من الناحية الفنية تعتبر تقنية الحوار عنصراً مهماً في كل السرديات الحكائية الروائية والقصصية على وجه الخصوص. وهو يمثل عصب التشويق والجاذبية في النص القصصي القصير لأنه يختزل أحداثاً زمنية عديدة، ويختصر أنفاسَ مساحةٍ متباينةٍ بهدف توطين رسالة القصة في فكر المتلقي، إضافة إلى أدواره الأخرى التي يؤديها.
ومن الصور الشكلية التقليدية لتموضع الحوار في هيكل النص القصصي هو أن يكون جزءاً في وسط وثنايا السرد النثري، بحيث لا يطغى عليه أو يحتويه. وما لاحظناه في قصة (العجوزان) للأستاذ القاص الليبي محمد المسلاتي أنها اكتظت بالاندهاش المفاجئ الذي انبعثت منه روح مليئة بالحبور والسعادة والفرح والتشويق، وفجّرت تلك المشاهد الأولى قدرات القاص على صناعة ديناميكية حوارية متبادلة بين شخصيتي القصة (المرأة والرجل)، فجاءت متوازنة بينهما، وغزيرة ممتعة بالذكريات المشتركة. وقد تأسست هذه الحوارية منذ استهلالها على تلك الدهشة الايجابية للصدفة، أي القبول والترحيب بها بدلاً من الابتعاد والنفور منها، وهي بذلك استنطقت أحداثاً ماضوية جميلة جمعتهما، كشفت بعض تفاصيل محطات ذكرياتهما، وأبانت مدى تعلقهما بها، وأيقظت رغبتهما الجياشة للعودة إلى أحضان وأجواء أزمنتها الغابرة التي مضت، وهو ما تعبر عنه المفردة اليونانية القديمة “نوستالجيا” أو الحنين إلى الماضي لما فيه من ذكريات بهيجة ولحظات سارة:
(– مَنْ؟
– أنتَ
– أنتِ
– يا لها من مُصادفة!
– مصادفة؟ إنها أكثر من ذلك. لا. لا أصدق عينيّ، أيمكن أن يحدث هذا يا إلهي؟
هكذا، فجأةً نلتقي بعد خمسين عاماً، أهي الدنيا صغيرة إلى هذا الحد. أم أن الأمورَ تعيدُ نفسها؟)
إنّ الحوار الديناميكي التفاعلي في قصة (العجوزان) ظل طوال السرد مفعماً وحيوياً بكل سلاسة، مما ولّد رغبة أكيدة لدى القارئ لملاحقة وقائع النص المشوق، وشده وإشراكه في تأثيث فضاء القصة بالعديد من الاستباقات لصيرورة أحداثها السردية، وكذلك نسج توقعات خيالية لمآلها وخاتمتها تعكس مدى حضورها فيه وسطوتها عليه.
وقد ارتكز الحوار الثنائي في قصة (العجوزان) على عنصرين مهمين حققا بهما القاص الأستاذ محمد المسلاتي هدفه وغاياته في كسب ود وتعاطف القارئ وقبول نصه، ومن ثم استطاع بعد ذلك توطين رسالة قصته في عقله ووجدانه، أولهما اللغة السردية الضاجة بالعذوبة والرقة، حتى أن مفرداتها ظلت تتهادى وتتراقص في كل جزئية منها وهي تطوق القارئ بجمالياتها وإيقاعها الباطني الخافت. وثانيهما هو غزارة الأسئلة المتوالدة أثناء الحوار بين الشخصيتين والتي ظهرت عفوية متتابعة، وإنسيابية متبادلة استطاعت التوغل بعمق لربط أزمنة اللقاء الراهن بتلك الأحداث الماضوية البعيدة، معززة بتنوع أدوات الاستفهام التي تسلسلت (من، ألم، أين، ما، متى، لماذا، والألف “أليس، أتذكر، هل)، وهذا التعدد في التنوع الاستفهامي يمنح النص، من خلال الاجابات المستمدة منه، مسارات متفاوتة تزيده ثراءً لغوياً وتفاعلاً حسياً وتعزيزاً لموضوع رسالته.
