من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
قصة

يوم من عمري

من أعمال التشكيلي الليبية .. مريم العباني
من أعمال التشكيلي الليبية .. مريم العباني

أحسست أنه يستحقُ أن أكتب عنه ، ليس لآنه يوم من عمري!

ولكن لآنه عمر إنسانة أخرى …

استيقظتُ مبكرآ ، يبدو أنني أشتاق لصوت فيروز في الصباح ، إلا أن هاتفي كان يصدح بصوتها الآخاذ …كانت إحدى صديقاتي ..تسألني إن كان بإمكاننا أن نلتقي هذا الصباح

: حبيبتي ..هل من سبب ضروري لهذه المقابلة العاجلة ؟

: بلقيس .إنه موضوع ..موضوع لايمكن أن تتصورينه …لايمكن أن تتخيلي وجوده هنا على سطح الكرة الآرضية ..لايمكن أن تقولي أنه لايوجد بشر !

: شوقتني …متى ألقاك ؟؟

: العاشرة يا عمري ..سآتيك أنا بما أنك لازلت تتعلمين القيادة

: ضحكت منها قائلة : سأوصلك ذات مرة بسيارتي و أدعوك للفسحة بها .

واتفقنا ….

ثم ألتقينا ..أنا بعيون متساءلة

وهي بقلب ينتفض ..فلم يسبق أن رأيتها هكذا من قبل

وجلسنا ..نتحادث بحوار تمهيدي خفيف ..وكانتْ تعرف عاداتي

أنني لآ أحبُ الفضول مالم يخبرني أحد أمامي عما يحسه ..إن كان راغبآ بالتحدث لي

فبادرتْ قائلة لي وهي توقف السيارة ..بلقيس هل أنت مستعدة ..لآن تقابلي إنسانة يعزُّ على حبها ..ويسؤوني حالها ..ولم أعرف كيف أخلصها مما هي فيه …

: بادرتها قائلة : مهلآ !!

ما كل هذا الكلام …؟ّ! هل هناك فائدة من حضوري ؟

: نعم بلقيس ..أعرف بتأثيرك على الآشخاص …أعرف أنك ستجعلينها تفكر أكثر

هذه المرأة في حال آخر

هذه المرآة تعيش مع الحيوانات !!!

: ماذا ؟؟؟ كيف كيف تعيش مع الحيوانات ؟؟ هناك أناس يفضلونها ويعيشون معها

: بلقيس ..هذه المرأة طوال عمرها ..ومنذ ما حدث لها ..صارت بعيدة عن البشر ..تقضي وقتها تعني بالحيوانات ..حتي صارت أو تكاد تتكلم معها …

: طيب ..كيف أراها ؟ ما المطلوب مني ؟

: ليس مطلوبآ منك شئ اليوم …سنذهب لحديقة الحيوانات ..ونراها من بعيد هنالك أخبرك قصتها .

: طيب حبيبتي …سأستأذن من أخي الآن ..

وذهبنا لحديقة الحيوان ..وطفنا هنا ..وهنالك حتى وجدنا كرسيآ ..وبدأت صديقتي تسرد القصة :

هذه المرأة بلقيس لها ابنان ..هما الآن راشدين …انظري إليها ، أليست ْجميلة .؟

: بلى ..تالله إنها لجميلة …اكملي

: بدأت قصتها عندما خرجت ذات صباح لعملها ..ويبدو أنها كانت أول الواصلين للعمل …وفيما بدا كان المكان يتعرض لسرقة ما

و اكتشف السارق وجودها ..وفيما يبدو كان معه اثنان …

اقتحما عليها مكتبها ..وتعرضا لها ..وتحرشا بها ..

أُصيبت المرأة بصدمة ..طبعآ ..ويالها من صدمة !

ولم يكن في وسعها إخفاء الآمر …فبادرتْ بإخبار أهلها ..علق أهلها مع أهل الزوج

الذي زاد من صدمتها بأن طلقها فورآ ..

: معقول طلقها ؟؟ هل هذا هو الوفاء للحب ..والاسرة ..والاهل ؟؟

: آآه يا عزيزتي . إذن لماذا أخبرك الآن ؟؟ لآنه لايوجد حب …وما أن طلقها حتي أُصيبت بصدمة …وصارت تهذي ..وما زاد الطين بلة أنها حملت ..وصار الناس والمجتمع والكل لايرحمها ..حتى أهلها …حاولت إصلاح الآمر والتخلص من الحمل ونجحت ..ولكنها لم تتخلص من عقدتها .

: وكيف كانت عقدتها ؟

: عقدتها بدأت منذ مشكلتها ..في تعاطي الناس لموضوعها ..جربت الآهل ..جربت الزوج ..جربت أطفالها ..ثم حاول زوجها و أهلها أخذ الآطفال منها بحجة أنها أم غير صالحة ..وفعلآ وياللآسف !

بقانون من المحكمة ..انتبهي (من المحكمة )أخذ الزوج و أهله الاطفال ..و مابك ؟؟

:{ كنت أبكي لما حدث معها ..و أنا أنظر لذلك القوام المتناسق من بعيد ..وهي تطعم بعض الحيوانات }..

