاية طرابلس الغرب، وغالباً ما كان يرد إلى جانب الأسماء رتب عسكرية عثمانية، وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من جنود الجيش العثماني المجندين في ولاية طرابلس والذين تم فرزهم إلى ولاية دمشق.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن تجنيد الشبان العرب في الجيش العثماني قد بدأ منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً سنة (1266هـ/1849م) وقد أرسلت مجموعة من المجندين االليبيين في الجيش العثماني ومجموعة من الموظفين الليبيين إلى ولاية دمشق وغيرها من الولايات العثمانية، ويبدو أن ذلك كان من أهم الأسباب تواجد الطرابلسيين في دمشق أواخر العهد العثماني.
ويبدو أن طول مدة خدمة هؤلاء في دمشق جعلتهم يفضلون البقاء والإقامة فيها بشكل دائم، وقد انسجم هؤلاء مع المجتمع الدمشقي بسرعة كبيرة إلى درجة أن عدداً كبيراً منهم أصبح في مدة وجيزة من وجوه ومعتمدي محلة طريق جادة الصالحية ومحلة المهاجرين، وهذا يدل أيضاً على محبة الدمشقيين لهؤلاء المهاجرين، مما ساعد في اندماجهم بالمجتمع الدمشقي، فأصبحوا من مكوناته الأساسية ونقلوا إليه بعضاً مما حملوه معهم من عادات وتقاليد أبناء ولاية طرابلس الغرب.


إقامة هؤلاء في دمشق لن تكون ممكنة إلا إذا كان لهم أملاكهم الخاصة بهم، ولتوفير المال اللازم لشراء هذه الأملاك كان عليهم بيع ممتلكاتهم في ولاية طرابلس الغرب، وغالباً ما كان البيع عن طريق وكيل أو أكثر، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت من اسم طرابلس الغرب يتكرر في سجلات الوكالات.
وقد ذكرت سجلات المخلفات أسماء عدد من العسكريين والموظفين الطرابلسيين وممتلكاتهم وورثتهم بعد وفاتهم في مدينة دمشق.
ولاحظت من خلال الوثائق أن إقامة الليبيين الأوائل في دمشق كانت في جادة الصالحية، وتحديداً في محلة الشهداء ومحلة المهاجرين ومحلة المغاربة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محلة السويقة سكنها المهاجرون الجزائريون والغاربة.
ولم تذكر الوثائق عائلة ليبية سكنت في محلة السويقة، ويبدو أن سكن العائلات الليبية الأولى التي قدمت إلى دمشق في جادة الصالحية جعل العائلات التي أتت بعدها تسكن في ذات المكان لما يجمع بين هذه العائلات من عادات وتقاليد وصلة قرابة وتاريخ مشترك.
والجدير بالذكر في هذا المجال أن الدفعة الثانية والكبيرة من المهاجرين الليبيين قدمت دمشق في النصف الأول من القرن الماضي، وكانت البداية أوائل العقد الثاني من ذلك القرن حين أقلت سفينة تركية 1500 من المجاهدين الليبيين مع عائلاتهم من ميناء قابس التونسي إلى ميناء اللاذقية على الساحل السوري، وقد توزع هؤلاء بعد نزولهم على الأراضي السورية، ومنهم من أقام في المدن التركية(5).
وبعد ذلك كانت هجرة الليبيين إلى بلاد الشام بين مد وجزر إلى أن تحقق إجلاء القوات الايطالية عن الأراضي الليبية فعادت بعض العائلات إلى الوطن، واستقرت أخرى في دمشق، وتوزع بعضها الآخر بين سوريا وليبيا، وهاجر بعضها الآخر إلى تركيا ومصر.
وقد ذكر تيسير بين موسى في كتابه « كفاح الليبيين السياسي في بلاد الشام » أسماء 150 عائلة من العائلات الليبية التي أقامت في سورية(6).
في وثائق سجلات المحاكم الشرعية العثمانية وجدت أسماء مدن ليبية، وهي: طرابلس والخمس وغريان وقرية وحيدة هي سيلين، وجميعها كان يتبع ولاية طرابلس الغرب، وكانت مدينة طرابلس الوحيدة من بين المدن والقرى الليبية التي ذكرت الوثائق نواحيها وشوارعها وزنقاتها، فقد ذكرت الوثائق من نواحيها ناحية المنشية ومن محلاتها محلة سوق الترك ومحلة ميزران ومحلة تكية الخلوتية ومحلة سيدي ابن الإمام، وذكرت من شوارعها شارع الزاوية في ناحية المنشية، والشارع الغربي، ومن أزقتها زقاق شايب العين في محلة سوق الترك وزقاق ابن موسى في محلة ميزران، ومن الزنقات زنقة الجيفة في شارع الزاوية.


