يا احميده إن اصطدت البوعبعاب فاسقه وأطلق سراحه.. إنه طير مرابط.. إنْ حطّ فوق بيت ما فذاك البيت ستأتيه بشارة سعيدة.. هكذا قالت لي جدّتي عندما رأتني أغمر الفخ بالتراب و لا أبقي منه شيئا ظاهرا فيما عدا دودة الخضر ذات اللون الزيتوني الغامق.
ابتعدت أجلس في ظل نخلة منتظرا أن يري طائر ما دودتي الراقصة من الألم و المربوطة بسلك معدني رفيع فينقبها لينطبق عليه الفخ وينتفض به محاولا الخلاص منه أو الطيران به.. فأركض نحوه سعيدا وأخلصه من الفخ وأتفحصه.. إن كان مجروحا أو مكسورا أذبحه بشفرة الحلاقة.. وإن كان سليما أحتفظ به في القفص حتي أبيعه أو أقايض به..
طيور كثيرة وقعت في شرك فخي.. زرازير.. حمام.. امبريمات.. بوبشيرات.. ذبيبينات.. طيور خليش.. طيور عضيض.. كتكوت صغير.. ديوك حبش.. لكن البوعبعاب.. لم يلمس دودتي.. يطير قريبا من الفـــــخ و لا يتوقف عليه.. يحوم حوله.. يحط بجانبه.. يلتقط من التراب المحيط به حبيبات شعير وقمح وشرائح عشب.. لكن الدودة التي تغــــويه برقصها المؤلم لا يلتـــفت لرقــــصها.. لا يقترب منها.. لا يلمسها.. وإن اقترب منها طائر آخر فلا ينبهه أو يمنــــعه من نقرها.. وعندما ينقرها ذاك الطائر الغافل وينطبق عليه الفخ المعدني.. البوعبعاب لا يساعده ويتركه لمصيره وعندما آتي جاريا يطير البوعبعاب مبتعدا ليربــــض علي قمـــة أقرب شجــــرة أو نخلة.
كنت راغبا أن أصطاد بوعبعاب ثم أنفذ كلام جدتي التي أحبها فأسقيه الماء وأطلق سراحه.. لكن البوعبعاب عنيد لا يلمس دودتي.. ولا يقترب كفاية من فخي.. يعذبني كثيرا.. يجعل حواسي كلها متحفزة مستـنفرة.. تتابعه باهتمام.. يحط قرب الفخ.. يرفع منقاره إلي الشمس.. يغرزه في الأرض.. ينتشل به شيئا.. ينقره عدة نقرات.. يفتته أجزاء صغيرة.. يأكله علي مهل منتبها للمكان المحيط به.. اي اقتراب منه أكثر من المسافة التي يرتئيها هو آمنة يجعله يبتعد.. لا يهرب بعيدا.. لكن يبتعد أمتارا معقولة.. تجعله ينقر طعامه في سلام.
أكثر من مرّة ذهبت إلي جدّتي حزينا لأنني لم أصطد البوعبعاب فتقول لي أحسن.. أحسن.. فكك الله منه.. بريكته.. نجوت من ذنبه.
كان كلام جدّتي يدخل من أذني اليمين ويخرج من أذني الشمال.. كان لدي توق عنيف كي أصطاد هذا البوعبعاب.. ليس لشيء غير أن أطلق سراحه لأنال ابتسامة رضا من جدّتي.. غيّرت الطعم.. استبدلت الدودة الخضراء بصفراء.. استبدلت الصفراء بكسيرة خبز مبللة.. بشريحة طماطم.. بقطعة جبن.. بحبّة زبل.. لكن لم أوقع بهذا البوعبعاب.
عطلتنا الصيفية علي وشك الانتهاء.. سنترك الريف حيث يعيش جدودي ونعود إلي المدينة.
