قراءة في الأنساق الثقافية
د. رضا محمد جبران
جامعة طرابلس كلية الآداب قسم اللغة العربية
تتقاطع المشاعر والعقول في فرز أخيلة كثير من الأدباء والشعراء الذين سخروا حياتهم لتوثيق قيمة اللحظة الحياتية بكل ألوانها، ورسم الواقع المعيش من خلال المنجز العلمي والأدبي لترسيخ مبدأ القراءة المنتجة التي تؤتي ثمارها في كل حين، وقد كان حظها وافرا في حياة الأديب الألمعي صاحب القراءات العلمية الواسعة، والمنتجة، الدكتور محمد مسعود جبران، وقد سعدت بالاقتراب من عالمه العلمي والأدبي، فكان باذخ العطاء، عظيم الفائدة، ممطرا بالشواهد والتجليات، ومن يطلع على مؤلفاته ويمسك شبا قلمه متدرجا إلى رحاب فكره وعواطفه، ويتعمق في خوالجه سيرى فيض نهمته في الإحاطة بكل تقنيات الفن الكلامي المتقن، ومضامينه المضيئة، ولعل ديوانه الشعري المخطوط (جُهْدُ المُقِلِّ) على تسامق كلمه، ونصاعة نصوصه، أكبر دليل على حفاوته بالكلم الأنيق المبدع في مدارج العظماء من الأدباء والشعراء، ولم تسنح الفرصة بعد لطباعته وإخراجه ليرى النور ويلتصق بقلوب الناس، ويعانق سماء المبدعين، وقد أنست ببعض نصوصه المستلة من هذا الفيض الشعري الرائق، بمناسباته المختلفة ذات النزعة الذاتية والقومية والإنسانية، عبر صوره المتأنقة في توثيق مشاهدهالحياتية التي لازمته ليكتب عنها بشبا قلمه المرهف العذب، شهادة منه على كثير من الأحداث التي مرت عليه في محطات الحياة، وقراءة بعض الأنساق الثقافية الباعثة لهذه الأنفاس الشعرية.
والشاعرية التي احتفلت بها قصائد هذا الأديب المتمرس بألوان الأدب، هي التي دفعت الباحث ليظهر شيئا من مضامينه الفنية المتشكلة في نصوصه الشعرية، واضعا نصب عينيه منهج استقلالية العمل الأدبي بنفسه وفق قراءة فاحصة تستجلي قيمة ما في النصوص من قيم، حيث تتوسعدائرة قراءة النص داخل أفق توقعات القارئ، لتنفتح القراءة على مجالات أوسع، وهي الثقافة ويصبح للقارئ دور وسط بين الثقافة والنص[1]ومن هنا جاءت النية في التعرف على بعض الأنساق الثقافية المتوافرة داخل نصوصه،لتفصيص بعض كوامن النفس وعوالمها وما احتفلت به ذاكرة مؤلفه من تاريخ مضيء جلي يصفف الذكريات الجميلة والمؤلمة في ذاته عبر محفزات صوره المختلفة في خطابه الجمالي،حيث إن (( النظر إلى النص الشعري في ضوء الثقافة التي أنتجته، من أهم توجهات النقد ما بعد الحداثي))[2]، وسنقف في هذه المساحة المشرقة على بعض النصوص ودراستها للتعرف على عدة محاور تعاينتباريح وجدانيةخالجت نفس صاحبها ورسخت موفور الثقافة التي احتفل بها،فالثقافة ممارسة تتخلل النشاط الإنساني سواء أكان فرداً أم جماعة، ولكن هذا النشاط يتحول إلى إنتاج، أو تكوين معرفي لغوي، مرمّز، يتمدد في التسنينات الثقافية ليتحول إلى تشكيل فاعل، فالمنتج المعرفي يصوغ تفكيرنا، ومواقفنا، وهو يعبر بصورة، أو بأخرى عن ذواتنا، أو طريقة تفكيرنا تجاه بعض الأمور[3].
دلالة العناوين (جُهْدُ المُقِل) (شَاعِريَّةُ النَّصِ) (الأَنْساقُ الثَّقَافِية).
أولا_ جُهدُ المُقِلِّ: هو عنوان لديوان شعر يحمل مضامين ودلالات معبرة عن صورة متجلية من باطن نفس صاحبها الدكتور محمد مسعود محمد جبران[4]الصافية السخية بالتواضع والانحناء أمام ذات العلم والعلماء، المتجهة نحو العالم الأخروي الخالد، إن هذا المصطلح الجميل الموحي له دلالاته القيمية العالية التي تفضي إلى التدقيق فيه، فإذا كان هذا العمل هو جهد المقل فمن هو المكثر؟ حقيقة يعرفها كثير ممن تعرف على هذه الشخصية الفذة أنه لم يقدم نفسه شاعرا في يوم من الأيام، وربما فاق كثيرا من الشعراء في أيامنا هذه لفظا ومعنى، ولكنه تميز ببحثه الجاد وقراءاته الواسعة، ومؤلفاته العلمية، وهذا الشعر لم يعرفه ولم يسمعه عنه إلا قلة من الخلص الذي جاوروه، وهو لا يريد أن يدخل في دوامة التصدر في مجالس الشعراء معرفة بمقامه ومقاماته، فدلالة العنوان واضحة من حيث اقتصاره على محسوساته وتجاربه التي نقلها وترجمها، ابتعادا عن التهافت الذي أصاب كثيرا من أدعياء الشعر الذين شرقوا وغربوا دون طائل، فهو يتمثل تجارب حياة كثير من الكبار من الأدباء أمثال الأستاذ خليفة محمد التليسي الذي يتشارك معه في منهج حياته ويتمثل ببعض حكمه وفلسفته في الحياة مثل قوله: ((أنا لا أتنافس مع أحد، وعندما أرجع إلى بيتي فبيتي مملكتي)) فدلالة العنوان تلخص منهج صاحبه في انتقاء ما يسعده ويسعد به من رائع الأدب والتجارب، ولم يكن اختيار هذا العنوان وحده المتميز في أعمال ونتاج الدكتور جبران، ولكن هذه علامة من علامات تحسسه الجمال، وانتقاء الأفضل فمن يطلع على عناوين مؤلفاته سيرى هذه الميزة بادية في كل عناوينه المختارة بدقة.
ثانيا_شاعرية النص: الشاعريَّة مصدر صناعيّ من شاعر، وهو موهبة قول الشِّعر ويوصف بها المبدع فيقال: يتمتّع هذا الرَّجُل بشاعريّة فيّاضة[5].
وفي اصطلاح النقاد: هيقوة وسلامة التعبير، وروعة في التصوير، وسيولة في الألفاظ والتراكيب، بلا تعمل أو تكلف، مع شرف الغرض، وسمو الهدف، ونبل الغاية، ووحدة الموضوع في القصيدة من أول بيت فيها إلى نهايتها، وتلاؤم في التصوير الأدبي بين المعاني والأفكار وبين الألفاظ والأساليب والصور الخيالية، وانسجام بين العاطفة القوية وبين صورها في القصيدة مستخدما وسائل التعبير التي تتناسب مع الغرض من القصيدة[6].
ولعلها نفس المعاني التينبضت وتغنت بها قصيدة الشاعر محمد مهدي الجواهري رحمه الله التي عنوانها: الشاعر ابن الطبيعة الشاذ، والتي منها قوله:
وسر الشاعرية في دماغ
ذكي وهو في التدبير خرق
نعم هكذا تكون شاعرية الشاعر الذي فاض بوجدانه الصادق، على واقع الحياة،وعبَّر عن لظى مشاعره المتأججة، التي خطرت له في أبهى زينتها، حتى سحرته المعاني والمواقف، فعبر أفضل تعبير عنها، وقد تجسد معظمها في قصائد الأديب الدكتور محمد مسعود جبران، وهو يواكب صنوف الحياة وألوانها، أفراحها وأتراحها، ذاتية وقومية وكونية، خلجات نفسية أسعفته ليكتب ويسجل مواقفه الخاصة والعامة، فهي متنوعة جاءت في فسيفساء جميلة تحكي أعز وأجمل الذكريات في حياة صاحبها، فهو يتسلل إلى القلوب ببراعة ولطف، عبر أغراضه التي منها، مرثياته وأشجانه عن واقع الأمة العربية والإسلامية[7]، متسقة المباني والمعاني تعكس ارتباط الشاعر مع نفسه ومع غيره في نطاق محيطه الخاص والعام، ((وهو ما يرمي إليه المؤلف من تأليفه للأثر الأدبي، ومن الصعب أن تميز في الأثر الأدبي بين الدلالة الكامنة في النص والخارجة عنه لغرض المؤلف إلا مقاربة تستجلي مقدار الفهم والتقدير))[8].
النسق الإجرائي :
نهدف من خلال هذا المصطلح توضيح الصلة بين النص ونظرية التواصلفي أمور إجرائية عملية تستنطقها نصوص الشاعر، وتظهر بعض جمالياتها، وتمكن قوانين الفن وتقربها إلى المتلقين، فهو إجراء لمراحل إجرائيَّة في النصوص، لبيان السُّلطة الإجرائيّة[9]، ومن خلال هذا النسق يمكن تنفيذ واستخراج ما توفر في النصوص من قيم عليا، وذلك بالنظر في غايات الألفاظ والمعاني والصور والأخيلة في حيز المحيط الخاص والعام للشاعر، حيث إن العبارة الحسية أغنى بقوة رمزها، وما قد يرقد تحتها من احتمالات أو ما تستدعي من إحساسات وخواطر، وهذا هو الأدب؛ إذ فيه عناصره الثلاثة: عبارة فنية، وموقف إنساني، وقوة إيحاء[10]، وهو ما يظهر قيمة النص بالوقوف على ألفاظه ومعانيه وصوره، وبالنظر في نصوص ديوان جهد المقل تتجلي القيمة المبحوث فيها وهي على النحو التالي:
أولا: الألفاظ:
تتميز ألفاظ الشاعر في عموم سياقاتها الفنية، بثلاث سمات تتشكل في كل قصيدة هي الجزالة، والانسجام مع السياق النصي، والإيحاء، (فالبليغ هو من عرف السّقيم من المعتلّ، والمقيّد من المطلق، والمشترك من المنفرد، والمنصوص من المتأوّل، والإيماء من الإيحاء، والفصل من الوصل، والأصل من الفصل، والتّلويح من التّصريح)[11]. ويكون هذا وفق الألفاظ الهادفة المستعلمة في قصائد الشاعر، ففي قصيدته: (أبو منجل) وقصيدته: (بهجة المغرب) وقصيدته: (التشوف إلى الذات الطاهرة) نعاين هذه السمات المقصودة من دراسة الألفاظ، ويمكن تفكيك بعض هذه المختارات إلى السمات المذكورة آنفا فتكون على النحو التالي:
أولا: الجزالة:
يقصد بالجزالة فخامة المصطلحات المستخدمة داخل النصوص أمثال قول الشاعر في قصيدته أبو منجل: النازلات عشية، رواء الحسن، مهتف الإبداع، على العتيق مهابة، وهو اطلا فضية الأختام، وكذلك في قصيدته بهجة المغرب قوله: سلام أرق من النسمات، ظلام الحنادس والغيهب، سفائنها ماخرات، فؤادي يصفقوا أطربي، وكذلك قصيدته التشوف إلى الذات الطاهرة قوله: مُعَرِّجًا بِحِرَائِه، نَفحَ طُيُوبِهَا، جَناحَ الشَّوقِ،الرُّوحُ المَشوقُ مُحَلِّقًا، أَراكَ فِي أَطْوَائِنَا، فكل من يعاين هذه الألفاظ والتركيبات سيلحظ هذه الفخامة التي هي من واسع معينه الثقافي المكتسب من اطلاعه ومحفوظاته التي تعد إحدى أنساق الثقافة الواسعة.