وهاكي هذا المنديل ..صحصحي معي بلقيس أنا أحتاجك

: نعم ..أكملي

: بعد ذلك بدأت معاملة الآهل والآقارب تتغير ..و أتهموها بأنها متواطئة ..خاصة و أن الزوج نجح في إقناع المحكمة بأنها فعلت ذلك برضا منها …و ناءت المرأة بعيدآ

لاكلمات ..و أحاديث ..لا من يراسلها ..لامن يسأل عنها ..تبدأ يومها في صمت بعملها ..وتنهيه بصمت …

: طيب ..وما علاقة ذلك بحديقة الحيوانات ؟؟أقصد بالحيوانات .

: سبب ذلك أنها ذات مرة زارت هذه الحديقة ..و أطعمت بعض الحيوانات ..واستلطفتها ..وبدأن تأتي كل يوم ..تجلب لها الطعام ..انتبهي بلقيس هناك جزء من مالها لهذه الحيوانات ..وبدأت تعتاد عليها …

وفعلآ حتي أنها صارت تتآلف معها ..وتعرف وجهها حين تأتي ..ولمست منها الوفاء !

: الوفاء ؟! ياللقذارة زوجها ..{قلتها بغضب }

: استمري ..وبعد؟

: أقامت المرأة في بيت مستقل ملآته بالقطط ..والكلاب ــ أكرمك الله ــ وصارت تتفاهم معها ..وتحفظ عاداتها ..وتعتني بها ..بل وتعلمت بعض مواءات القطط في معناها ..وحفظت متى تعوى الكلاب حين تجوع …وهكذا !!

: والعبرة عزيزتي من إحضاري ؟

: بلقيس مهما تحدثت مع هذه المرأة لن تستقبل منك كلمة …لم تعد تثق بالبشر ..لم تعد تعرف كيف تتعاطي الحديث معهم …لم تعد ترحب بأي صديق ..صمت ..صمت ..تنظر إليك بصمت ..تحدثك بعيونها …تتعاطي معك بالاشارات …لا استجابة ..حيوانات حيوانات فقط

{ تركت نفسي أنظر للفضاء أمامي ..وهي هناك قريبة من بعض الحيوانات ..ويبدو أن العاملين هنا يعرفونها }

: كيف أقنعها بالحديث لي ؟ وهى هكذا مصدومة ؟

: لآلآ أدري بلقيس تصرفي أنت ذكية ..من الممكن أن تفكري ..ولكن أنا أحاول إخراجها من هذه القوقعة ..المفروضة على نفسها ..

و أنت لست الاولى التي ستحاول إخراجها مما هي فيه ..

: طيب ..أنا فهمت ولكن أتركي ذلك لي لبعض أيام ..وبدون أن أصحبك معي ..أعطني عنوانها ..

و أخذت عنوانها …وصار لزامآ أن أفكر بها …ياله من عالم ..والله غريب جدآ !

لا زوج ..ولا أهل …ولا أبناءها ..ولآ حتى أمها …حيوانات ؟؟! حيوانات فحسب .

وبقيت يومآ كاملآ و أنا أفكر في غرابة عالمنا ..لآ إله إلا الله …تقطع قلبي لآجلها ..فكيف أُحظى ببضع كلمات معها …

وكيف تصنف نفسها الآن ؟؟

من البشر ؟؟

أم من الحيوانات ؟؟

طالما ناءت عن البشر ..ودخلت عالم الحيوانات ؟؟

كان يومآ قاسيآ يوم أن قابلتها …

لآ أعرف كيف تجرأتُ ..فكرت طويلآ في مقابلتها ومحاولة {مجرد محاولة } للآقتراب منها ..وقررتُ أن أبدأ من حديقة الحيوانات ..و جلبتُ معي بعض الطعام ..ولحسن الحظ كنت استلطف قطة جارتنا بوسي ..و أطعمها لبعض المرات ..

وخرجتُ إليها ..كانت الحديقة مليئة بطلبة المدارس ..وبحثتُ عنها فلم أجدها ..وقررت ُ أن أسبقها ..و أبدأ في التودد للحيوانات {رغم خوفي من بعضها } وفعلآ فيما بدأتُ ..أتودد إيها ..وبمرور بعض الوقت ..جلستُ على بعض العشب القريب ..و أنا أراقبها ..وفجأة مرَّ من أمامي طيف ..متناسق القوام …جميل الوجه …صمت ..هدوء في الملامح غريب ..لم تعرني اهتمامآ ..وبدأت بعض الحيوانات تحييها على طريقتها ..وفيما جاء أحد العاملين الذي يعرف بحبها لها ..حتى فتح أحد الآقفاص و أخرج لها بعضآ من الآليف منها ..وبقيت بها على مقربة مني ..

كانت تحدجني بين الفينة والفينة ..بنظرات يشوبها الصمت ..ليست بعيونها حتى مجرد أسئلة …أكاد أصفها بالباردة …لولآ عطفها على هذه الحيوانات ..

وكنت أرمي لها ابتسامة ,,أشعر بعدها بخيبة أمل ..و أنا أرى ردة فعلها السكون ..

