من منَّا لا يَعْرِفُ أبَا القاسم الشابي، الشَّاعِرُ التونسيُّ العبقريُّ، صاحبُ الكلمات المُرهفة، والقصائد التي تفيضُ حُبّاً ودقَّةً وعُمقاً وإبداعاً، فتنسابُ إلى النُّفُوس بسلاسةٍ مُنقطعة النظير، إنه شاعر الحرية والوطنية والذكريات الطلية، شاعر ذو نزعة رومانسية واضحة تقوم على الخيال المبتكر، والتصوير الفني البديع، وإذا نظرنا نظرة سريعة إلى قصائده فسنجد أنها متنوعة الأغراض والجوانب، ففيها الحب والعاطفة، والحزن والألم، والوطنية والتمرد، والغربة ومرارة الحياة، والتأمل الكوني، والعذاب النفسي، وهذا يؤكد عبقرية الشابي، الذي ظهرت مبكرا على مقاعد الدراسة كما يشير بعض الباحثين، ومما قاله في مذكراته: “ها أنظر، فإذا أصحابي المتوفون يعودون إلى الحياة ثانية، كأجل وأجمل ما عرفتهم أول مرة، وإذا نفسي معهم تمثل فصول الحياة الغابرة التي مثلناها بالأمس، وطوتها الدهور.. وتنسى متاعب العيش وأحزان الحياة، وتحسب أنها ما زالت تلك النفس التي عرفتها بالأمس مضحاكة فرحة كقبرة الحقول، وتنسى أنها أصبحت غريبة بين أشباح لا يفهمونها، وحيدة بين أنصاب جامدة، وتحركهم بواعث المادة”.. إن هذه القطعة النثرية تجسد قوة خياله في لقاء أصحابه الموتى الذين عادوا إلى الحياة من جديد في أبهى صورة، وتكشف عن شعوره بالغربة إذ تغير الناس من حوله، ولم يتغير، على حزن شديد مما افتقده، وألم بغيض مما يحيط به من الناس الذين صاروا أشباحا لا حقيقة لهم عند الوقيعة. (من “مقدمة” د.الحسيني الحسيني معـدِّي، ديوان أبو القاسم الشابي، تحقيق وتقديم: د.إسماعيل العقباوي، القاهرة: دار الحرم للنشر والتوزيع، 2012، ص ص5-6).
لقد قرأت ديوان الشابي “أغاني الحياة”، الذي شرع الشاعر في جمعه عام 1934م، لكنه توفي قبل أن يراه منشورا، وصدر بعد وفاته، قرأته في ذات صيف عندما وجدته في مكتبة أبي بطبعة لبنانية بهية قديمة، فأخذته وأصبح منذ ذلك الوقت رفيقي، ومن أكثر قصائده التي أحبها كثيرا “نشيـد الجبـار أو هكـذا غـنى بروميثيوس”، التي يقـول فيهـــا الشــــابي:
سـأعـيشُ رغـــم الداء والأعـــداء كـالنَّسْــرِ فــوق القـمَّــة الشَّمَّـــــاءِ
أرنُو إلى الشَّمس المُضيئة هــازئاً بالسُّحــب والأمطـــار والأنــــواءِ
لا أرمـقُ الظـلَّ الكَئِيـبَ وَلاَ أرى مَا فِي قَــرَارِ الهُــــوَّة السَّــــــوْدَاءِ
وأسيرُ في دُنيا المشاعــر حـالمـاً غَــــرداً، وتلك سـعــادة الشُّعـــراءِ
أُصْغِي لمُوسيقى الحياة و وَحْيِّهـا وأُذِيبُ رُوح الكَــوْنِ في إِنْشَـــــائِي
وأُصِيخُ للصَّــــوْتِ الإِلـهيِّ الـذي يُحْيِّ بـقـلْبِي مـيِّـتَ الأَصْـــــــــدَاءِ
لا يُطفئُ اللهَبَ المُؤجَّــجَ فِي دَمِي مَـوْجُ الأَسَى وعَــوَاصِــفُ الأَرْزَاءِ
فَاهْـدِمْ فُــؤادِي مـا استطعت فإنَّهُ سَيَـكُـونُ مـثـل الصَّخْـرَةِ الصَّـمَّــــاء
لا يَعْرِفُ الشَّكْـوى الذَّليلَةَ والبُكَا وضَــرَاعَـةُ الأَطْـفـــال وَالضًّعَـفَـــــاءِ
ويَعِـيشُ جـبَّاراً يُـحَــدِّقُ دَائِـمـــاً بِالفَجْــرِ، بِالفَجْــرِ الجَمِيــلِ النَّـــــائِي
النُّـورُ فِي قَــلْبِي وَبَيْنَ جَـــوَانِحِـي فَعَــلاَمَ أَخْــشَى السَّــيْرَ فِي الظِّـلْمــــــاءِ