سأعود مهزوما.. البوعبعاب لم أصطده.. وبقية الطيور التي اصطدتها لا أهمية لها.. فلا يوجد فوق رؤوسها تاج.. حتي إنْ أطلقت سراحها فلن أشعر بالسعادة كثيرا.. جميل جدا أن تقبض علي طائر متوّج وتطلق سراحه.. سيسجل لك ذلك تاريخ الجدّات.. وستحكي جدّات العالم كلهن عن هذا الفعل غير الشنيع.. ستبتسم أيضا أمنا حواء عاشقة التفاح.. وستوظف هذا الفعل الحكاءة المخضرمة شهرزاد في حكاياتها المقاومة لغطرسات الملوك.. مقاومة الملوك دائما تكون بالجسد والحكاية.. الحكاية تحتاج إلي جسد.. والجسد يحتاج إلي حكاية.. والملك يحتاج إليهما معا.. سأعود إلي المدينة مهزوما.. البوعبعاب وحده هو من يسعدني.. منحي الحرية له تتويجا رائعا لرحلتي الريفية.. لن أطلق سراحه مباشرة فور القبض عليه.. سأسأله عدة أسئلة تحيرني منذ زمان.. لن أجد لها إجابة إلا عند معاشر البوعبعاب.. اسئلة تتعلق بالمستقبل.. تبدأ بمتي وكيف ولماذا وكم وهل وأين وووو….. أداوي بهذه الأجوبة جراح غموضي وقروح حيرتي وما يتبقي منها فائضا عن حاجتي أبيعه للكسالي والفاشلين.. سيجيبني أولا ثم أداويه وأسقيه وأطلق سراحه كما أوصتني جدّتي بالضبط.. لأن البوعبعاب كما تقول مرابط.. وأي جريمة شنيعة أنْ يصطاد الإنسان مخلوقا مباركا.. لكن هواية الصيد بها شحنة عظيمة من العناد.. وشحنة عظيمة من الصبر.. وشحنة عظيمة من التوتر وشد الأعصاب.. كان ذلك الأصيل علي وشك أنْ أغادر.. الفخ لم يمسك شيئا سوي بعض الطيور الصغيرة التافهة.. التي رميت بها إلي القطط.. سرت صوب الفخ.. رميت دودته للنمل.. نظفته من الغبار.. وحفظته في المخلاة.. وفجأة رأيت بوعبعابا رشيقا يمرق سريعا من بين نخلتين.. يحلق عاليا ثم يهبط حاطا قرب مكان الفخ.. نقر التراب الذي كان يخفي الفخ وابتعد صاعدا إلي أعلي النخلة.. لكنه عاد مجددا.. فعل ذلك أكثر من مرّة وكأنه يحثني أن أعيد نصب الفخ.. لكن لا يوجد لدي دود.. بحثت هنا وهناك عن طعم فلم أجد.. عند نافذة المربوعة القديمة رأيت بوبريصا* هابطا إلي أسفل.. حذفته بحصوة صوان حادّة الحواف فأصابته ووقع أرضا.. وقع منفصلا جسده عن ذيله الذي شرع يرقص بشدة.. لم أهشم رأسه ببوز حذائي وتركته يهرب بعيدا مبتورا.. وبسرعة ربطت الذيل الراقص من منتصفه بالسلك المعدني وعدت إلي حيث الفخ.. فنصبته بطعم جديد.. برقص جديد.. بإغواء جديد.. ذيل البوبريص يرقص بانسيابية.. ما إن ابتعدت عشرين مترا عن مكان الفخ حتي هبط البوعبعاب قرب الفخ.. الذيل يرقص بحركة سريعة متألما من السلك المربوط بشدة حول خصره.. و خائفا من البوعبعاب الذي سينقبه ويشطره إلي نصفين واضعا حدا لحياته وقاتلا أمل العودة للجسد الذي كان فيه.