إلى أن رميت بعض الطعام للحيوانات قربها ….

وجاءت الحيوانات لي و أنا خائفة جدآ ..فيما لاحظت هي تراجعي ..ولاحظت أنفعال أحد الكلاب معي…فعادتْ تكلمها ..وتبعدها عني …

قلت لها : كيف لاتخافين منها ؟؟ هل أنت معتادة عليها ؟؟

: أومأت برأسها ..وبدأت تتودد للكلب القريب حتى يعود لها ..

: ما اسمه ؟

: سكتتْ …ثم قالت تعال يا لطفي ؟؟

: ضحكتُ من الاسم …هههه ..لطفي اسم الكلب ؟؟

: اسم زوجي

: وتسمرتُ في مكاني ..فيما جاء كلب آخر ..وهي تناديه باسم لطفي ..فقلت لها : كلهم لطفي ؟؟

أومأتْ مرة أخرى برأسها إيجابآ

: أقتربتُ من إحدى القطط وتوددت لها : تعالي يا لطفية !

ونظرتُ لردة فعلها ..وهي تراني جالسة على الآرض

فقالت : ليستْ لطفية ..إنه أنور ..وذاك باسم ..

: ومن أنور وباسم ؟

: لم تجبني

بقيت صامتة …واقتربت من القطين …وبدأت ترفعهما إليها

وتبتعد عني ..وفهمت أن باسم .و أنور هما أبناها .. فيما زوجها كلب ..

ونظرتُ إليها ..أية مسكينة هي …لاعالم بشر في حياتها ..لاتفاعل ..لاكلمات حب ..

لا أهل ..في مهب الريح …حيوانات .

كيف تنام ؟؟ كيف تخبر عن نفسها ؟؟ كيف تمرض ؟؟ من يزورها ؟؟

وتخيلتها تفعلها وهي تفتح بابها للقطط ….

وقررتُ أن أصحب غدآ قطة جارتنا بوسي

وفعلآ في اليوم التالي ..كانت بوسي في يدى …تالله لوكانت بوسي هذه قطة كبيرة ..لكنت هربتُ منها …وحمدتُ الله أنها قطة صغيرة ..وديعة

ويبدو أن صديقتنا سبقتني ..فيما حييتها ..بقرب من مروري بها ..فأشارتُ فقط برأسها ..و أنصرفت لما أمامها من طعام للحيوانات ..

: بوسى …بسي ..أذهبي لها

ورميتُ لها بقطعة جبن عمدتُ أن تقع أمام مكانها ..

فانتبهت لها …ورفعتْ رأسها نحوي ..ولم تأبه لي ..وهى تقرب قطعة الجبن من بوسي التى شرعت تتناولها …

: سألتها هل لك خبرة في التعامل مع الحيوانات ؟

:؟؟

:؟؟؟؟

لم تجبني …بقيت صامتة ثم قالتْ لي سنوات عمري

أحلاها مه الحيوانات ..

وتركتني ..

وبقيت بين يوم و آخر أحاول أن آتي لآراها ..ولم أنجح في تبادل أكثر من بضعة كلمات معها

حتي بدأتُ أنا أنجرف وراء تعاملها للحيوانات ..و أكتشف سرًّ أستلطافها لها ..

وركونها إليها ..

و أحسستُ أنه عالمها ..فلماذا أسلبها سعادتها ؟؟

هاهنا لآ أحد يبحثُ عنها ..

لآ أهل ..و لا أبناء .ولا زوج ..ولا أي كان ..فلماذا أريدها أن تعود للحديث معهم

و اكتشفتُ أنني أسلبها هدوئها وسعادتها ..وحياتها ..هي ترى أن أجمل سنوات عمرها فضتها مع الحيوانات

وطالما هى سعيدة ..بالبعد عن البشر ..لماذا نحن يؤلمنا ذلك ؟؟

وهل نحن يؤلمنا حالها ؟؟

أم يؤلمنا تعاملها مع الحيوانات دون البشر ؟

و أمضيتُ يومآ من أسوأ أيام عمري ..و أنا أقرأ فلسفتها ..ورؤيتها ..

فربما صديقتي وغيرها ..شعروا بالدونية من الحيوانات طالما هي تعاملهم أفضل من البشر ..و إذا كان الآمر كذلك ، فهو ردة فعل ناتجة عن الاصابة بفوبيا من الغضب الداخلي والندم ..ومجموعة من الانفعالات التي أنساقت لها برغم عنها ..

وبكيت طويلآ عن عالم البشر …

وعن قسوتهم …

وفي اليوم التالي ..مررت قربها ..وحييتها ..فأومأتْ لي برأسها ..و جلست بعيدة عنها و أنا أرقبها تعيش سعادتها كما تراها هى …فلماذا يجب أن نضعها في منظار سعادة نراها نحن لها !!!

أليس يومآ قاسيآ!!!!

مقالات ذات علاقة

من وحي حياة وشخصية وروحانيات الراحل الكاتب الصحفي بشير كاجيجي

أحمد إبراهيم الفقيه

غالبة .. حكاية عشق

المشرف العام

جعفر من باكستان

اترك تعليق