ثانيا: الانسجام مع السياق النصي:
المقصود بالانسجام مع السياق النصي تدرج المتلقي في توالي الأفكار وارتباطها وانسجامها مع موضوعات القصائد، أو ما يطلق عليه حديثا وحدة الموضوع، ففي قصيدة (أبو منجل) تتحد معظم جزئيات القصيدة لترسم في عقل وقلب المتلقي صورة الذكريات التي عاشها الشاعر في مراتع الصبا، منها قوله: أَيَا دَارَنَا فِي الغَابِرينَ سَلامِي، (بُوْمِنجلٍ) أَنْفَقتُ فِيكَ طُفُولتي، أَنْهَلتَني مِن رَاحتيكَ مَوَارِدًا، وقوله في قصيدة بهجة المغرب: التي يظهر فيها حبه وذوبانه في هذا المحيط الجميل الذي عاش فيه وأمضى أسعد أوقاته فيقول:
فَياَ رَبَّة َ الشِّعرِ هَل مِن خَيالٍ
يُغذي قَصيديَ بِالمُخْصِبِ
لأَذكرَ عَهدي وَأَنسامِهِ
بِأَرضِ (الرِّباطِ) عَلى مَذهبي
وَأُسعدُ حِسِّي بِذكرِ السُّرورِ
فُؤادي يُصَفِّقُ وَآأطربي!!
ثالثا: الإيحاء:
المقصود بالإيحاء هو النشاط النصي المتمثل في مجموعة الدهشات التي تستفز عقل المتلقي وقلبه، ليعيش أجواء النص كما عاشها مؤلفها، عبر إثارة وتنبيه الذهن بالسكنات والحركات المتوالية داخل الألفاظ الموحية من ذلك قوله: وَهَوَتْ بِمعْوَلها إِلى أَحْلامِي، هَدَمتْ رِواءَ الحُسنِ وَهْو مُخَلَّدٌ،قُمْ سَائل الرُّكبانَ عَنْ وَقَفاتِهِ، وقوله:
طُفْ بِالحَطيمِ مُعَرِّجًا بِحِرَائِه
أقرئ الرَّسُولَ تَحِيَّةً لِرَجَائِه
وَانشقْ مِن العَتَباتِ نَفحَ طُيُوبِهَا
وَذُق الزُّلالَ يَذوبُ مِن صَهْبائِه
وَاركبْ جَناحَ الشَّوقِ لا مُتَمَهِّلاً
تَجد الفُؤادَ يَكُونُ عَينَ فِدَائِه
وَفدُ الحَجيجِ أَرَاهُ غَيرَ مُتَيَّمٍ
وَأَنَا المُعَنَّى فِي الهَوى بِسَنَائِه
ثانيا: الصور والأخيلة:
تمثلت الصور والأخيلة من خلال المحسوسات المعنوية والمرئيات التي عاينها الشاعر في قصائده المختلفة، ومن يبحث في تفاصيل القصائد سيحدد جانبا نسقيا مهما في دمج الصور الواقعية بالمتخيلة وكان ذلك في أغلب قصائد الشاعر، فمن ذلك نعطي بعض النماذج التي توضح ذلك من المحسوسات والمرئيات:
أولا: المحسوسات المعنوية:
وهي ما يتحسسه المتلقي من حصول بعض صور المحسوسا ت بعد مفارقتها وزوالها عن الحس.[12] فالحوا س خمس و هي: السمع، و البصر، و الشم، والذوق، واللمس، و المشاعر خمس، وهي: الحس المشترك وهي قوة مرتبة في مقدمة الدماغ من شأنها قبول ما حصل في الحواس من المحسوسات.
والخيال: وهو قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ من شأنها حفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس، وتبقى فيها بعد غيبة المحسوسات فهي خزانته[13]، من ذلك قول الشاعر:
قُمْ سَائل الرُّكبانَ عَنْ وَقَفاتِهِ
بِاللهِ أَينَ قَذائفُ (الأَرْوَامِ)[14]؟
أو قوله:
تَرنُو إِلى الأَضواءِ مِلءَ إِهابِنَا
وَنُلاعبُ (الفُوتْبولَ) بِالأَقدامِ
وَيَروقُنَا الوَسْمِيُّ عِندَ هُطُولِهِ
مَا أَرْوَعَ الوَسْمِيَّ تَحتَ غَمَامِ!!
كُنَّا نُعَابِثُ فِي الغَديرِ وَطَمْيِهِ
لا نَعرفُ الجُرْثومَ فِي الأَجسامِ
نَجري خِفَافَاً كَالطُّيورِ وَنَلتَقي
بَينَ النَّخيلِ كَمُتْرَفِ الأَكمَامِ
ثانيا: المرئيات:
إِن النَّفس ترى عِنْد غيبَة المرئيات مَا ترَاهُ من وَهَدِة حَال يجدهَا الْإِنْسَان من نَفسه ضَرُورَة لَا يُمكنهُ أَن يدفعني عَنْهَا[15]، وَإِلَّا فَمن أَيْن لنا صُورَة بَغْدَاد وخراسان والبلاد الَّتِي شاهدناها، كقول الشاعر:
حَربُ الخَليجِ أَمَاطتْ كُلَّ خَافِيةٍ
كَيفَ السَّبيلُ إِلى تَصْوِيرها كَلِمَا
خَرَّ القِنَاعُ وَصَارَ العُهرُ مُفْتَضَحًا
وَالنَّارُ تَأكلُ فِي أَحشائِها الوَرَمَا
فإن الْبَصَر وَسَائِر الْحَواس إِنَّمَا هِيَ انفعالات من المحسوسات واستحالت إِلَيْهَا وَهَذِه الاستحالة لَا تثبت بعدَ زوَال المحسوس المخيل فلولا هَذَا الحاس الْمُشْتَرك الْعَام الَّذِي تثبت فِيهِ صور المحسوسات وَلَا تَزُول لَكنا إِذا أبصرنا شَيْئا أَو سمعناه ثمّ َزَالَ عَن بصرنا وَسَمعنَا زَالَت عَنَّا صورته[16]، وهذا أكبر دليل على تجلي الصورة المرئية وظهورها في مخيلة المبدع والمتلقي، بعد اختفائها من واقعنا المحسوس إلى العالم الباطن، فتكون ذكريات يحسن استدعاءها في قلب كل واقع على كثير من المشاهد والمعالم، فمن يقرأ الأبيات التالية من قصيدة أبومنجل سيسافر بعقله وقلبه وذكرياته إلى الماضي الجميل الذي كانت تعيشه الناس في فترة من الفترات، فلم تكن أدوات العولمة والحضارة بادية لا تلفاز ولا مذياع، ويقتصر الأمر على حكايات الجدات والأمهات مما علق في أذهانهن من قصص هي أقرب للخرافة لتزجية الفراغ والترويح النفس وفرز تجارب الأجيال الغابرة حيث يقول:
وَصُدُورُنَا مَلأى بِعِقْدِ تَمائمٍ
فِيهَا الرُّقى مِن كُلِّ ذَاتِ لِمَامِ
تَحْكِي لَنَا الجَدَّاتُ عَن خَطَراتِهَا
وَتُخِيفُنَا بِالغُولِ عِندَ ظَلامِ
فَنَلوذُ بِالصَّمتِ الرَّهيبِ هُنَيْهَةً
مِن خَشْيةِ السَّعَلاةِ فِي الآكَامِ
وَحَدِيثُهَا حَذَوَ الفَتِيلِ مُشَوِقٌ
كَحِكايةٍ تَبْقَى بِغَيرِ تَمَامِ
ثالثا: الأنساق الثقافية:
النَّسَقُ من كل شيء: ما كان على نظام واحد عام في الأشياء، ونَسَقته نسقاً ونسقته تنسيقاً، وتقول أيضا: انتَسَقَتْ هذه الأشياء بعضها إلى بعض أي تنسقت[17]، والأنساق الثقافية: (هي أنساق تاريخية ثابتة وراسخة، تدفع الجمهور إلى استهلاك المنتوج الثقافي أو كل ما يتحرك في حبكة متقنه وهو خفي ومضمر ويستخدم أقنعة كثيرة وأهمها قناع الجمال اللغوي، وتحت قناع البلاغة وجماليتها تمر الأنساق آمنه مطمئنة من تحت هذه المظلة الوارفة)[18]، وأما ما يخصنا في بحثنا هذا فهو مجموعة الروافد والثقافات الفكرية الكامنة في منحنيات الذات، والمتجلية عبر ذكريات وتجارب الشاعر التي عبرها ألفاظا وصورا وأخيلة حتى تبدت في تكامل نصي تام، فالثقافة تدل بالنسبة إلى كل عصر، وكل فئة من الناس على مجموعة المعارف، والمهارات التقنية والمهنية، وأنماط التصرف والمخالفة التي تميز شعبا عن سواه من الشعوب)[19] فقد جسدت الثقافة بعض تجارب الأديب الأريب محمد جبران، حتى تحولت إلى تباريح وجدانية (فهو يحفر في المضمرات الدلالية الكامنة وراء أي خطاب جمالي ظاهر، لأن هذا الخطاب الجمالي هو الذي يتجلّى عبر مفهوم المتن أو النص، وليس النص سوى وسيلة لاكتشاف حيل الثقافات وألاعيبها في تمرير أنساقها وتبطين السرود والنصوص بغاياتها الضمنية لا المعلنة، ذلك أن الأنساق هي المراد الوقوف عليها بالتفسير والتحليل والتأويل وليست النصوص في حدّ ذاتها، في ضوء مفهوم النقد الثقافي[20]، فتاريخ المعرفة وواقع الثقافات البشرية كلها يفيدان بأن الأنساق الثقافية متنوعة مختلفة متعارضة متناقضة متغيرة متطورة وقابلة للحياة والموت، ومفهوم النسق يعمل معها لتحقيق المزيد من أشكال عقلنة الخطابات المعرفية وأنسنة العلاقات الاجتماعية [21]وقد قسمها الباحث على حسب موضوعات القصائد وأغراضها إلى تباريح وجدانية تستوعب الأنساق الثقافية المختلفة، والأنظمة الثقافية المنتجة للغرض الشعري وهي:
أولا: تباريح وجدانية ذاتية:
