يشرع موقع بلد الطيوب في نشر رواية (الحرز) للقاص والروائي “إبراهيم عبدالجليل الإمام“، على أجزاء بشكل أسبوعي!! قراءة ممتعة للجميع…
47
شعرت بدوار.. مادت بها الأرض.. حاولت السيطرة على نفسها خشية السقوط.. سارت خطوات ألى الأمام بحثا عماً تستند إليه.. بحثت بيديها في الفراغ المعتم أمامها.. تذكر أن فتحة التهوية في أعلى سقف التمانحت كانت مفتوحة قبل بدء وصلة العزف.
ما سبب كل هذه الظلمة إذا؟
دارت بها الدنيا.. أزاحت الرداء الأسود عن وجهها.. فتحت عينيها..اختفت معالم المكان.. لكن صوت الربازة لا يزال يصلها.. لم تعد تسمعه بأذنيها بل بكل جوارحها… قاومت السقوط.. تقدمت خطوات أخرى بحثاً عن جدار.. تعلم أن مساحة التمانحت ليست بهذا الإتساع.. غيرت اتجاهها وسارت عدة خطوات مصاحبة لايقاعات انداكلال.. لكن لا جدار في هذا الإتجاه أيضا.. تراجعت خطوات.. تماسكت بعد أن أوشكت على السقوط.. ترنحت.. شعرت بقدمها في الفراغ.. حاولت أن تتراجع.. كان الأوان قد فات.. فقدت توازنها.. سقطت في الفراغ المظلم.. صرخت في رعب.. الغريب أنها لم تسمع صرختها.. صوت الربازة يبتعد.. يبتعد… يبتعد… لم تعد تسمعه الآن.. فجأة توقفت عن السقوط.. كانت تقف على الأرض الان من جديد.
جثت تتحسسها.. ملمسها يختلف عن أرض تمانحتها.. أزاحت الرداء عن وجهها.. فتحت عينيها.. اعتادت عيناها على العتمة.. من مكان ما ينبعث ضوء خافت.. شيئا فشيئا انزاح شيء من الظلمة.. تبينت جدران كثيرة.. متداخلة.. مختلفة.. سوداء.. شعرت بضيق في التنفس.. عبت من الهواء الممزوج رائحة البخور بشراهة.. استجمعت ما تشتت من شجاعتها.. صوت مألوف يصلها من مكان ما.. سارت خطوات لتتبينه.. انعطفت عدة مرات بين الجدران المتداخلة.. ازداد وضوح الصوت.. عرفته الآن.. انه صوت الربازة.. منحها ذلك شيء من الثقة.. لكنها تسمع عزف الربازة وحدها.. دون ضربات إيقاعات انداكلال.. لا تصفيق كذلك.. لا غناء.. لكنها تبينت اللحن المعزوف جيدا.. سارت خطوات أخرى لاستكشاف المكان.. شيء ما يجعلها تتبع صوت عزف الربازة.. أسرعت بخطوها نحوه عساها تجد مخرجاً.. تصحح مسارها بين الجدران في كل مرة تخطيء فيها في اختيار المنعطف الصحيح.. وجدت نفسها أخيرا في ساحة واسعة.. أكبر من ساحة عرشها بعدة مرات.. أكبر من بستان زوجها.. أبواب كثيرة موصدة موزعة على الجدران.. صوت الربازة قادم من خلف إحداها.. ينتابها إحساس أن هذا العزف هو ما سيقودها نحو شيء ما أو مكان ما.
تعرفت بسهولة على الباب المنشود ..
دفعته.. سارت في ممر طويل.. اشبه بزقاق من أزقة الواحة.. أكثر اتساعاً وأعلى سقفاً وأكثر إضاءةً.. أبواب أخرى كثيرة على جانبي الزقاق.. وقفت أمام الباب الذي ينبعث منه عزف الربازة..
دفعته.. دخلت.. صعدت عدة درجات.. وجدت قاعة أشبه بتمانحت بيوت الواحة.. لكنها بلا مرايا.. تزدان جدرانها برسم واحد يتكرر بأحجام مختلفة.. رسم تعرفه جيدا..
خاتم سليمان!
وقفت في منتصف القاعة.. جالت ببصرها بحثا عن شيء ما.. واصلت الربازة عزف نفس اللحن.. شعرت بحركة في مكان ما.. الغريب أنها لم تشعر بخوف قدر ما شعرت برغبة لمعرفة سبب وجودها في هذا المكان الغامض.. سمعت صوتاً يتخلل عزف الربازة.. صوتا تعرف مصدره.. اهتز لها كامل جسدها..إنه صوته.. صوت رضيعها المفقود.. تذكرت الآن كل شيء.. تذكرت وصية القادم الغريب.. تذكرت تحذير الشقيقة..
تماسكت.. لكنها فقدت السيطرة على دموعها.. لا تذكر أنه حذرها من البكاء.
في غرفة بلا باب وجدته جالسا.. يلعب بشيء ما.. انتبه لوجودها.. ابتسم لها.. أشار لها بلعبته.. همت باحتضانه.. لكنها توقفت في آخر لحظة.. تأملته طويلاً.. سحت مزيدا من الدموع.. استخرجت التميمة من جيب ثوبها.. اقتربت منه.. مسحت على رأسه علقتها على عنقه.. أمسك بها بيمناه.. صوت الشقيقة يهمس لها في أذنها:
– عودي الآن.. هيا قبل أن تضعفي.
سقطت مغشيا عليها