رفع البوعبعاب منقاره إلي السماء ثم أنزله بقوة علي ذيل البوبريص فأنطبق عليه الفخ وصار ينتفض بشدة مثيرا زوبعة هائلة من الغبار ومتنقلا بالفخ القابض عليه بإحكام من مكان إلي مكان محاولا تخليص نفسه ولاعنا البوبريصات وذيولها الراقصة.. جريت نحو الفخ سريعا.. أمسكته بحذر.. وخلصت البوعبعاب المعفـر بالتراب بعناية.. لقد كان سليما.. تفحصت جناحيه ريشة ريشة.. تفحصت منقاره ولسانه ورجليه وعنقه.. لا جرح.. لا رض.. لا كدم.. قررت أن أسقيه فغطست رأس منقاره في غدير الماء فلم يفتحه ليشرب.. لم أعرف السبب ولم أبحث عنه.. لقد كنت في قمة السعادة آنذاك.. انطلقت راكضا إلي كوخ السعف حيث جدّتي تعد لنا العشاء.. فقابلتني أمامه وهي ترمي قشور الخضر في حفرة القمامة.. صحت سعيدا.. أخيرا اصطدت البوعبعاب.. فصاحت جدّتي بألم.. احميده.. ابعده عني.. أطلق سراحه فورا.. قبل أن تغيب الشمس.. لكن يا جديدة أريده أن يجيبني عن مجموعة أسئلة.. قلت لك أطلقه فورا.. الآن.. و قبل غروب الشمس.. رضخت لأمر جدتي وأطلقت سراح البوعبعاب بأن رميته في الهواء.. فطار قليلا واصطدم بجذع نخلة فسقط أرضا.. جريت نحوه.. فلم يهرب.. رفعته اتفحصه.. أنظر إلي عينيه.. كانت بهما طبقة من تراب.. كانتا غارقتين بالدمع.. غارقتين بدمع الطيور الطائر.. بحثت عن منديل لأمسحهما له.. فلم أجد.. هرعت به إلي الغدير وغسلت له عينيه.. ورميت به عاليا فطار قليلا واصطدم بجذع زيتونة هرمة.. فسقط تحتها.. ما الأمر ؟.. هل صار البوعبعاب أعمي ؟.. يا لك من جريمة ارتكبتها هذا الأصيل.. سآخذ هذا البوعبعاب معي إلي المدينة.. آخذه إلي البيطري.. فلربما يستطيع أن يشفيه.. أو يصنع له نظارة تمكنه من تبين دربه.
بقية الأيام توقفت عن صيد الطيور.. بل حطمت الفخ بحجر صوان وجعلته كتلة معدن صماء لا معالم لها.. رميتها لتعلق علي سياج المزرعة.. بقية الأيام كرّست وقتي للعناية بهذا البوعبعاب الأعمي.. وضعته في قفص واسع حفاظا عليه من عبث القطط وخيانة الكلاب والثعابين.. أسقيه الماء العذب وأطعمه القصب والقمح والشعير.. أغسل له عينيه بماء نظيف.. أجلس بجانبه لساعات طويلة.. أستمع لصوته محاولا أن أحوّل صوته إلي إجابات عن أسئلتي..أحيانا أغني له فيتسمر منصتا إلي.. جدتي سعيدة لأنني أعتني بهذا البوعبعاب.. وعندما تحضر لي بعض الفواكه أو الحليب والتمر تغني لي :
تعال خبر يا بوعبعاب.. أنت صادق مانك كذاب
وعندما تبتعد عني يغادرني خجلي و أكمل بقية الأغنية العاطفية لصديقي البوعبعاب :
واسرع في الجيّة
روف عليا
وقول لبو جمّة مسفية
راه قلبي ذاب
يريد إيدز معاك جواب..
يا بوعبعاب تعال خبر يا بوعبعاب
يا بوعبعاب انت صادق مانك كذاب
وأشعر أن البوعبعاب سعيد فيحرك رأسه ويفرد جناحيه وتعود إليه شهيته فينقر عدّة حبات قمح دفعة واحدة ويغطس منقاره في وعاء الماء ويشرب.