تميزت معظم النصوص الواردة في ديوان جهل المقل، بجودة السبك، ونصاعة العبارة، وجلاء الفكرة، فمعظم قصائد الشاعر هي من فيض مكنونه الثقافي، ومعينه المعرفي المتبحر في أصالة اللغة ورحابتها، وتتمثل في أنفاسه المتجلية والملتفتة إلى الماضي الجميل، ومدارج الطفولة، حيث النقاء والطهر، عاكسا ألوان الثقافة السائدة في فترات عمرية مختلفة، ومظهرا مجالي أروقة الحياة البهية غير المسؤولة،((فالثقافة هي نبع من تصوّر العالِم الذي هو الإنسان، والمعلوم الذي هو الكون، وطريق العلم، ومصادر العلم المكتسَب وطرقُه هي الحواسّ والخيال والعقل،والحواسّ هي منافذ النفس التي تطلّ منها على العالَم الخارجي، والحسّ يُفيد العلم حتماً))[22] فكان النظر فيها صحيحًا، والإجادة في الوصف تسللت إلى روح الشاعر منسابة من غير عنت أو تكلف؛ لأن الشاعر لا تدفعه إليه رغبة أو رهبة، وإنما يدفعه إليها انفعاله وحساسيته، حيث تنوعت أغراض القصائد في تباريح وجدنية ذاتية متنوعة، منها حديثه عن الحنين إلى الماضي الجميل وما حل بمسقط رأسه مرتسما في قصيدته أبو منجل، ومنها حديثه عن ملتقى العلماء والأحبة في رحلته العلمية لتحضير أطروحة الدكتوراه وعنوانها بهجة المغرب، ومنها ما جاء في رحلته إلى روما، ومنها ما جاء في غرض الغزل وهي قصيدة واحدة وعنوانها أغلبية، ومنها ما جاء في غرض المراثي بداية بقصيدة رثاء والده، ثم أخريات في رثاء الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، و قصيدة إخوانية، في حق دكتورين الدعابة، وكذلك قصيدة في التشوف إلى الديار المقدسة، هكذا كانت ارتساماته النفسية وعوالمه الشعرية المتعددة المنطلقة من وجدانه في أغراض مختلفة، فالشعر ((كلام موزون مقفى، من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه، أو الهرب منه، ما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه، أو قوة شهرته…))[23]، فهي معايير وضعها حازم القرطاجني، عذبة المعاني جزلة المباني، متناسقة العرض، معمقة في تجارب الحياة وألوان الثقافة، تجلي الحقائق بأنفاس متخيلة تشد المتلقي إليها، وتحببه فيها، أو تنفره منها، فالخيال هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية[24] وتمكن الشاعر من أدواته وإتقانه لكل أساليب القول الفني، ((ففي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنًّا عقليًّا غايته صحة الأداء وسلامة النسق، فيكون البيان في كلامهم على ندرة كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا. ولكن الفن البياني يرتفع على ذلك بأن غايته قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائدًا جمال الصورة))[25]
ولعل قصيدة الدكتور محمد جبران: (ذكريات الطفولة بو منجل) خير مثال على ذلك والتي تعكس أنساقا ثقافية متنوعة تكاد تتلاشى من ذاكرة الأجيال، فاحتضنتها هذه القصيدة بشغف إلى الماضي الجميل، حيث يقول الشاعر مفتتحا قصيدته بعبرة السنين وعبق الذكريات: وقفت في أحد الأيام على ضاحية أبي منجل في طرابلس الغرب حيث مدارج الطفولة، ومسارح الصبا الجميل، فراعني أن أجدها خلوا من السكان والعمران، وأنها صارت أثرا بعد عين، فأوحى لي مرآها المؤثر بمشاهد الصور والذكريات، التي كانت تحفل بها تلك الربوع والأطلال، بهذه الأبيات الواصفة لها:
أَيَا دَارَنَا فِي الغَابِرينَ سَلامِي
أَبْكي عَليكِ مِن الفُؤادِ الدَّامِي
عَبَرتْ إِليكِ النَّازلاتُ عَشِيَّةً
وَهَوَتْ بِمعْوَلها إِلى أَحْلامِي
هَدَمتْ رِواءَ الحُسنِ وَهْو مُخَلَّدٌ
مِن مَهْتفِ الإِبداعِ فِي إِلهَامِي
مَا رَاعَهَا وَعَلى العَتِيقِ مَهَابةٌ
أَنَّ الزَّمانَ بِدَارِنا مُتَرَامِ
شَهِدَ الحَوادِثَ وَالحروبَ تَشَامُخًا
وَهَزَا بِهَولِ صَوَاعقٍ وَغَمَامِ
تَعلو عَلى الأَخطَارِ مِنهُ ذُؤَابَةٌ
تَحيا لِثَغرِ الدَّهرِ كَالإِلجامِ
قُمْ سَائل الرُّكبانَ عَنْ وَقَفاتِهِ
بِاللهِ أَينَ قَذائفُ (الأَرْوَامِ)[26]؟
وَلِسانُ حَالِ الدَّارِ يَنْهضُ شَاهِداً
فَبقَاؤهَا رَمزُ الخُلودِ النَّامِي
أَطْلالُهُ بَينَ البُنَى كَرَضِيعةٍ
قَد كُلِّلتْ لِجَمالِها بِوِسَامِ
(بُوْمِنجلٍ) أَنْفَقتُ فِيكَ طُفُولتي
وَشَبِيبَتي فِي أَعذبِ الأَيامِ
أَنْهَلتَني مِن رَاحتيكَ مَوَارِدًا
وَهَوَاطلاً فِضِّيةَ الأَختَامِ
وَحَبَوتَنِي فِي عُدْوَتيكَ بِرِفْقَةٍ
بَقيتْ نَشَاوَى مِن كُؤوسِ مُدَامِ
وَكَرعتُ مِن أَلقَ الصَّفاءِ مَحَبَّةً
مَجْدُوَلةً تَزهُو مِن الإِبرَامِ
وَعَشيرتي فِيكَ اصطَحبتُ وَجِيرتَي
سَبَقُوا بِفَضلِ وِصَالهم أَرحَامِي
هِمْنَا بِعَهدكَ جَاذِلينَ وَشَاقَنَا
مِن أُنسكَ المَطلولِ بَدرُ تَمامِ
فَكَأنَّما سَكنَ الفَؤادَ بِجَنَّةٍ
فَيحاءَ قَد بَرِئتْ مِن الأَوْغَامِ
أَينَ المَلاعبُ فِي العَشِيِّ تَزِينُهَا
بِالكَرِّ أَوْ بِبَراعةِ الإِحْجَامِ؟؟
تَرنُو إِلى الأَضواءِ مِلءَ إِهابِنَا
وَنُلاعبُ (الفُوتْبولَ) بِالأَقدامِ
وَيَروقُنَا الوَسْمِيُّ عِندَ هُطُولِهِ
مَا أَرْوَعَ الوَسْمِيَّ تَحتَ غَمَامِ!!
كُنَّا نُعَابِثُ فِي الغَديرِ وَطَمْيِهِ
لا نَعرفُ الجُرْثومَ فِي الأَجسامِ
نَجري خِفَافَاً كَالطُّيورِ وَنَلتَقي
بَينَ النَّخيلِ كَمُتْرَفِ الأَكمَامِ
وَصُدُورُنَا مَلأى بِعِقْدِ تَمائمٍ
فِيهَا الرُّقى مِن كُلِّ ذَاتِ لِمَامِ
تَحْكِي لَنَا الجَدَّاتُ عَن خَطَراتِهَا
وَتُخِيفُنَا بِالغُولِ عِندَ ظَلامِ
فَنَلوذُ بِالصَّمتِ الرَّهيبِ هُنَيْهَةً
مِن خَشْيةِ السَّعَلاةِ فِي الآكَامِ
وَحَدِيثُهَا حَذَوَ الفَتِيلِ مُشَوِقٌ
كَحِكايةٍ تَبْقَى بِغَيرِ تَمَامِ
حَتَّى إِذَا ضَحِكَ الصَّباحُ مُنَوَّراً
عُدْنَا إِلى رَبعِ الهَوى بِهُيَامِ
نَمضِي إِلى الكُتَّابِ فِيه فَقِيْهُنَا
وَنُرَتِّلُ الآياتِ دُونَ نِظَامِ
هَذَا يُرَتِّلُ فِي القِصَارِ مُجَلجِلاً
وَرَفَيِقُهُ يَتلو مِن الأَنْعَامِ
وَالجَامعُ المَعمُورُ فِي عَليَائِهِ
تَتْرَى بِه النَّفحَاتُ فِي إِحكامِ
وَيُظِلُّنا سِيدِي الفَقِيهُ بِكَرْمَةٍ
فِي ظِلِّهَا تَشْتَمُّ كُلَّ بَشَامِ
فَنَعُبُّ (بِالْمَيْضَاةِ) طِيْنًا رَائِقاً
وَمِن المِدادِ عَلى شَبَا الأَقلْامِ
كَمْ قَد أُصِبتُ مِن العِنَادِ بِفَلْقةٍ
تَسْتَكثرُ الضَّربَات مِنهَا عِظَامِي
وَأَعدُّ مِن فَنَن ِ الجِنَانِ عَزيفَها
أَوَّاهُ مِن ثَغرِ العَصَا البَسَّامِ
لِلَّهِ مَا بَينَ الرُّبوعِ خَميلةٌ
تُسْبي المُحِبَّ بِمغْرسٍ وَرُغَامِ
مَلأَ الرُّعاةُ الوَادِعونَ سُهُولها
وَتَرَنَّموا لِلشَّمسِ فِي الآجَامِ
فِي سُوحِهَا نَمَت البَراءةُ غَضَّةً
تَخْضَلُ مِنهَا مَرَاشفُ الأَنغَامِ
كَم هَاجَنِي (البَابُورُ) مِن جَنَبَاتِهَا
بِدُخَانِهِ المَوَّارِ وَهَو أَمَامِي
وَأَرَى الصِّحابَ يُلاحِقُونَ مَسِيْرَهُ
جَعَلوا الأَماني فِي لَحَاقِ (تَرَامِ)
لا يَأْبَهُونَ إِلى الخَفيرِ مُنَدِّدَاً
إِنَّ البُطولةَ فِي رُؤى الإِقدَامِ
وَيُسائِلونَ مِن البَراءةِ بَعْضهُمْ
هَلْ يَنفُثُ البَابورُ مِن آلامِ؟!!
شَرِبُوا لَبَانَ الطُّهرِ مِن أَثْدَائِها
وَتَضَلَّعُوا مِنهَا بِغَيرِ أَثامِ
آباؤهُم صِنُو الأَمَاثلِ شَمَّرُوا
بِسَواعدٍ تُرجَى لِكُلِّ مَهَامِ
يَسْقُونَ فِي قُلَلِ الحَياةِ مَغَارِسَاً
وَجمَيعِهم يَومَ الفَخَارِ عِصَامِي
وَالمعْسِرونَ مَعَ الغَنِيِّ تَمَاثلوا
لَم يُعرَفوا فِي عَيْشهِم بِخِصَامِ
وَالآنساتُ مِن الفَضِيلةِ غُذَّيتْ
وَتَعشَّقتْ لِلفَضل كُلَّ ذِمَامِ
لَم تُنكر المألوفَ مِن أَعرَافِنا
فِي زِيِّهَا المسْتورِ شِبهَ حَمَامِ
أَفديكَ يَا نَفحَ الطُّيوبِ بِمُهْجَتي
وَأَهيمُ مِنكَ مُنَعَّماً بِغَرامِي
(بُوْمنجلٍ) ثَارتْ عَليكَ جَحاَفلٌ
وَعَدَتْ عَليكَ بِجَورهَا الهَدَّامِ
فَرَمتْ رُبُوعَكَ بِالخَرابِ وَشَوَّهتْ
آثاركَ الحَسناءَ بِالإيِهامِ
وَبُيوتُكَ البَيضاءُ فِي لَأْلَآئها
كَالَّلوحةِ الزَّهراءِ مِن رَسَّامِ
حَمَلتْ بَهاءَ الأَتْقياءِ وَزُيِّنتْ
بِطَهارةِ الأَشياخِ فِي الإِسلامِ
أَينَ الطَّريقةُ فِي الخَميسِ نَحُوطُهَا
بِنَقاوةِ الإِيمانِ بَينَ كِرَامِ
فِي لَمْحَةٍ مِن نَاظِريكَ تَصَرَّمَتْ
أَحلامُنَا الخَضراءُ كَالأَوْهَامِ
فَدَنَا العَفَاءُ عَلى الدِّيارِ يَمُضُّهَا
وَعَلى القَلوبِ يَشُكُّهَا بِسِهَام
ِ
عَجبًا لِنَامُوسِ الحَياةِ يَروعُنا
فِي دَارِنَا مِن بَعدِ ذِي الأَعْوَامِ!!