وذكرت وثائق سجلات المحاكم الشرعية العثمانية أيضاً أسماء مجموعة كبيرة من الليبيين أقاموا في مدينة دمشق، أو ليبيين من سكان مدينة طرابلس الغرب وتوابعها، وكان يطلق على الليبي المقيم في دمشق اسم مغربي طرابلسي، ويلاحظ أن العائلات الطرابلسية التي ذكرتها الوثائق كانت عائلات معروفة مثل: ميزران، الجهاني، صدقى، المرابط، باش إمام، النفاتي، الأرنبود، آغا الطرابلسي، الضفايري، القابسي، الترك، الشلادي، غلبون، التركي، القلالي، الطوبجي، خضورة، الوحيش، كعبار، دربيك، لمامة، الفقهي، الفساطوي .
وذكرت هذه الوثائق أيضاً أسماء أراضي وبساتين ودور سكن في مدينة طرابلس الغرب، وذكرت أيضاً أسماء أصحابها وحدودها، ولا يقتصر الأمر على مدينة طرابلس الغرب بل تجاوزه إلى المدن والقرى التابعة لها كغريان والخمس وسيلين.
يلاحظ القارئ في الوثائق المشورة في هذا الكتاب أن بعضها قد تكرر في أكثر من سجل، وهذا ناتج بطبيعة الحال عن تطور ما في القضية المرفوعة أمام المحكمة، ومن ذلك أن تكون زوجة المتوفى حاملاً، أو أنها تسقط حملها، مما يستدعي إعادة توزيع التركة من جديد …
بلغ عدد الوثائق الخاصة بولاية طرابلس الغرب في سجلات محاكم دمشق الشرعية والتي نشرناها في متن الكتاب 38 وثيقة، ونشرنا في الهامش ملخص 7 وثائق وفي المقدمة وثيقة واحدة، فيكون مجموع الوثائق 46 وثيقة.
كتبت هذه الوثائق باللغة العربية الفصحى التي لا تخلو من كثير من الأخطاء الإملائية والنحوية، ومصطلحات وألقاب متداولة من اللغة التركية العثمانية، نشرتها دون أي تدخل مني في صياغته، وعلى العموم فإن القسم الأكبر من هذه الأخطاء تتركز في كتابة أرقام المبالغ المالية أو التواريخ والسنوات، ولذلك فإن تصحيحها أو عدم تصحيحها لن يوثر على محتوى الوثائق أو يغبر في مضمونها.
وبطبيعة الحال فإن العثور على هذه الوثائق لم يكن بالأمر السهل، فقد أخذ ذلك مني سنوات قرأت خلالها القسم الأكبر من سجلات هذه المحاكم، ولكن رغم صعوبة الوصول إلى هذه الوثائق إلا أنني كنت سعيداً جداً بنشرها في هذا الكتاب، لأنني من خلالها قدمت للقارئ العربي معلومات عن طرابلس الغرب لا يمكن العثور عليها في المصادر التاريخية.
دمشــــــــــــق
1 / 6 / 2008
ـــــــــــــــــ
(1) يحتوي مركز الوثائق التاريخية بدمشق على 1610 سجلاً من سجلات محاكم دمشق الشرعية في العهد العثماني، وقد كتبت هذه السجلات في سبع محاكم، وهي التالية: محكمة قناة العوني الشهيرة بالعونية، محكمة الباب، محكمة البزورية، محكمة السنانية، محكمة الميدان، محكمة الصالحية، محكمة القسمة العسكرية، محكمة القسمة البلدية.
(2) لا نستغرب ذلك لأن عددا كبيراً من المدن والقرى اللبنانية والفلسطينية والأردنية كان تابعاً لولاية دمشق في العهد العثماني.
(3) حصرت اهتمامي في هذا البحث بالمدن والقرى الليبية.
(4) سجل 799 : وثيقة 157.
(5) مركز جهاد الليبيين: المكتبة الصوتية ، رواية أبو القاسم علي ضو كلا: 6 / 59 ـ 60 ـ 61 .
(6) وهي التالية : « الأحمر بن عمار، أدهم، ازمرلي، الإفريقي، الإمام، الأوجلي، الباجقني، باش إمام، بدر الدين، بريون، بكباشي، بلحاج، بلقاسم المصراتي البحري، بن أصيبع، بن جبير، بن خليفة، بن سلطان، بن شعبان، بن ضو، بن عريبي، بن عون، بن عون موسى، بن غريبة، بن غوقة، بن غومة، بن قدارة، بن قدورة، بن مصباح، بن موسى، بن يزيد، بن هروس، بني، بو حنظولة، بو حشيم، بورقيبة، بو ريعية، بوشينة، البوصيري، بو عيشة، بو مدين، التركي، الترهوني، التواتي، جاد الله، الجربي، الجزيري، الجودي، الحاج عيسى، الحجاجي، الحجوي، الحداد، الحدودي، حسن تحسين القاضي، حسون، الحشاني، الحصايري، الحفيان، الحفيري، حفيظ، الحنش، خلوصي، الخوجة، الدخيل، الدريدي، دريزة، الرخيص، رمان، الرئيس، الزاوي، الزرقاني، الزروقي، زغلان المصراتي ، زكلام، زكلوم، الزليطني، الزنتاني، سالم، الشالاتي، شاهرلي، الشريف، الشعتاتي، الشلادي، شنيب، الشويهدي، الصفالي، الضبع، الضفايري، الطرابلسي، طرابلسي، الطليوني، العالم اليعقوبي، العباني، عبد ربه، العمامي، العروسي، العلواني، عمران، عويدان، عياد، العيساوي، الغالي، الغرازي، الغرياني، الغالب، الغول، الفارسي، الفراح، الفرجاني، الفقيه حسن، الفيتوري، القابسي، قادبورة، قيراط، الكريتلي، كريديغ، الككلي، الكوارة، كوانين، الكيلاني، محمد دربيكة، مختار دربيكة، مديكير، المرموري، المريمي، المزروطي، المزوغي، المسقودي، المغربي، المناعي، المهندس، موسى، الموقت، الناكوع، النايلي، النعاس، النفاتي، النوال، هبهب، يوسف المسلاتي ».

مقالات ذات علاقة

تأملات .. الأوطان والخونة

حسين عبروس (الجزائر)

‘الشيخ زايد للكتاب’ تعتمد خمس لغات في ‘الثقافة العربية’

المشرف العام

الأوتوبيوغرافيا في مَزاغل قيس مجيد المولى

المشرف العام

اترك تعليق