وأذكر أنه في المرحلة الثانوية درسنا بعضاً من قصائد الشابي، ومنها هذه القصيدة الرائعة، “نشيد الجبار”، وعندما كُنتُ أغُوصُ في مثل هذه القصائد كُنتُ أقُولُ: كمْ هُو شاعرٌ كبيرٌ ومُبدعٌ، وذُو خبرةٍ طويلةٍ في الحياة، لقُوَّة التعابير، وعُمق الوصف والأمثلة، وجمال التَّصوير والخيال، وأحيانا لطبيعة المواضيع التي يكُونُ فيها جانبٌ من الفلسفة والدلالات المُختلفة، وكم تفاجأت عندما علمت أن الشابي من مواليد عام 1909،(في الشابية بتوزر في الجنوب التونسي)، وأنه توفي في عام 1934م، أي أنه عاش خمسة وعشرين سنة، فغادر الدنيا وهو في ريعان شبابه، وترك كل هذا الإبداع الشعري الرائع، وما زال صدى اسمه يتردد في العالم كله إلى وقتنا الحالي، وفي هذا الصَّدد يقُولُ إبراهيم العريس: “إذا انطلقنا في الحديث عن الشابي من الايحاءات التي يترُكُها اسمُهُ في ذهن القارئ، وأضفنا إلى ذلك نضوج شعره، وكونه مثل إلى فترة طويلة من الزمن ما يمكننا اعتباره (الجسر الشعري) الوحيد بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وعطفنا على كل ذلك بيت شعره الأشهر (إذا الشعب يوما أراد الحياة)، خيل إلينا أن هذا الشاعر قد عاش من السنين ما كفاهُ لكي يُكوِّنَ لنفسه كل تلك السمعة والمكانة، لكن هذا غير صحيح، فالشابي عندما توفي في أكتوبر 1934م، كان لايزال في الخامسة والعشرين من عمره، أي في تلك السن التي يبدأ عندها كثر بخوض الحياة، أو كتابة الشعـر”. (أنظر: إبراهيم العريس، “إرادة الحياة للشابي: النشيد الوطني من شاعر لم تمهله الحياة”، جريدة: الحياة، لندن، دار الحياة، العـدد: 19974،الثلاثاء، بتاريخ:14/نوفمبر/2017، ص 8.)
ذاق الشابي مرارات كثيرة في الحياة، منها: مرارة المرض، قصور في حركة القلب، كان يحمل بذره منذ طفولته، وزاد تعبه منه لاحقا، حتى كتب: يا إله الوجود هذي جراح في فؤادي تشكو إليك الدواهي.
كما أنه ذاق مرارة وفاة والده، الذي كان له سندا ومعينا، وما أقسى مرارة الفقد في الحياة، حتى قال:
يـــــا مـــوتُ قـــد مـــزَّقْـــتَ صَـــدْرِي وقـصــمْـــتَ بِالأرْزَاءِ ظَــهْــــــرِي
وَفَــجَـعْـتَـنِـي فِــيـمَــــــنْ أُحِــــــــــــــبُّ وَمَــنْ إِلَيـْـــهِ أَبـُـــــثُّ سِـــــــــــــرِّي
وَرَزَأْتَـنِـي فِـي عُـــمْــــــــــــــــــــــدَتِـي وَمشُـــورَتِي فِي كُـــــــلِّ أَمْـــــــــرِي
ثم عاد الشابي في قصيدته “قيـود الأحـلام” فكشف لنا بوضوح عـن حجم الأعباء التي ينوء بحملها، وتتمثـل في القيـام بأعـبــاء العائلة التي تركـهـا والـده الراحـــل، وهنا يقــول الشـاعـر:
لـكنَّني لا أسـتطـيــــعُ، فــــــــإنَّ لي أُمّــــاً، يَـصُــدُّ حَنَـانُهَــا أَوْهَـــــــامِي
وَصِغَــارُ إِخْـــوَانٍ، يَـرَوْنَ سَـلاَمَهُمْ فِي الكَـــائِنَــاتِ مُعَــلَّــقـــاً بِـسَـــلاَمِي
فَقَدُوا الأَبَ الحَــانِي، فَكُنْتُ لِضعْفِهِمْ كَهْــفـاً، يَـصُــدُّ غَــــوَائِـلَ الأَيَّـــــــامِ
وبعد هذه الرحلة المليئة بالتعب والألم والمرارات المتتالية، رحل الشاعر العبقري في شهر أكتوبر عام 1934م، في مستشفى الطليان في العاصمة التونسية، ونقل جثمانه إلى “توزر”، ودُفـن فيهــا..
وتمـر أيــام الحيــاة بنـا كأسـراب الطيور….. وترفــرف الأفــراح فـوق رؤوسنـا أنى نسيـر
من كتاب: خالد خميس السحاتي، ذاكرة القلم ونشوة الكتابة: مقالات وخواطر في الثقافة والأدب وأشياء أخرى، القاهرة: المكتب العــربي للمعــارف، 2018م، ص ص63-67.