ِ
فَتَفَرَّقَ السُّكانُ عَن عَرَصَاتِها
وَكأنَّها مَا عُمِّرتْ بِوِئَامِ
طُمِستْ عَلى أَيدي الخُطوبِ كَأَهلهَا
وَبَقيتُ فِي سَرْحِ الحَياةِ الظَّامِي
(روما):
قَدْ هَيَّجَ السِّحرُ مِنِّي كُلَّ أَشجَاني
وَهِمتُ مِن صَبْوتِي فِي زَهرِ أَفنَانِ
وَعَادَني الشِّعرُ بَعدَ الهَجرِ مُغْتَبِطاً
وَتَيَّمتني غَداةَ الوَصلِ أَلحاني
فَشِمتُ فِي نَشوتي قِيثارتي صَدَحتْ
مِن رَوْعةِ الحُسنِ لا مِن نَشوةِ الحَاني
وَرَبَّةُ الشِّعرِ تَزهو فِي مَفاتِنِها
عَلى الرَّوابي وتُبدِي سِحرَ أَزمانِ
فَيضُ التَّحضرِ يُسبي عَينَ نَاظرِهِ
مِن صُنعِ قُرطاجةً أَو صُنعِ رُومانِ
وَالفَنُّ رُوحٌ مِن الرَّحمنِ يُسْعدُنا
مَا أَروعَ الفَنَّ مِن إِبداع ِ رَحمانِ
أَحببتُ رُوْمَا وَحَاشا أَنْ أُكَافئهَا
أَو أَجْحدَ الحُسنَ فِي أَركانِ بُنْيانِ
يَا (سَانَ بِترُو) وَهبتِ كُلَّ مُونِقَةٍ
مِن الزَّخارفِ فِي تَشييدِ إِنسانِ
قَد أَمَّكِ النَّاسُ وَالآثارُ بَاهرةٌ
وَفِي السُّقوفِ تَجلى أَلفُ بُرْهَانِ
عَلَى النَّقائِشِ مِن آثارِهَا بَرزتْ
رَوائعُ الفَنِّ مِن إِلهامِ فَنَّانِ
يَد الصَّنَاعِ تُساري فِي رَوائعها
فِي كُلِّ (دُسْكُرةٍ) أَو كُلِّ مَيدانِ
قَد أَبرزت دُلَّها فِي كُلِّ نَاحيةٍ
مِن الطَّبيعةِ تُغري قَلبَ وَلْهانِ
يَسيلُ فِي سَهْلها نَهرٌ يُطَوِّقها
مِثلَ السِّوارِ بِعَذب الماءِ هَتَّانِ
إِنِّي لأَذكرُ فِي أَحوازِ (ثِيقُوللي)
وكَيفَ أَنسى جَمالاً مَا لَه ثَانِ
فَوقَ الجِبالِ تَمُدّ السَّاق نَاعسةً
وَتُرسلُ الطَّرف َ فِي استرخاء وَسْنَانِ
قَد رَاقني الآسَ فِي أَنساقِه ضَحكتْ
أَكمَامُه الزُّهرُ فِي أَعطافِ بُسْتانِ
وَقَصرُها الرَّائقُ المفَتونُ يَغمُرهُ
مَاءُ العُيونِ ووَصفُ الماءِ أَعياني
يَنْسابُ فِي رِقَّةٍ مِن كُلِّ مُتْرعةٍ
وَيَنْثني فِضةً فِي العُشبِ وَالبَانِ
فَيَضحكُ الرَّوضُ فِي أَزهارهِ طَرَباً
ويَنْتشي الطَّيرُ مِن أَنداءِ رَيَّانِ
حَدائقُ الوَردِ فِي أَرجائها انتشرتْ
أَيدي النَّسيمِ تُوافي كُلَّ رَيْحَانِ
وَبِي هُيامٌ إِلى (الجَندولِ) أَذكرني
(قِينسيا) تحفة من غير نُقصَانِ
سِحرُ القُصورِ عَلى أَمواها سَكِرتْ
بِه العُيونُ وَحَازتْ كُلَّ إحِسان
أَحببتُ رُوما وَبي تَوقٌ إَلى ((ثيقولي))
إِنَّي أَتوقُ إِليها تَوق هِيْمَانِ
(بهجة المغرب) كتبت بتاريخ 10/8/1997
سَلامٌ عَلَى بَهْجةِ المَغربِ
سَلامٌ عَلَى عَهْدهَا الطَّيبِ
سَلامٌ أَرَقُّ مِن النَّسماتِ
تَمازجَ لُطفًا بِوَجهِ الصَّبي
بِلادِ الحَضارةِ فِي الأَقدمينَ
وَفي الحَاضرينَ بِلا كَذبِ
تَحَلَّت بِوَحدتها فِي الزَّمانِ
تَعُدُّ (الأَمازيغَ) فِي يَعربِ
شُموسٌ أَضاءتْ بِأَنوارهَا
ظَلامَ الحَنادسَ وَالغَيهبِ
وَسَارتْ سَفَائِنُها مَاخِراتٌ
مَسيرَ الكَواكبَ وَالشُّهبِ
فَياَ رَبَّة َ الشِّعرِ هَل مِن خَيالٍ
يُغذي قَصيديَ بِالمُخْصِبِ
لأَذكرَ عَهدي وَأَنسامِهِ
بِأَرضِ (الرِّباطِ) عَلى مَذهبي
وَأُسعدُ حِسِّي بِذكرِ السُّرورِ
فُؤادي يُصَفِّقُ وَآأطربي!!
فِلِلَّهِ (أَكْدَالُ) وَمَا أَمتعتْ
وَأَنستْ ضُروباً مِن الكُرَبِ
وَلِلَّهِ أَكدالُ وَأَيَّامُهَا
وَمَا حَلَّ فِيهَا مِن النُّخَبِ!!
سَلامٌ يُسَاري بَهاءَ الدِّيَارِ
وَمَا نِلتُ فِيهَا مِن الأَرب
ِ
أَنستُ زَماناً بِسُقَيا العُلومِ
وَأَتْرعتُ فِكري مِن الكُتُبِ
وَبَادَهتُ فِيهَا كِبارَ العُقولِ
وَمَا شَاق قَلبي هَوَى رَبْرَبِ
أُحَيِّي بِ((شَالةَ)) ((رَقْرَاقَها))
يُسَاقي الرَّوابي مِن الصَّيبِ
وَبَلّغ هُيَامِي لأَرضِ ((سلا))
فُتِنتُ بِمَعقِلها الأَشْأب
سَلامُ مُحِبٍّ عَلى مُشرقَاتٍ
شُموسٌ مِن الحُسنِ لَم تَغرُبِ
سَعدتُ بِ((طَنجةَ)) أُختِ ((الزِّقاقِ))
وَ((أُمِّ العَرائشِ)) وَالسَّبْسَبِ
رِمالٌ تَمَطَّتْ بِشَكل الهِلالِ
يُخالُ البَريقُ مِن الذَهبِ
وَمَرأى النوارس عِندَ ((المَضيقِ))
بَهاءٌ يُحِدِّثُ بِالمَغربِ
خَرائدُ تَخطرُ مِثلَ الدُّمى
تَهُزُّ السَّواكِنَ فِي الأَشيبِ
وَيَنمى لأَندلسٍ جِذمُهَا
وَيكفي فَخاراً شَذى النَّسبِ
وَ((شِفْشَاونَ)) تَعْتلي نَجدَها
بَهاءً تَبَسَّم عَن شَنبِ
فَمِن أُقحوانٍ عَلا سَاقُهُ
إِلى زَنبقٍ ثَارَ عَلى الحُجبِ
وَمِنهُ تَضَوَّعَ زَهرُ الأَقاح
يُضاهِي الوُرودَ مِن الغَرَبِ
وَمَا هَاجني غَير ضَيمِ الأَسيرِ
((سَلامٌ عَلى سَبْتَةِ المَغرب))
فَهل يَسْعَدنَّ الغَريبُ الكَئيبُ
بِعَودِ العَنَادلَ فِي السَّرَبِ
لَقد شِمتُ حُسنًا بِ((مكْنَاسةٍ))
تَجلى مِن الزَّهو فِي الأُهبِ
سُهولٌ تَوشتْ مِن اليَاسمين
وَمَاستْ بِسُندسِهَاالأَقْشبِ
وَهِمنا (بِأَنفى) وَ((بيضائها))
وَقَاها الإِلهُ مِن النُّوبِ
وَجَامِعُها الرَّائقُ المُشْمَخِرّ
زَخارفُ تَربو عَلَى الحِسبِ
يَتِيهُ عَلَى المَاءِ مِحرَابُهُ
وَيَهفو اشتِيَاقاً إِلى يَثربِ
وَأذَكرُ ((فَاساً)) وَأَرباضُهَا
وَمَا حَلَّ فِيهَا تَلاعَبَ بِي
فَبِاللهِ قِفْ عِندَ نَاعورةٍ
تَفيضُ المياهُ عَلَى القُصُبِ
وَجِسَّ مَا بَدا لَكَ بَينَ الدِّيارِ
وَبينَ الدُّروبِ بِلا تَعبِ
فَمِن رَوضهَا يَستَبِيكَ الطَّريفُ
وَأَسرُ القَديمِ مِن الحِقَبِ
وَبَارحِ بِشَوقكَ نَحو الجَنوبِ
لِتلقَ ((مُرْاكشَ)) فِي الطُّنبِ
عَلى سُوحها يَحتويكَ الجَمالُ
وَتَنفى الهُمومَ مِن التَّعبِ
وَنَقِّل عُيونكَ عِندَ البَديعِ
جَديلَ النَّخيلِ عَلى صُبّبِ
وَحُسنُ ((أَصِيلةَ)) عِندَ الأَصيلِ
يُباري ((أَغاديرَ)) بِالمُعجبِ
يُرِيكَ الأَزاهرَ فِي حُلِّةٍ
لِترقص عُجْباً مِن الطَّربِ
وَمَاءُ المُحيطِ بَدا ثَبْجُهُ
بِأَزرقَ صَافٍ مَع السُّحبِ
فَيا جَنَّةً غَادرتها النُّفوسُ
وَأَضحتْ تُلاقي أَذَى الرُّهبِ
تَنامى بِقَلبي سَعيرُ الهَجيرِ
غَداةَ الفِراقِ مِن اللهَبِ
فَهل مِن نَسائمَ تَشفي الفُؤادَ
وَتَسقي الغِراسَ عَلى جَدَبِ
أَحِنذُ لأَجْبُلهَا كَاسياتٍ
بِشَتَّى الزُّهورِ وَمُعْشوشبِ
أَحِنُّ إِلى مَاتعاتِ السُّهولِ
تَشيعُ المَباهجُ فِي الشُّعَبِ
أَحِنُّ إِلى رَيِّقَاتِ العَشِيِّ
وَظُرفٍ تَجافى عَن الرُّقَّبِ
أَحِنُّ لِ((وَخَّا)) مِثالُ الصَّفاءِ
وبِ((الزَّافِ)) تَنْبو عَن الأَجنبي
إِلى إِخوةٍ مُتِّعوا بِالصَّفاءِ
وَطَعمِ الوِدادِ مِن الضَّرَبِ
أَحِنُّ إِلى مُجْتلى النَّدواتِ
أُنيرتْ عُلوماً مِن النُّخَبِ
وَمَاذا يَقولُ الفُؤادُ الوَجيعُ
وَقَدْ آلمتهُ ظُبَا القُضُبِ؟؟!!!
