برفيسور عمر السيد الطيب العباس بدر | السودان
سُئلَ بائع خزفٍ عنْ بيت شعر فقال: هذا لو نُقر لطنَّ.
دفعت إليَّ الكاتبة : غالية يونس بمجموعة من أقاصيصها ” متاهة الحيّ الشرقي ” ، وأول ما استوقفني عبقريتها في اختيار المدخل لكل أقصوصة :
عرفناك باختيارك مذ كان
دليلاً على اللبيب اختياره
فكانت هذه المداخل نصوصاً مُختارة بعناية لشعراء وكُتّاب وفلاسفة ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بطرحهم على بساط أعمالهم الكثير من القضايا ذات البعد الإنساني ؛ (فنيتشه) و(همنقواي) و (مي زيادة) و(جبران خليل جبران) و(عائشة تيمور) و(نوال السعداوي) و(نزار قباني) و(ابن عربي) وغيرهم ممن ترك بصماته على منظومة الآداب العالمية شعراً ونثراً ، حيث كان لهذا الاختيار الموفق أثره في الإيحاء إلى القارئ باكتشاف هذه العلاقة المتداخلة بين هذه الأقاصيص ، والذهاب بها لفك رموزها و إيحاءاتها ودلالاتها.
القراءة الأولى لأقاصيص “متاهة الحي الشرقي” تُحس فيها أن الصورة غير واضحة المعالم ، وقد يشوبها بعض الغموض، لكنه غموض الصبح الذي يعقبه الشفق ، فإذا أمعنتَ في القراءة فسرعان ما تتشكل الصورة كأنها وليد ينمو و يتخلق شيئاً فشيئاً أمام حدقة الوجدان ، وذلك من خلال تداعي الأحداث في مجمل الأقاصيص ، هذه الأحداث التي يُمسك بعضها برقاب بعض في وحدة موضوعية مذهلة.
يُلاحظ أنَّ الأداء الرمزي عند (غالية ) له خاصية استنتاجية رائعة ، هذه الخاصية تتعدى مدى التماثل والتشابهة في كلِّ قصة ، فشهرزاد في متاهة الحي الشرقي تختلف عنها في ” حكاية امرأة” أو ” انتشاء زائف أو المنبوذة ، أو غيرها من الأقاصيص الأخرى ، وهذه الدلالات المختلفة لشهرزاد في كل قصة سرعان ما تنكشف أسرارها عن طريق الإيحاءات المختلفة لإعطاء الأقاصيص انسجاماً واضحاً حول موضوعها ، وهو المرأة والطفل في عالمنا العربي .
وهذه الأقاصيص في مجملها عبارة عن نماذج متعددة متحدة الموضوع والرؤيا تحكي أزمة الإنسان المعاصر ومكونه الأساسي المرأة والطفل.
واللافت في أقاصيص ” متاهة الحيَّ الشرقي ” يروعه احتواء كلِّ أقصوصة على رموز تراثية ، تتداخل مع الحركة الزمانية حيث ينسكب الماضي بكل آثاره وتوفزاته وأحداثه على الحاضر بكل مآلاته من مفردات اللحظة الحاضرة، فيما يُشبه تواكباً تأريخياً يُدخل الحاضر في أتون الماضي ، ولعل هذا الاستلهام الذاتي يُمثل صورة احتجاجية على اللحظة الآنية ، والتي تعادلها في الموقف اللحظة الساردة في غياهب الماضي، فيتيح هذا الاستلهام للمتلقي الاتكاء على ما تفجره الشخصية التراثية متمثلة في “شهرزاد”، أو الشخوص والمواقف التأريخية الأخرى من مشاعر ودلالات تحكي أحوال عالمنا المعاصر.
فشهرزاد هي الرمز الحاضر والمهيمن على جُلِّ أقاصيص متاهة الحي الشرقي ، وهي واسطة العقد في الوحدة الموضوعية لكل الأقاصيص ، حتى إذا اختفت اختفاءً قسرياً كما في أقصوصة ” القرطاس” ؛ ليهمن شهريار الرجل على الأحداث في غيابها ” فيتنفس الصعداء ، ويستنشق عبق المسك ، ويملأ رئتيه بالعنبر”.
طالع: العنف ضد المرأة في الرواية النسويّة الليبيّة.. رواية “قوارير خاوية” نموذجاً
وكان لاختفاء شهرزاد في أقصوصة ” ذكورة ” دليلاً واضحاً على ذلك الإيحاء الرامز في كل الأقاصيص على سيطرة الرجل ، فلا غرو أن يأتي عنوان القصة ” ذكورة ” حيث حكم على حواء بالزندقة ، وأجلسوها على الكرسي الكهربائي لتظهر في القصة الأخيرة تائهة على رصيف المتسولين والمشردين ، فتأمل…!!
وهذه النهاية التراجيدية للمرأة ومن قبلها الأطفال في الأقاصيص الأخرى ، تحكي أزمة عالمنا المعاصر ، وما أفضت إليه هذه الأزمة من تداعيات تعبر عن قضايا وطنية ومشكلات سياسية وتحديات تواجه عالمنا العربي اليوم .
وأخيراً ، فإن هذه الأقاصيص قد أثبتت الكاتبة من خلالها مقدرة فائقة في استدعاء مفردات التراث المختلفة والتي شكلت هيكلاً رامزاً اتخذت من أحداثه برزخاً بين مسارب النفس لدى المتلقي ومدركاته بتكثيف لغوي مذهل ؛ لهذا فنحن موعودون منها بالكثير المثير فهي تمتلك ناصية اللغة وإيحاءاتها ودلالاتها ، علاوة على ثقافة مقدره في التأريخ والتراث ، الأمر الذي يُكسب أعمالها بعداً مثيولوجياً رائعاً ، ((وإن في الخمر معنى ليس في العنب)).
لهذا وذاك فإن أعمالها الأدبية حريّة بالقراءة والاهتمام ، والتأمل والنقد.
وفقها الله وسدد خطاها على طريق الكلمة الهادفة .
حُررت في مدينة الخرطوم \ السودان
العاشر من يوليو 2014م
أستاذ كرسي الأدب والنقد بالجامعات السودانية، وعضو مجلس أمناء جائزة الطيب الصالح العالمية لإبداع الروائي.