الشعر وما أدراك ما الشعر، لقد عُدّت الكلمات المنظومة والأشطر الموزرنة بالإيقاع والقافية ديوان العرب قبل زمن ومضرب أمثالهم ومَعين حكاياتهم، يؤرخون من خلال المعلقات والأبيات الطِوال مكارم إنتصاراتهم ولوعة أفئدتهم وهجاء هزائمهم، وهكذا ظل للشعر هذه المكانة الرفيعة لا ينافسه فيها جنس أدبي آخر.
حتى مطالع القرن الثامن عشر حين بزغ نجم الرواية واستلقت الحكاية بكامل حُلِّيها على متن وسيع وصارت ذات تأثير كبير في أوروبا وبدأت رياح الثورة الصناعية تهب على بلاد الشرق مستثمرةً ما خلّفه زمن الإنحطاط والتراجع القهقري الذي كان ينخر في أوصال المجتمعات وقتذاك،ومن جملة المحدثات التي هبت على المنطقة العربية وألقت بظلالها على الثقافة العربية كانت الرواية بمثابة الوعاء الذهبي الذي أسال لعاب الكثيرين وأغرى بعض المتطلعين لبشائر الحضارة الغربية فتلقفها العرب بشغف مضاعف وإنكبّوا على قراءتها وشد حبال سطوتها، ولعلها كانت سانحة شرّعت الآفاق للعرب وعبّدت أمامهم الطريق للمرور على تجارب آداب وفنون العالم،غير أن هذا الوافد بتقنيته المستحدثة لم يحظى بالترحيب من قبل الجميع،فقد رأى بعضهم أن وجوده وتأصله سيشكل تهديدًا على الشعر وسيقوّض من أوتاده ! لينقسم الناس إلى فريقين، فريق أكثر انفتاحًا يرى أن جنس الرواية بناء يساعد على توطئة عامل التنوع في الأدب ويصيّر للبوح إطارًا وفريق آخر يجنح للصرامة والمحافظة فيرى بأن الرواية ستساهم في تغريب الشعر وهجر الناس له وبالتالي على تقاليد الثقافة العربية والإسلامية.
ونحن من خلال هذا الإستطلاع نطرح تساؤلاتنا هل حقًا الشعر وهنت قواه عقب إزدهار عصر الرواية ؟ لماذا لا ينافس الشعر مقام الرواية ؟ هل تتفوق تقنيات العمل السردي على تقنيات القصيدة ؟ أكان الشعر رافدًا في إنتعاش سوق الرواية ؟ أين يتوقف دور الشعر ويبدأ تجديف الرواية ؟ ذهبنا بتساؤلاتنا هذه إلى باقة من الكتّاب والأدباء والمهتمين فجاءت مشاركاتهم على النحو الآتي .
رحاب شنّيب: شاعرة وقاصة ليبية
إن الأجناس الأدبية كيانات حية تتطور بتطور المجتمعات الإنسانية، هذا التطور نلاحظ أنه وصل إلى حد تحرر النص الإبداعي الحديث لتصبح لديه المقدرة على التنقل بين أنواع الجنس الأدبي إلى حد التماهي في الآخر، وهذا التحرر نلاحظ أثره في القصيدة التي كسرت قيد تفعيلتها و لم تكتفِ بذلك بل إنها خلال هذا الانسلاخ في ظل الخيبات العربية حاولت الفرار كونها أيقونة النضال من صوت انكسارها إلى انبعاثها في الحياة اليومية متمطية صهوة سرد التفاصيل، تزامنا مع هذا الفرار الذي أطل بتبعاته على المتلقي العربي الذي هرب هو نفسه من الصراخ بصوته الجهور إلى الانكفاء فأختار البحث عن ذاته عبر صوت الروائي، فالشعر لم يتراجع بل تشكل بصورة أخرى هذه الآلية التي تشكل بها هي نفسها التي أوصلت القاريء إلى الرواية، لذا نستطيع أن نرى اندماجا بين المتلقي والشعر، فالشعر تواصل وتجدد يعطي دون أن يبحث عن صوت عال أو أن يخشى اندثاره لأنه ساقية الروح، القادر على خلق الحيوية إثر كل قراءة، الباعث على الإحساس بالوجود لقدرته على نبش الحنين، أما ما نراه من تغول الرواية على الشعر فهو تغول مادي خلقته متطلبات السوق الذي تأثر بالعرض والطلب حيث الجوائز و الأضواء التي صنعتها هيمنة اقتصادية بعيدة عن تفضيل جنس أدبي معين، ولا يعتبر هذا مقياسا للتفضيل فيمكن أن تتغير الدفة نحو أي جنس أدبي شاء الحظ أن تتجه نحوه الموضة وتجذب الأنظار إليه وفي كل الأحوال يبقى الأدب هو الكاسب في كل جولة وهذا مبتغانا.