سِوى مَا استَكَنَّ بِأَعَماقِهِ
سَلامٌ عَلى بَهْجةِ المَغربِ[27]
(أغلبية) مجزوء الرمل
كَيفَ أَنسى الأَغْلَبية
بَهجةُ العِيدِ البَهية
فِتنةٌ كَالسِّحرِ تُنسِي
هَالةَ البَدرِ السَّنية
أَسَرَتني فِي تَثَنِّي
تَزْدَهي مِنه الفَتِيَّة
غُصنُ بَانٍ مَشْرِفيّ
فِي رِقَاقٍ سُنْدُسِيَّة
ظُرْفُهَا يَجلو رِوَاءً
يُسعدُ الرُّوحَ الحَفِيَّة
قَد رُمِينا مِن سَنَاهَا
بِالسِّنَانِ السَّمْهَرية
مِمَّن الظَّبيةُ قَالتْ:
رِقَّتِي تَجلو الُهويَّة
شَاقَهَا الحُسنُ فَبَاهتْ
أأَنْجُمًا تَبدو وَضِيَّة
مِثلَ وَلَّادةَ تُسْبِي
فِي الرِّياضِ القُرْطُبيَّة
وَلَها نَشرُ الأَقاحي
عِندَ أَنداءِ العَشِيَّة
هَزِّني مِنهَا المُحَيَّا
فِيهِ أَوضاحٌ جَلِيَّة
أَعينٌ نَجلاءُ تَرنُو
تَحتَ أَشفارٍ نَقِيَّة
وَلَها خِصرٌ جَميلٌ
أَفقدَ الشِّعرَ رَوِيَّه
أَبهجَتني فِي حَديثٍ
وَالهَوى يَنشرُ غِيَّه
ثَغرُهَا الأَلمى بَرَانِي
نَمْنَمَ الحُسنَ طَرِيَّه
فَارتوتْ مِنهُ وِفَاضِي
مِثْلمَا تَملأُ الخَلِيَّة
نَكهةُ الآسِ هَواهَا
نَفحةٌ تَسري نَدِيَّة
مِثلَ أَنفاسِ الخَزامَى
تَغمرُ الرُّوحَ ذَكيَّة
ويح قلبي قد تلقى
طعنة جاءت خفية
كيف أنجو من بهاء
غالب من أغلبية
تحية إلى الأخ الصيني الأستاذ إبراهيم إدريس جاو الذي أوحت لي فلسفته في الحياة بهذه القصيدة قيلت سنة 1973م: مجزوء الرمل:
عَجِبَ الظَّامِيء لِشَدْوِي
بَينَ أَتْرَاحِ الحَياهْ
وَتَرَامَى فِي ظُنُونٍ
حَالِكَاتٍ مِن رُؤاهْ
هَلْ لَهُ قَلبٌ صَليبٌ
أَمْ تُرَى خَارَتْ قُوَاهْ؟
قَلبيَ الوَلهَانِ يَسْلو
لا يُبَالي مِن أَسَاهْ
أَيُّهَا الوَسْنَانُ مَهلاً
إِنَّني استَفتُ اليَقينْ
مِثلَ زَهْرِ الرَّوضِ قَلبي
لا يُنَاجى بِالأَنينْ
يَشْربُ الأَنسَامَ وَجْدًا
ثُمَّ يَشدُو بِالحَنينْ
وَيَرى الدُّنيا رَبِيعاً
قَد تَجَلَّى بِالفُتونْ
يَا خَليَّ البَالِ هِمنَا
فِي الأَماني الحَالمةْ
وَانثَنَينا فِي دُرُوبٍ
كَالمَجالي النَّاعِمةْ
نَبعتُ الأَنغَامَ لَحناً
فِي أَمانٍ هَائمةْ
لَستُ أَحيَا كَغُرابٍ
فِي جُحورٍ غَائِمةْ
إِنَّني أَفني حَيَاتي
فِي عُلومٍ وَاعْتَلاءْ
لأَصوغَ العُمرَ قَبْسًا
فِي ظَلامٍ مِن ضِياءْ
سَاليًا أَهلاً وَرَبْعاً
يَبْتَغي مِنِّي العَطَاءْ
أَتُرَاني بَعدَ أُنْسِي
فِي عِدادِ الغُرَباءْ
يَا غَريقًا فِي ضَنَاهُ
خُذْ جَمالَ الكَونِ عَنِّي
وَاهجُر الأَوْهَامَ صَدَّاً
وَاقتربْ يَا صَاحُ مِنِّي
فَاجعلْ الدُّنيا مُدَامًا
آخذاً مِنهَا بِدَنِّ
وَاملأ القَلبَ نَقاءً
وَابتساماتٍ وَغَنِّ
يِا ضَنَى الحَيرانِ دَعْنِي
غَافياً عَن أَدمُعِي
لا تَسَلني مَا بِلادِي
لا تَقلْ لِي مَن مَعِي
فَأَنَا أَحيا حَيَاتي
مِثلَ طِفلٍ لَوْذَعي
يَعشقُ الدُّنيا فُؤادِي
حِينَ يَلهو أَوْ يَعِي
(نفح الإخاء) إلى صديقي الأستاذ الدكتور أحمد الرابعي مع زجاجة عطر: الطويل
أَيَا طَائِرًا فَوقَ الطُّلولِ سَمَا فَرْدا
يَشوقُ فُؤادِي أَنْ يَشِيمَ بِه نِدَّا
أَخي أَحمدُ يَا مَنْ أَنِستُ بِرَوضِهِ
زَمَاناً عَلى ظِلِّ الصَّفاءِ مَضى رَغْدَا
تَسَامِيتَ فِي أُفقِ العَلاءِ مُحَلِّقًا
تَحوْكُ مَعْ حُسنِ الخَلاقِ بِه بُرْدَا
وَأَعليتَ مِن هَدْي السَّماءِ وَشَائِجاً
تَفيضُ بِأَنفاسِ الوَفاءِ لَنا نَدَّا
عَلى ((الرَّابِعي)) تُجلَى السِّماتُ فَريدةٌ
وَنَفسي تَرَى بَينَ الكِرامِ بِه سَعدَا
وَفِي خَاطِري يَجثُو عَطاءُ مَشَاعِري
كَلِيلاً وَعِرفَانِي قَليلاً فَمَا يَهْدَا
أَخي أَحمدٌ رِفْقَ الوِئامِ وَهَل تَرى
عَلى شَاكرٍ بَأساً إِذَا حَاوَلَ الرِّفدَا
فَخُذها عَلى صِدقِ الوِدَادِ زُجَاجةً
تُعيدُ إِلى نَفحِ الإِخاءِ الذي أَدَّا
دعابة.. عدا كلب فضيلة الدكتور مصطفى الباجقني على الدكتور الصيد محمد أبو ديب؛ فأنهكه عضا وترويعا فأوحى المشهد بهذه الأبيات الواصفة: البسيط
عَجِبتُ لِلكَلبِ يَعلو (الصَّيدَ) مُفْتَرِسًا
وَيَغرزُ النَّابَ نَهْشًا كَالكَلالِيبِ
قَد عَفَّرَ الصَّيدَ فَوقَ التُربِ مُنْتَقِمًا
وَمَزَّقَ الثَّوبَ مِنه بِالنَّشَاشِيبِ
وَالصَّيدُ يَرجو فَكَاكاً مِن تَهَارشِه
فَيمتلي الكَلبُ غَيظًا مِن (أَبي دِيبِ)
هَوى عَلى السَّاقِ لَم يَرحم تَضَرُّعَهُ
كَوَثبةِ الشَّيخِ عَدْوًا فِي الكَتَاتِيبِ
يَقولُ لِلصَّيدِ كَم قَد جِرتَ مُغْتَبطًا
وَاليوم تَبغي اختفَاءً فِي الأَنابيبِ
تَمضي بِحَيفٍ إِلى الطُّلابِ تَظْلِمَهُم
وَتُرعبُ الصَّحبَ تِيها بِالغَرَابِيبِ
فَكَم رَأينا نُيوبَ الصَّيدِ بَارزةً
وَكانَ يَحسبُ جَهْلاً فِي العَصَاليبِ
لَكن بَكى الصَّيدُ كَالأطفالِ يَشهدُهُ
شَيخٌ تَفَنَّنَ فِي حُسنِ التَّراتيبِ
فَاعجبْ لِكَلبٍ يَروعُ الصَّيدَ مُعتَليًا
وَيَتركُ الَّلحمَ مُرَّاً فِي أَبي دِيبِ
وَالشَّيخُ يَضحكُ مِن مرَآهُ مُحْتَفيًا
يَقولُ: هَذَا لَعمري مِن مَطَاليِبي
لَقد شَهِدتُ بِكَلبي حُسن تَربيتي
فَذِي حَياتي تَقَضَّتْ فِي الأَعاجيبِ
مَن جَاءَ بَيتيَ لا يَأمنْ بَوَائِقَه
تَعدو الكِلابُ عَليهِ فِي الدَّوَاليبِ
يَا زَائرَ البَيتِ لا تَحْلل جَوَانِبَهُ
مَخالبُ الكَلبِ تُمسكْ بِالتَّلابيبِ
في التشوق إلى الذات الطاهرة أغسطس 2002
طُفْ بِالحَطيمِ مُعَرِّجًا بِحِرَائِه
أقرئ الرَّسُولَ تَحِيَّةً لِرَجَائِه
وَانشقْ مِن العَتَباتِ نَفحَ طُيُوبِهَا
وَذُق الزُّلالَ يَذوبُ مِن صَهْبائِه
وَاركبْ جَناحَ الشَّوقِ لا مُتَمَهِّلاً
تَجد الفُؤادَ يَكُونُ عَينَ فِدَائِه
وَفدُ الحَجيجِ أَرَاهُ غَيرَ مُتَيَّمٍ
وَأَنَا المُعَنَّى فِي الهَوى بِسَنَائِه
يَمضي إِلى نُورِ الرَّسولِ بِظُلمةٍ
وَالعَاشِقُونَ تَعَلَّقوا بِضِيائِه
يَهفُو لَهُ الرُّوحُ المَشوقُ مُحَلِّقًا
يَتَمثَّلُ النَّفحاتِ عِندَ لِقَائِه
حُبّ النَّبيِّ أَراكَ فِي أَطْوَائِنَا
وَأَرى الفُؤادَ يَكونُ فِي عَليائِه
فَتَطلَّعي يَا نَفسُ إِنَّ بَهَاءَهُ
مِن كَوْثرٍ طَابَ الحِجازُ بِمَائِه
يَا عَاشِقًا مَلَّ الحَياةَ بِأَرضهِ
وَدِّعْ ثَراكَ مُحلقا بِسَمَائِه
وَاهجر بِعِشقكَ لِلإلِه هُنيدةً
وَيحَ الجَهولِ يَموتُ مِن سَمْرَائِه
مِن غَيرِ أَحمدَ بِالوِصَالِ يَشوقُهُ
وَيُذيقُهُ طَعمَ الهَوى بِصَفائِه
مَا هَالةُ الأَفلاكِ إِلا نَفحةٌ
سِحْريةُ الأَنداءِ مِن لألائِه
إلى روح أبي أحسن الله له الجزاء: الوافر
سَئِمتُ مِن الحَياةِ بِمَوتِ أُنْسِي
وَلُدتُ بِحَيرتي وَشَقاءِ نَفْسي
فَهَا أَنا بِالحَياةِ أَضيقُ ذَرْعاً
أَعيشُ مُعَذَّباً مِن قَيْدِ حَبْسِي
أُذَاكرُ بِالمُنى أَمْسَاً رَغِيداً
وَمَنْ فِي النَّاسِ يَقدرُ رَدَّ أَمسي
وَكُلُّ مَطَارِحي صَرْعَى كَأنِّي
غَداةَ وَدَاعِكُم مِن غَيرِ قَبْسِ
وَأَنتَ بِرحمةٍ لِلحَقِّ تَسلو
تَظَلُّ مُنَعماً وَأَنا بِيَأسي
أُكَفْكِفُ عَبْرتي فَأَزيدُ هَمِّي
يَهيجُ بِخَاطِري مَا كَاد يُؤْسِي
لَقدَ ضَاقَ الرَّحيلُ عَلَى وَحيدٍ
تَفَرَّقَ شَملُهُ وَبَقي بِيُبْسِ
وَمَن لِي بِالسُّرورِ وَأَنتَ مَيْتٌ
وَحَاشا أَنْ تَموتَ وَأَنتَ قُدْسِي
