زمزم سيدي كوري
الحياة مكلّلة بالمتاعب، والوهن عاقبة النّساء أينما وجدن وجد التّعب.
فمنذ الحرب الأخيرة أصبحت “مرزق” بائسة، فاقدة الأمل تائهة في أزقة الألم، أنّها تقاسي الأمرين منذ أيّام، فهي ابنة وطن شتت وحدته، ومزق نسيجه، وهي الأم الّتي تنتظر الخلاص، وها هي تمضي حافية القدمين نحو المجهول، ساعية وراء سراب النّجاة، أم شاردة بجنين يكبر في بطنها يومًا بعد يوم، مبيضة العينين من الحزن تنتظر من ينجيها من هذا العذاب من الغربة ومن جميع الآلام.
واللّيلة هي إحدى لياليها الصّعبة وغير المعهودة، استغرق المخاض أيامًا ليصل إلى ذروته في هذه اللّيلة، إنّها ولادة البكر، وهي صعبة على كلّ حال، قد يحدث تمزق إذا لم تسعف بشقّ عجاني لها، والمؤسف إنّها في كلا الحالتين معرضة للجرح، ولكنها تتمنى الفرق الّذي سيحدثه مشرط طبيب ماهر، الجميع ينتظر هذه الولادة، تمضي السّاعات كأنّها أيّام والتّقلصات في شدّتها كأنّها في النّزع، لا أحد يشعر بما تمرّ به في هذه السّاعات أيقنت الأم أن الآهات لا تأتِ بالفرج والدّموع لا تجلب الرّاحة، فلجأت لمناجاة الخالق.
فأضحت الآلام تحدث صدعًا في جدار الفاصل، تمزقت الأنسجة والأوعية، وأطلقت الأم صرختها الأخيرة، فأختلط دمها بدم ابنها إنّها نجدة السّماء… دعوات اللّيالي، تسبيح الجدات، بكاء الثكالى، والدّموع الأرامل، وظهر ما أخفاه الزّمن لأشهر، ليضيف وجهًا جديدًا، ونبضًا فريدًا، ليخبر العالم بأن الحياة تولد من ظلمات الثّلاث؛ الضّيق، الألم، الصّبر.
في تلك اللّيلة وضعت “مرزق” ابنها الأوّل وضعته أسمراً نحيف البنية، كيف لا وقد ولد من ضغط الحياة من الضّيق، والوهن.
ولد نحيفًا إذا نظرت إليه تعرفه ابن مَن هو، من صرخته الأولى القوية والمليئة بـ”الأنا” ولد وينتظره الكثير والكثير، فهو ابن الصّحراء، سيعيش أعوامًا تحت زرقة سمائها، ووهجة شمسها، يتخذ من الرّمال صديقًا دائمًا لا يفارقه، ستكون رحلته طويلة ومليئة بالمتاعب، فعليه أن يتحلى بالحكمة، وأن يتجرع صبر رمالها، ويتعلم شموخ نخيلها، فأمامه واجبًا فرض عليه لا على غيره، برقية سلم يسلمها لأجيالٍ تأتي من بعده، ودستور حياة تكون ركنًا شديدًا لأحفاده، أنه الطّفل الّذي ولد بمهام رجل أربعيني، فعليه أن يعيد للمدينة صفاءها بعد الكدر، ويعيد إليها بهجتها بعد الهم والحزن، ويبني مع رفاقه صرحًا آمنًا لأهلها وزوارها، وطنًا يحضن الجميع ويُبنى بالجميع!.