محمد مركح : شاعر وكاتب سوداني
لا اعتقد بأن الشعر قد وهنت قواه و لا أريد أن أكون جذريًا وأقول بأن الشعر لن يبرح مكانه كديوان للعرب و موئلًا لتجربتهم الوجودية.أنظرلأول جملة نكتبها أو نريد بها توصيل ما تضج به الروح ستجدها شعرية في جوهرها لو جاز لي تعريف الشعر بأنه الوعي الجمالي بالأشياء. وهذا بالطبع لا ينفي مكانة الرواية و حظوتها لدى الكثيرين من قراء العربية فهي كما يبدو لي كأحد إحتمالات اللغة في تمظهرها كنسق تحكي فيه الذات عن عاديتها و يومياتها، ذلك التخفف من البطولة والأسطورة التي وسمت الشعر العربي في عصوره السابقة واستقرت في أذهان الكثيرين.وهنا يبرز سؤال التجديد في الشعر ليس كمشاريع دشن بنودها شعراء ينطلقون من ضحالة معرفتهم بتراث العربية وخفتهم في نقد الموروث الشعري، بل كرؤية جمالية ووعي يحرر طاقات مما أضمرته واكتنزته اللغة.
محمد إبراهيم الهاشمي: كاتب وقاص ليبي
الشعر لم تهن قوته، ولن يفقد ألقه أو مكانته يومًا.فالشعر الجنس الأدبي الأول والأزلي الحامل للواء الكلمة و النغم مجتمعين،والشعر عندما يكون شعرًا حقيقيًا و حاملًا لاشتراطاته الفنية والجمالية من كلمة في مكانها الصحيح ونغم وشعور خرج من وجدان صاحبه بدون تزييف حضوره في المكان لا يضاهيه حضور.
أما مشكلة الشعر في العقود الأخيرة تناقص عدد الشعراء الموهوبون القدرون على خلق قصائد وأبيات شعرية تحمل اشتراطاتها الفنية والجمالية و تلامس الوجدان والعاطفة.
لذلك الشعر في غربة.
لا تتفوق تقنيات أي جنس أدبي على الآخر،فلكل منها مقامها و أسلوبها وغايتها.وكلها تصب في نفس الغاية النهائية خلق أعمال جمالية تساهم في إثراء الحياة والنفس و مواساتها.
و لكن قوة الرواية كجنس أدبي فني في العصر الحالي، العصر الصناعي للألة يكمن في أنها الأقرب إليه، أي إلى العصر و إنسان هذا العصر الذي يعيش في عالم كثرت تشعباته، مغرياته و متطلباته، و علاقاته ازدادت تعقيدا و اضطرابًا.
و الانسان المعاصر وجد في الرواية قيمة فنية توفر له عالمًا موازيًا أقل حدة بكثير و أجمل.وأحيانا يساعد على فهم الواقعي والحقيقي ويقدم الحدث التاريخي بشكل أكثر متعة.عالم يعايش شخصياته وتفاصيلها،ما تحب وما تكره وكيف تعيش أطول فترة ممكنة ولهذا الإقبال على الرواية أكثر من القصة.
الرواية ملاذ نفسي فني وجمالي في عالم تشعبت تفاصيله وعلاقاته.