أَقمتَ عَلى التُّقَى عُمْرًا خَصِيبًا
تَأَلَّقَ فِي الدُّنَا بِنَقاءِ غَرْسِ
وَكُلُّ الصَّاحاتِ تَراكَ نِضْواً
خَدينَ فَضَائل مَا بَينَ رِمسِ
عَهدتُكَ زَاهداً يَحذُوكَ فَضلٌ
وَدُمتَ عَلى التَّزهدِ دُونَ بَخسِ
فَأَنتَ مُعَلِّمي فِي كُلِّ خَيرٍ
يَفيضُ بِخَيمه فِي كُلِّ دَرْسِ
وَحَقِّكَ يَا أَبي وَالموتُ حَقٌّ
رَأَيْتُني بَعدَ مَوْتكَ رَهن غِلسِ
فَهذي محَاجِري تَنْهَلُّ دَمْعاً
بُلِيتُ مِن الزَّمانِ بِفَقدِ شَمسي
أُكَابِدُ صَامِداً مَا كُنتَ تَلقى
مِن الأَهوالِ مَا يَشكوهُ تَرْسِي
وَحيداً فِي الحَياةِ بِلا نَصِيرٍ
يُخفِّفُ بِالهَوى أَصداءَ نَحْسِي
مرثية مدحية في العلامة المبرور الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ومن غريب المفارقات أن هذه القصيدة وصلت إلى تونس فوجدت الممدوح قد فارق الحياة الدنيا والتحق بالرفيق الأعلى رحمه الله:
تِهْ يَا رَسولُ عَلى الدُّنَا بِدَلالي
أَعِظمْ بِذِكرِ (الفَاضلِ) المِفضَالِ
وَاحلل رُبوعَ النُّورِ فِي أَفيائِهِ
وَاسكبْ رَحيقَ الشَّوقِ لِلمِنهَالِ
مُفْتى البِلادِ وَشيخ نُورِ مَعينِهَا
(زَيْتونةُ العلم) الذي هو عَالِ
مِن آلِ عَاشورَ الذِين تَصَدَّروا
فَننَ الفُهومِ بِوَابلٍ هَطَّالِ
فَسَمَا فَخُوراً بِالنَّوالِ مُتَوَّجَاً
قَد أَشبعُوهُ نَفَاسةً بِالنَّالِ
لِلَّهِ أَهلُ العِلمِ لَمَّا بَالغوا
فِي صَوْنِهِ بِسَنائِهِ المُتَغالي
يَا فَاضلَ الفُضلاءِ غَيرَ مُنَازَعٍ
أَفدي بِرُوحي مِن أُحُبُّ وَمَالي
إِنِّي أَتيتُ إِلى رِياضكَ مَادِحًا
لِيَطيبَ ذِكرُ قَصائدِي بِرِجالِ
دَعني أَهيمُ مِن الخِلالِ مُمَجداً
أَنَا لا أَهيمُ بِدَارسِ الأَطلالِ
يَا وَاصلاً حَلى الكَلامَ بِقَولِهِ
وَسَما عَلى شَيخِ العِراقِ القَالي
يَا حُجةَ الدِّينِ الحَنيفِ وَحَبْرِهِ
يَا مَنْ بَلغتَ الحَدَّ فِي الإِيصالِ
يَا مَالكاً حَازَ العُلومَ بجِدِّهِ
هَاتِ الجَوابَ عَلى رَفيعِ سُؤالي
يَا مَنْ تَعَمَّقَ فِي الفُهومِ بحِكْمَةٍ
مِن جَوهرِ الحَقِّ الذي هُو غَالِ
هَلْ صَاغَكَ اللهُ البَديعُ قَريحةً
وَخَريدةً عَزَّتْ عَلى الأَجيالِ
أَمْ تُحفَةٌ جَلَّتْ وَعَزَّ نَظيرُهَا
جَلَّ الإِلهُ الوَاحدُ المُتَعالي
قَد حَثَّني اللهُ العِليمُ بِفَضلكم
وَأَمَدَّني نَفْعاً بِكُلِّ مَقالِ
حَتَّى مَشيتُ عَلى السَّبيلِ مُجَاريا
نِعمَ الخِصالِ تَشَبُّها بِمَعالِ
يَا أَيُّها البَطلُ الكَمِيُّ بِمَربعٍ
حَلَبَاتُهُ لِلأُسدِ وَالأَشبالِ
هَل فَضلكُم يَحنو عَليَّ بِنُصْحَةٍ
لأَزينَ عِقدَ مَعارِفي بِلآلي
هَذي المَشاعِرُ بِالقَصيدِ تَألقتْ
تُثْني عَليكَ شَذِيَّةً بِزُلالِ
فَانعمْ وَدُمْ إِنَّ العِنايةَ رَاقبتْ
نَسْبَيْكَ فِي عِزِّ المَقامِ العَالي
لِتَكونَ حِصْناً لِلعُلوم مُنَافِحًا
وَتُذيقَ خَصمَ العِلمِ كُلَّ وَبَالِ
قلتها في تونس سنة 1971 بعد زيارة ضريح الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور
مَا كُنتُ أَحسبُ وَالحِجَا
طَوْدًا يُغَيَّبُ فِي الثَّرى
أَوْ يُدفنُ البَدرُ الذي
فِي بُرْدِه شَبَّ الجِدا
فِي تُربةٍ (الزُّلاجِ) فِي
أَكْنَافِها يُطْوى السُّهَا
لَمَّا وَقفتُ بِقَبرهِ
وَ((الصَّيدُ فِي جَوفِ الفَرا))
خَاطَبتُ نَفسيَ قَائِلاً:
يَا وَيْحَ قَلبيَ مَا أَرَى
هَذَا السَّرِيُّ مُحَمَّدٌ
يَا لِلفَجيعةِ قَد هَوَى!!
يَبدو إِليكَ مُوَسَّدًا
هَجَر َ المَنابرَ وَالرُّؤى
كَم عُمِّرتْ بِفُهومِه
دُنيا الفَضَائلِ بِالجَنى
هَل لِلمَنابرِ فَارسٌ؟؟
مِثلَ الكَمِيِّ إِذا انبرى
هَلْ لِلسَّمَاحةِ فَاضِلٌ
يَسقي المَودةَ بِالروى
مَنْ لِلمَجالسَ بَعدهُ
يَحنو عَليهَا بِالقُرَى
وَيَرى العُقولَ بِسُحْبِهِ
لَمْعَ المَداركِ كَالجَبا
يَهدي الفُهومَ بِثَرِّهِ
وَيَزينُهُ عُمْقَ النُّهى
إِنَّ المَعارفَ رُوِّعتْ
وَتَصرَّمتْ فِينَا العُرَى
نَحنُ الذين تَصدَّعتْ
أَضلاعُنا يَومَ النَّوى
يَا قَبرُ فِيكَ جَلائلٌ
وَقُلوبُنا فِيهَا الشَّجَى
تَجلى النُّعوتَ مَداركاً
أُلَّافُهُ مِثلُ الضُّحَى
الفَضلُ كُلَّ الفَضلِ فِي
ما تَحْتَويهِ مِن السَّنَا
فَلتُقْريئ الشَّيخَ الجَلي
لَ تَحيةً مِنهَا الصَّبَا
وَتَقولِ إِنَّ (مُحَمَّداً)
حَفِظَ الوَشائجَ بِالوَفا
وَقفَ الغَداةَ مُحَيِّيا
يُهديهِ آيَاتِ الثَّنَا
بِلَواعجِ الوَجْدِ التي
قَدْ صَاغَهَا أَلمُ الجَوَى
أُهدِي الإِمامَ تحَيتِي
مَقْرُونةً بِشَذى الهَوى
ثانيا: تباريح وجدانية غَيْرِية:
والمقصود بتباريح وجدانية غيْريَّة من المصدر الصناعيّ غَيْر: وهي تفضيل الآخرين على الذات، نوع من السُّلوك يهتمّ بمصلحة الآخرين بدلاً من الاهتمام بالمصلحة الشخصيّة[28]، فحين تتعرض أمة من الأمم لخطر داهم يهدد كيانها القومي فإنها لا تلبث أن ترتد تلقائيا بحركة رد الفعل إلى جذورها القومية، تتشبت بها في استماتة لتؤكد كيانها في وجه هذا الخطر الداهم، وعلاقة الشاعر بموروثه وأمته تستجلي ردود فعله المتكررة الغاضبة، التي تشهر ارتباطه النفسي بالقومي وخروجه من واقعه إلى أفق أرحب تلتقي فيه أواصر أكبر من آصرته الذاتية، بروابط الدين والعرق والحب[29]، فينعكس كل ذلك في تباريح وجدانية يطلقها الشاعر تلفح أسنمة الفساد وتحتج على المعتدين، وتلهب الصحوة في نفوس المتقاعسين لينظروا في واقعهم ويحرصوا على حماية كل ما يمس كيانهم وأخلاقهم ودينهم، (فالعالم الخارجي مرجعية أولية لمعاني النص ودلالاته التي تبرز في سطحه أو ظاهره، لأن المرجعية الأهم لأبعاده الدلالية العميقة تكمن في وعي الكاتب الذي يدون ويسرد عمليات وصف وتعليق وتفسير وتأويل)[30] ومن هنا نلاحظ هذه الروح متجسدة في كثير من قصائد الشاعر جبران وهو ينفث تباريحه في قصائده عن بغداد وما حل بها من شتات ودمار وتهجير وفتن، وكذلك ودمشق وما آلت إليه من سوء ودمار، وكانت الصور في قمة السوداوية والحزن، مظهرة حالة الضعف الذي دب في جسد هذه الأمة بعد عزتها ومنعتها، وكل من تابع تلك الأحداث المؤلمة، والمهانة التي وصلت إليها تلك الأمم يضيق بما ضاق الشاعر ويعبر بما أوتي من وسائل التعبير، فالمشاهد من واسع الثقافات المتعددة التي شهدت أرواح وأنفاس كثير من الناس ولكن لا ينقلها إلا القلة القليلة من وعى حجم المؤامرات على هذه الأمم (فالثقافة ليست كلاما نملأ به الرؤوس، ولكنها يقظة الملكات كلها)[31]،حيث يقول في قصيدته
أولا: قصيدة (مجد تجدر)
هَبْنِي فَدَيْتُكَ حَدَّ السَّيفِ وَالقَلمَا
حَتَّى أُصَوِّرَ لِلتَّاريخِ مَا التَاَما
مَجدٌ تَجَدَّرَ فِي بَغدادَ مُؤْتَلفًا
تَجثو الكَوَاكبُ فِي حَافَاتِه خَدَمَا
حَربُ الخَليجِ أَمَاطتْ كُلَّ خَافِيةٍ
كَيفَ السَّبيلُ إِلى تَصْوِيرها كَلِمَا
خَرَّ القِنَاعُ وَصَارَ العُهرُ مُفْتَضَحًا
وَالنَّارُ تَأكلُ فِي أَحشائِها الوَرَمَا
إِنِّي كَرَهتُ بُروقَ الزَّيفِ فِي خُطَبٍ
ظَلَّتْ عُهودًا تَفِيض القَيءَ وَالسَّأمَا
وَالمُجرمُونَ إِلى بَغدَادِنا اندفعوا
شَاه البُغاةُ وَمجدُ القَومِ ما (..)