إحدي الليالي حكت لي جدّتي القصة التي علموها لنا في المدرسة الخاصة بالنبي سليمان الحكيم والبوعبعاب وبلقيس ملكة سبأ والعفاريت.. تحكيها لي بأسلوبها الشائق الممتع غير الممل.. الأسلوب الذي يجعلني أري العفاريت أمامي وبلقيس أمامي وسليمان أمامي والبوعبعاب الذي تأخر لكنه جلب خبرا مهما أمامي.. أنظر إلي بوعبعاب سليمان الحكيم.. وأنظر إلي بوعبعابي الأعمي.. فأشعر بالحزن.. لكن لا أندم عن صيدي له.. هو قدره وقدري أيضا.. وعلي كل مخلوق أن يحترم الأقدار ويتعامل معها بطريقته.. أعامل البوعبعاب الآن معاملة جيدة.. وهو يعاملني بالمثل.. هو كنزي الأعمي.. وأنا إفلاس يري.. علينا أن نتعايش الآن كيفما اتفق.. ولننتظر الصباحات القادمة.. فلربما تجلب لنا شيئا يرمم نقصنا.. أو يمزجنا بعضنا في البعض.. علينا أن ننتظر الطعم الذي سيغوينا.. سيأتي صباح أعمي يبحث عن رؤيتي وصباح مبصر يزيح غشاوة البوعبعاب.. وإن لم يأت هذا الصباح المنتظر.. فسنشكر الليل.. خاصة المقمر منه.
قبل أن أذهب إلي زيارة جدتي في الريف لم أكن أعرف الفخ.. يوم الخميس حيث السوق الأسبوعي للقرية رافقت أبناء عمومتي إلي السوق.. باعوا ما جلبوا إلي السوق من طماطم وفلفل وحناء وبصل.. واشتروا ما يحتاجون إليه من لحم ومعلبات وحبال وجرادل ومحاش وبرويطة.. واشتروا لي فخا صغيرا.. علموني كيف أصطاد به الطيور.. في البداية تقززت من ربط الدود ثم بعد ذلك تعودت وصار الأمر عاديا جدا.. الفخ علي شكل مربع من السلك المعدني.. يقابله مربع آخر ينطبق عليه.. بين المربعين يوجد سلك بطول السبابة يشبه المسمار.. تقابله حلقة صغيرة يمرق فيها لغرض التشريك.. أثناء الصيد تكون وضعية طرف المسمار علي طرف الحلقة بحيث ينفصلان بعضهما عن البعض وينطبق المربع العلوي علي السفلي عند أدني حركة.. وأي شيء يكون بين المربعين أثناء الانطباق يقع في الشرك.. المربعان يربطهما سلك حلزوني متين بطريقة تمنحهما آلية الانطباق السريع.. مربع الفخ له أربعة أضلاع.. أربعة فصول.. أربعة أصول.. بـينها هوّة.. المربع السفلي هو الأصل.. المربع العلوي المنطبق هو الصورة.. الفخ فك علوي وسفلي.. الفخ يعض الحياة.. المسمار والحلقة هما الذكر والأنثي.. أما الطعم فهو اللغز.. فهو الشيء المصطاد المسخر.. لو تحرر الطعم فستكون الحياة طازجة.. وســـــــيرقص الدود من دون ألم.. وسيزحف ذيل البوبريص ماسحا الأرض من الدماء.. وسيــجيبنا البوعبعاب بعينيه الحنونتين.. أما لسانه فسوف يعجز عن الإجابة به.. حتي عندما نلح عليه ونقول له تكلم يا بوعبعاب.. لا يتكلم.. لكنه يفتح منقاره إلي آخر مدي ويوجهه إلي أعلي ليمتليء بالشمس.