وفي جانب فني آخر نجد القاص قد برع في استخدام لغة وصفية قرّبت العديد من الأماكن والأحداث والشخوص إلى ذهن القارئ، وحركتها في إطار أدوارها الاجتماعية وعلاقاتها القصصية، وجسّدت ملامحها وطباعها، وقارنت بين المتغيرات التي طالتها في الشخصيتين، وقد استعرض الوصف بعض محتوى القاموس اللغوي للقاص، وأكد أنه ثري وزاخر بما تحتاجه القصة من مفردات لغة رقيقة تحقق مراميه.
وإلى جانب لغة وصف الشخوص والماديات فإن مشاعر اللهفة التي طفحت بشكل متدفق وقوي في القصة قد أبرزتها هذه اللغة الرشيقة في تعبير الرجل وإصراره وإلحاحه من خلال تكرار فعل الأمر “حدثيني” وعمومية طلبه في قوله:
(- حدّثيني، حدّثيني عن كلِّ شيء، أريد أن أختصر الزمن كله في لحظة…).
كما أن تقنية الاسترجاع الزمني أو (الفلاش باك) التي استعان بها القاص في مواضع كثيرة من النص أتاحت للقارئ التعرف على الكثير من الخلفيات القديمة في العلاقة بين الشخصيتين، وما تحتويه من خصائص متشابهة ومشتركة بينهما، وأيضاً أدت دورها في الإبقاء على التواصل بين أزمنة القصة والسرد وربطها معاً:
(أتفقُ معكَ، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة انظر، ألا تبدو الشمس كما بدت يوم التقينا منذ خمسين عاماً، السطوع نفسه.
السماء لها الزرقة نفسها أشياء كثيرة لم تتبدل، المدينة وحدها اتسعت، كبرت بميادينها، وشوارعها، البيوت تزاحمت لكن اللحظة لم تتغير.. أليس كذلك؟
بلى! بلى!
– هل تصدقين أنني أرتجفُ الآن كما ارتجفتُ عند أول لقاء بيننا.
– عاودني الارتباك، الخجل، الحيرة، كنتُ وقتذاك أبدو مثل طفلةٍ لا تجيدُ التصرفَ حتى أنني لم أقوَ على النظر في عينيكَ. النظرة الشغوفة ذاتها، الباحثة وراء خجلها عن عشرات الإجابات لأسئلة حائرة.)
إن نص (العجوزان) لم يكن أبداً مجرد قصة قصيرة يتخللها حوار ثنائي، بل هو حوار انسيابي زاخر بكل عناصر القص والسرد، ومكتظ بقوى التشويق والجاذبية، صاغت ثنائياته الجدلية حكاية مصادفة طريفة، جاءت مطرزة بأنفاسٍ عاشقةٍ للهفة والمباغتة والبهجة، تنشد الفرح واللقاء وإن طالت سنوات البعاد، وهو ما يؤكد عدم ارتهان فكر القاص لهيمنة وسطوة الماضي السلبية، ومهاراته وقدراته على خلق فضاء أفضل لمستقبل واعد يوطن أمنياته الخيّرة دائماً في الفكر والوجدان، لذلك فهو بعد الاسترسال الوصفي الفسيح في نهاية قصته (العجوزان) تفنن في الاتكاء على المجاز الدلالي واستمد من أحد أطراف الجسد وهي (اليد) لدى الشخصيتين، كياناً تعبيرياً متكاملاً، جعله متداخلاً وموحداً فيهما، لتوثيق اللحظة السردية الراهنة، وتعزيزها بذكريات أيام الصبا والشباب الحالمة وهي تصبو إلى الغد الموعود، وتنحت صور المستقبل المشرع على نوافذ الحياة التي وضع قواعدها وأساساتها القاص البارع، بينما ترك تفاصيلها للخيال الخلاّب كما ينسجه ويحبه القارئ (مدّت يداً معروقة خشنة مرتعشة، تلقفتها يده بشراهة السنوات الغائبة . . اليدان عصفورتان مهاجرتان التقيتا، نامت يدها بين أصابعه، وثبت في أعماقها صبيّة غضّه تركض بحبور طاغ، قفز في أعماقه صبيّ مشاكس، انطلق صوب الصبيّة يمازحها.)