مِن كُلِّ فَجٍّ أَتتْ غَارَاتُهم لَهَبًا
تَرمي الجَحيمَ عَلَى الأَبْطَالِ مُضطَرِما
وَالحَاقِدُونَ مِن الأَرْوَامِ مَا تَركوا
بِالرَّاجماتِ عَلى أَنحائِهَا نَسَما
وَاليَعرُبِيُّ تَغَابى مِن فَوَاجِعِهِ
مَا عَادَ يَذكرُ فِي أَيامِنا الشِّيمَا
لاكَ الكَلامَ عَلى عِلاتِه هَذَراً
أَمَّا الجِهادُ فَيَلقي عِندَهُ الصَّمَما
غَاضَ الحَياءُ وَحَلَّ العَارُ وَانمحَقتْ
كُلُّ المَفاخرِ فِي أَعماقِه رِمَما
يَا أُمَّةً سَخرتْ بِالهَولِ هَازِئةً
بَينَ النُّجومِ تَسامى مِنكِ مَا نَجما
قَد أَسلموكِ إِلى العُدوانِ مُفردةً
إِنَّ العَشيرةَ صَارتْ تَعبدُ الصَّنمَا
أَينَ العُروبةُ فِي أَقطارهَا خَسِئتْ
أَبدوا رَفِيقا إِذا صَوَّرتُها غَنَمَا
كَانت لَديهم مَدى التَّاريخِ مَلحمةٌ
لَكن تَلاشتْ وَمَجدُ العُرْبِ قَد لُطِما
هَل يَنظرونَ مِن الأَعداءِ نُصْرَتهم
أَو يُشبهونَ حَيَارى صَادَفُوا حُلُمَا
(بغداد)
هَتَفتْ بِذِكركِ لِلسَّنَا الأَيامُ
وَتَحَطَّمتْ فِي سُوحِكِ الأَصنامُ
بَغدادُ يَا نَبع َ الحَضارةِ شَاقَهَا
مَجدٌ تَأَلَّقَ حُسْنُهُ البَسَّامُ
بِخَرائدِ الشُّعراءِ صِيغَ جَمَالُها
وَبِحكمةِ الحُكماءِ عَزَّ دِعَامُ
مِن نَهرِ دَجلةَ قَد نَهلتُ قَصَائدِي
وَتَمايلتْ بِفُراتِهِ الأَقلامُ
أَينَ الرَّشيدُ عَلى مَهَابةِ مُلكهِ
قَطرتْ عَليهِ سَحَابةٌ وَغَمامُ
فَرَنا إِليها سَاخراً مُتَشامخا
سِيري بِمَائكِ مَا عَليكِ مَلامُ
الأَرضُ مَملكتي وَربعك صَيِّبٌ
فِي رَاحتي وَموطني مُسْتَامُ
مَاضٍ مِن الفَخرِ الأَصيل تَواءمَتْ
لَمَحَاتُهُ بَينَ العلُا ونظام
بَغدادُ يَا حُضنَ البُطولةِ غَضة
أَنتِ الوَلودُ وَنسلكِ الضِّرغامُ
سُمِّيتِ زَوراءَ وَنهجكِ وَاضحٌ
فَازورَّ مِن تِبيَانكِ الإِعْجامُ
بَغدادُ قَد هَجمتْ عَليكِ زُحوفُهُم
بِقَنابلٍ فِي مَاضِغِيهَا حِمامُ
حَامتْ عَلى الطِّفلِ البَريءِ بِطُهرهِ
وَجَنتْ عَلى أَشياخكِ الأَلغامُ
وَالنِّسوةُ الثَّكلى تَفيضُ دُمُوعُهَا
مَا عَادَ فِي أَوْضَاحِهَا إِيهامُ
خَرَبُوا العَمَائرَ مِن ضَغَائنِ حِقدِهم
وَالحِقدُ فِي نَارِ الوَغَى هَدَّامُ
صَبُّوا عَليكِ مِن السَّماءِ قَنَابِلاً
وَأَتاكِ مِن أُسطُولِهم اِرزَامُ
وَالرَّاجماتُ على المَدائنِ أَسعرتْ
قَد زُلزلتْ مِن قَصْفها الآكامُ
حَربُ الخَليجِ تَوَضَّحتْ أَغْلاقُهَا
إِذ شَعْشَعتْ صُلبَانهم تَعْتَامُ
وَمِن الفَضيحةِ أَن يُباركَ فَيْحَها
الشَّيخُ وَالقِسيسُ والحَاخَامُ
نَسجُوا لِبغداداً لِبَاساً دَامياً
قَد حَلَّ فِي أَردانِهِ الإِجرَامُ
هَبْني أَصختُ إِلى مَقالةِ زَعمِهِم
أَفلا تَثورُ بِبَاطِني الآلامُ؟!!
إِن كَان صَدَّامٌ سنِيناً مُخطئا
وَاليومَ قَد بَزَّ الدُّنَا صَدَّامُ
يَرمي عَلى دُورِ اليَهودِ قَذائفًا
حَمَراءَ مِن لَهَبِ الجَحيمِ تُشامُ
مِن بَعد مَا سَعدوا السِّنينَ بِغَفوةٍ
رَقَّت عَلى خَطَراتِها الأَحلامُ
وَمَضى إِلى الحِلفِ الحَسورِ يَقُدُّهُ
قَد أَكبرت هَجمَاتهُ الأَجرامُ
لَيت الدَّهاقينَ الذين تَحَكَّموا
فِينا وَكم فِي خَاطري استفهامُ
فَعلوا كَما فَعل الحُسين بِجَمعهم
أَو دُمرت بِسِلاحهم أَزلامُ
بَغدادُ مَا عَادت عُروبةُ يَعربٍ
مَجلوةً تَسمو بِها الأَجذامُ
وَاللَّهِ مَا حَربُ الخَليجِ بِشُؤمِهَا
وَرُجُومِهَا يُقصدْ بِها صَدَّامُ
لَكنَّها هَدْمُ العِراقِ وَطَمْسِهِ
حَتَّى يُجَلَّى فِي العِراقِ حُطامُ
وَيُقَتَّلَ الشَّعبُ الأَبيُّ بِهَجمة
غَجريةٍ يَبدو بِها استسلامُ
وَتُقَسَّمَ الأَقطارُ فِيما بِينهم
بِمَنافِط تَرنوا لَها الأَوهامُ
وَيُذَلَّ مِن هَذا الرَّعيلِ إِباؤهُ
وَيُبادَ فِي أَعماقِه الإِسلامُ
بَغدادُ قَد نَقموا عَليكِ تَقدُّمًا
وَاهتَاجَهم مِن ضَيمكِ الإِقدامُ
عَاجوا عَلى المَاضي السَّنيِّ فَبَزَّهم
وَالحكمةُ الكُبرى لَديكِ إِمامُ
بَغدادُ مَا عَادتْ عُروبةُ يَعربٍ
اصمفِيها الحَمِيَّةُ أَوْ لَها الصَّمصَامُ
يَحيا بِمَوطِننَا الأَصَمُّ مُكرمًا
وَيَعيشُ فِي بُلدانِنَا التَّمتامُ
أُفٍّ عَلى هَذي المُسوخِ وَعُهْرِهَا
مَا ظَلَّ فِيها غِيرةٌ وَذِمامُ
يَتَسَمَّعونَ مِن القَتيلِ صَريخهُ
فَتَجِلَّ فِي آذانهم أَنغامُ
لا يَنهضونَ إلى الضِّرابِ بِعِزَّةٍ
تَخْتَالُ مِن هَجَماتها الأَرحامُ
أُفٍّ عَلى هَذي الوُجوهِ تَجللتْ
بِالجُبنِ، وَالخزي القَميءُ لِجامُ
يَا بُوشُ يَا رِيحَ السَّمومِ تَأججتْ
قَد لَقَّنَتكم دَرسكُم فِيتنامُ
وَاليومَ تَنتالُالدُّورسَ فَضيحةً
وَيجيئكُم مِن أَهلنا الإلجامُ
بَغدادُ يَا جِذمَ البُطولةِ إِنِّني
عَطِشٌ إِلى مَاءِ الفُراتِ مُضامُ
جُودي مِن المَاءِ القَراحِ بِجَرعةٍ
يَشْفِي الرَّسينَ بِعذبها فَينامُ
بَغدادُ قَد وَلهَ الفُؤادُ بِحُبِّها
وَالعَاشقُ المَفتونُ كَيفَ يُلامُ؟!!