عزيز باكوش: كاتب وإعلامي مغربي
هل حقًا الشعر وهنت قواه عقب إزدهار عصر الرواية ؟
دعني أجرؤ وأقول ، لا أرى للشعر اليوم في الوطن العربي أعراضا للوهن ، كما لا أرى للرواية ازدهارا بالمعنى النبضي للكلمة .. بل خلافا لذلك تماما ، ثمة تنام مضطرد للبوح تضطرم به خفايا المشاعر وتزهر الأحاسيس الداخلية للناس متدفقة أنهارا وقصائد ، كما أن هناك تدفقا غزيرا في منسوب الكلام المقفى فاق كل خيال مجيد. وفي المقابل، قلة الاهتمام بجنس الرواية كمجال للإبداع الأدبي . ولنحتكم إلى دور النشر والمطابع ، حتى نتأكد من هذا الحدس الداخلي الكاشف
ولعل الراصد لمنحى الشعر الموزون ، عبر مساره الطويل الذي يضرب بتاريخه جذور الكلام ، سيرى أن تطورا ملحوظا وسم مشاعر وأحاسيس الناس ورسم لأمة الضاد نبض حياتها الزاحم بالبوح والهمسات وجعلها أكثر حيوية ودينامية ، و له من الأنصار والحلفاء اليوم ما يفوق حجم بحوره ، ويمكن للباحث المتخصص أن يجد الآلاف من الدواوين الشعرية المبثوثة في السماء أو الأرض . وحتى عندما ينزاح الشعر المقفى قليلا نحو المنثور ، تظل روافده الإيقاعية حية نابضة ، فهو يتمدد شعرا وقوافي معتقة ، ويتخذ له أشكالا وتقعيدات فرعية لكنها تخلص بشكل للأصل ، ليظل الإيقاع والقافية ، ذلك النغم الكوني العربي الهادر عبر الزمان والمكان دون نهاية .
لماذا لا ينافس الشعر مقام الرواية ؟
لا معطيات لدي كراصد ، تؤكد أي شكل من أشكال المنافسة بين القصيدة والرواية . لكني أقول كم يقرا الفرد العربي من رواية كل سنة ؟ وكم يقرا من قصيدة كل سنة ؟
بل يمكن القول بعيدا عن هذا وذاك أن كل من القصيدة والرواية كجنسين أدبيين يسير وفق معايير وتوصيفات فنية وأدبية لها ارتباط بدينامية المجتمع اقتصادا وسياسة واجتماعا . ويمكن للراصد أن يرى أن كل منهما يرسم مساره بعيدا عن الآخر، بل في تجاهل مقصود إذا ما نظرنا إلى انعكاس ذلك فنيا وجماليا على حياة الفرد في المجتمع وتأثيره . ومنسوب القراءة والإقراء ..
هل تتفوق تقنيات العمل السردي على تقنيات القصيدة ؟
في تقديري إن السؤال هنا يجب تحويره بنسبة 30 درجة، حيث يستوجب طرحه على النحو التالي : كيف تتماهى تقنيات العمل السردي مع تقنيات بناء القصيدة لدى القارئ العربي ؟ ليكون الجواب الأرجح هو الاحتكام إلى المطابع ودور النشر من حيث النفاذ من جهة ، وسبر أغوار الفعل القرائي كفعل متأصل في دواخل القارى المتعدد الاهتمامات من ناحية ثانية .
أكان الشعر رافدًا في إنتعاش سوق الرواية ؟
هل وجهنا استمارات للشعراء حول طبيعة ونوعية وأجناس الكتب والقراءات التي يقبلون عليها ؟ وهل وجهنا السؤال نفسه للشعراء عن آخر عمل روائي استمتعوا بتفاصيله السردية ؟
أين يتوقف دور الشعر ويبدأ تجديف الرواية ؟
لا أتصور توقفا ما لدور الشعر كمحرك أبدي للمشاعر والخيال عند بني البشر .. ولم استوعب فكرة التجديف ارتباطا بطبيعة السؤال.