مناجاة دمشق
آبَ الفُؤادُ إِلى أَفْيَائِها طَرَبَا
وَاستروحَ السِّحرَ مِن أَنسامِهَا رُضَبَا
قَد عَلَّلتني مِن الأَمواهِ صَافيةٌ
كَأَنَّها الرَّاحُ تُعلي فَوقَها حَببَا
أَعُبُّ مِن نَهرها أَلطافَ مِرشفهَا
مِثلَ اللجينِ يُنَسِّي صَفوها التَّعبا
عَروسةُ الكَونِ تَاهتْ فِي مَلاءتها
فَفَاحَ مِن نَشرها مَا كَانَ مُحْتَجِبَا
يَا دُرَّةَ الشَّرقِ فِي أَخلاقِهَا عَبِقتْ
وَفِي بَنيها فَصاروا مِثلهَا نُجُبَا
زَهرُ المَشاربِ إِن تَمسسك عارفةٌ
مِن العَوارفِ تَلق الخَيرَ والحَسَبَا
يا نكهة الشام في أغوارها برقت
شم الفوارس أفدى جيشها اللجبا
بنو أمية ماسوا في مساربها
كباشق الطير يمضي في الفضا عجبا
هل تذكرون صلاح الدين إذ زحفت
منه الزحوف جهادا تدحر الصلبا؟
سنابك الخيل تمضي من مضاربها
توري العثير إذا ما أقبلت لهبا
في مجتلى الفخر ترنو من منارتها
على المدائن تسدي للعلا قشبا
أنهلت روحي من أسوارها نحتت
إذ أكبر الدهر منها معقلا أشبا
على القباب من الماضيين مزدهر
وفي المآذن ألقت للسنا شهبا
تزهى دمشق وفي الأمصار مغتبط
قد هزها الكبر من تاريخها نسبا
فتلك أرباضها بالزهر كاسية
ريح الخزامى يساري بينها قصبا
أشم من عطرها أنفاس منبجها
قد راقني قدها إذ عانقت حلبا
يا جلق المجد ما في المشرقين يد
تدافع الشام عما كان قد ركبا
أتى بتاج من الأضواء فانتظمت
ربوعه الفيح من أبهائه خصبا
يا روعة الشام في قيسون ما فتئت
تضفي الوداد على زوارها حدبا
هفا المشوق إلى رياك فانبجست
في خافقيه من الآمال ما طلبا
أين الندامى بوادي النيربين شدا
من ظرفهم سمر قد أترع الأدبا
عانقت فيك رواء الفن في نسق
من السناء أصيلا ليس مجتلبا
والشعر يطرب في أفنائه غردا
يهوى الحسان ويسحو كأسه عنبا
أبا عبادة هل في الوتر قافية؟
فقد عدمت لسانا في الربى ذربا
في الغوطتين وهل في الكون من شبه
في النمنمات أفدي الوشي والهضبا
أستلهم الشعر من عينيك أغنية
وأنثر العطر في أردانها رطبا
وأجتلي بالروابي بوح ساقية
من الجداول تجري ماءها سكبا
والطير تبدع من إيقاعها نغما
حلو اللحون إذا يعروك مرتغبا
وموكب الغيد يلهو في أزاهره
مرفه العيش يشدو بالغنا لعبا
مضى شبابي حزينا غير مؤتلق
فهل أكون بشيبي للضنا لقبا
قد زرت سوحك والأحداث فاجعة
أذري الدموع وأشكو الهم والتعبا
مفرق الشمل لا الخلان تؤنسني
وأبصر الأهل صرحا قد بدا خربا
أذهبت نفسي في الآمال مبتهجا
يشوقني الود في استحلابه سحبا
فما اجتنيت بأرض الشوك وا لهفي!
سوى المتاعس تؤتي بؤسها كربا
يا بنت قيسون تفني الدهر مفخرة
لا يعرف الحب من أطوائك الرسبا
أحببت نهرك هل في الماء فرحته
أو الدموع تراءت تملأ الهدبا
فحدثيني حديث الإلف عن زمن
شعاره الغدر في إنسانه انسحبا
أرض الشآم أراك اليوم صامتة
تشابهين أشما أنكر الصخبا
في مقلتيك من الأحزان معلمة
وفي جبينك يبدو النفح مستلبا
من راع سربك حتى صرت واجمة
حيرى الجفون ألا تبدين لي سببا؟!
أرى المآقي تباري من هواطلها
ماء الينابيع تذري الدمع مختضبا
أنا الغريب وطيف الهم يتبعني
حيث اتجهت ألاقي الهم مرتقبا
أشكو إليك كما تشكين مشأمة
تعلو الفواجع في أعماقنا غلبا
فكفكفي الدمع في الأهوال واحتسبي
وعلميني بهاء الصبر قد عذبا
وخلاصة ما يمكن قوله حول هذا الديوان الشعري الموسوم بجهد المقل وما احتفلت به قصائده من درر، هو مقدار الفوائد الجمة التي رسمها الشاعر في تأريخ مجموعة من التحيينات واللحظات والمواقف التي عاشها وفق أنساق ثقافية رسمت جماليات الحياة بصورها المتنوعة الملونة بصور التاريخ والحاضر، بلغة موحية، وصور فنية متعددة تستفز شهية المتلقي لتتبع تلك الأنساق الثقافية والمعرفية المشكلة في ذاكرة الشاعر، والتجليات الذاتية والغيرية التي عاينها وأظهر قيمها العالية.
الهوامش:
[1] قراءة النص وسؤال الثقافة، د. عبد الفتاح أحمد يوسف، عالم الكتب الحديثة،2009، ط1، ص18.
[2] رسالة ماجستير بعنوان : النسق الثقافي للأغراض الشعرية عند العرب)) الطالبة سلوى بوزرورة، جامعة مولود معمري تيزي وزو، الجزائر، ص93.
[3]قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ص39.
[4]أ.د. محمد مسعود جبران أستاذ بجامعة طرابلس كلية اللغات قسم اللغة العربية، ولد الدكتور محمد مسعود جبران في مدينة طرابلس الغرب مسقط رأس آبائه وأجداده, بتاريخ 21 جمادى الآخرة 23/5/1946, ودرس فيها مراحل تعليمه المختلفة بدءا من مرحلة التعليم الابتدائية والإعدادية, وانتهاء إلى الشهادة الجامعية الماجستير, فقد تخرج بشعبة اللغة العربية والدين في معهد المعلمين, القسم الخاص سنة 1388 ﻫ /1968, وحصل في أثناء تلك الفترة أيضا على دبلوم مدرسة الصحافة التابعة لمدارس المراسلات المصرية سنة 1382 ﻫ / 1962, بتوجيه الدكتور محمد فائق الجوهري رحمه الله. حاز بعد عمله في التعليم العام ليسانس اللغة العربية والدراسات الإسلامية في كلية التربية بجامعة طرابلس سنة 1395 ﻫ, 1975م, وعين معيدا في الكلية المذكورة.، نال درجة الماجستير الشهادة العالية في الأدب العربي الحديث من جامعة طرابلس سنة 1403ه/ 1982, وأطروحة الدكتوراه الدولة, التخصص الدقيق في الأدب الأندلسي, فنال الدرجة سنة 1418 ﻫ / 1997, بالمغرب.
[5] معجم اللغة العربية المعاصرة د. أحمد مختار عبد الحميد عمر، عالم الكتب ط1 – 2008 م ص 12.
[6] المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية، د. علي علي مصطفى صبح، تهامة -جدة-المملكة العربية السعودية، ط1، 1984م 48ص.
[7] انظر المصدر نفسه ص 61.
[8] معجم مصطلحات الأدب ( عربي، انجليزي، فرنسي)، د. مجدي وهبة، مكتبة لبنان، بيروت،ط1، 1976، ص255.
[9]معجم اللغة العربية المعاصرة، ص367.
[10]في الميزان الجديد، محمد مندور، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2004م، ص120.
[11] التذكرة الحمدونية، محمد بن الحسن بهاء الدين البغدادي، دار صادر، بيروت،ط1، ج6، ص345.
[12]المقابسات، أبو حيان التوحيدي، المحقق: حسن السندوبي، دار سعاد الصباح
ط2، 1992، ص 213.
[13] مباهج الفكر ومناهج العبر، أبو إسحق برهان الدين المعروف بالوطواط، ص8.
[14] نسبة إلى الروم وهم الإيطاليون الغزاة الذين أقضوا مضجع الآمنين في طرابلس الغرب بقنابلهم وترويعهم.
[15] الهوامل والشوامل سؤالات أبي حيان التوحيد لأبي علي مسكويه، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه،المحقق: سيد كسروي، دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان، ط1 – 2001م، ص162.
[16] الهوامل والشوامل سؤالات أبي حيان التوحيد لأبي علي مسكويه، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه،المحقق: سيد كسروي، دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان، ط1 – 2001م، ص162.
[17] معجم العين مادة نسق.
[18] النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص76.
[19] المعجم الأدبي، د. جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بيروت، ط1،1979، ص81.
[20] النقد عند عبد الله الغذامي، د. معجب الزهراني
[21] معجب الزهراني مجلة الرياض.
[22] فصول في الثقافة والأدب، علي بن مصطفى الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون ديرانية، دار المنارة للنشر والتوزيع، جدة – المملكة العربية السعودية، ط1، 2007 م، ص281.
[23] منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تحقيق د. محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1986، ص71.
[24] وحي القلم ص 212.
[25] وحي القلم المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م ص14.
[26] نسبة إلى الروم وهم الإيطاليون الغزاة الذين أقضوا مضجع الآمنين في طرابلس الغرب بقنابلهم وترويعهم.
[27] تم نشرها في مجلة الفصول الأربعة، العدد 85، 1997/ ص100.
[28]معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر، عالم الكتب، ط1، 2008 م، ص56.
[29] انظر استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، د. علي عشري زايد، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس ليبيا، ط1، 1978، ص49.
[30] مقاربات حوارية، د. معجب الزهراني، النادي الثقافي الأدبي، جدة، ط2، 2013، ص250.
[31]في الميزان الجديد، محمد مندور، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2004م، ص51.
المصادر والمراجع
1. استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، د. علي عشري زايد، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس ليبيا، ط1، 1978.
2. فصول في الثقافة والأدب، علي بن مصطفى الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون ديرانية، دار المنارة للنشر والتوزيع، جدة – المملكة العربية السعودية، ط1، 2007 م.
3. في الميزان الجديد، محمد مندور، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2004م.
4. قراءة النص وسؤال الثقافة، د. عبد الفتاح أحمد يوسف، عالم الكتب الحديثة،2009، ط1.
5. المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية، د. علي مصطفى صبح، تهامة -جدة-المملكة العربية السعودية، ط1، 1984م.
6. المعجم الأدبي، د. جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بيروت، ط1،1979.
7. معجم العين أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري المحقق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.
8. معجم اللغة العربية المعاصرة د. أحمد مختار عبد الحميد عمر، عالم الكتب ط1،2008.
9. معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر، عالم الكتب، ط1، 2008م.
10. معجم مصطلحات الأدب (عربي، انجليزي، فرنسي)، د. مجدي وهبة، مكتبة لبنان، بيروت،ط1، 1976.
11. مقاربات حوارية، معجب الزهراني، نادي مكة الثقافي الأدبي، المملكة السعودية، ط2، 2013.
12. منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تحقيق د. محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1986.
13. النسق الثقافي للأغراض الشعرية عند العرب، سلوى بوزرورة، جامعة مولود معمري تيزي وزو، الجزائر، رسالة ماجستير.
14. النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000.
15. وحي القلم، مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)، الناشر: دار الكتب العلمية ط1-2000م.
16. مجلة الفصول الأربعة، العدد 85، طرابلس، ليبيا، 1997.