قراءة في كتاب: (التليسي مؤرخا) للأستاذ عمار جحيدر
(التليسي مؤرخا): كتاب صدر في طبعته الأولى, 2018 عن دار الفرجاني, للأستاذ عمار جحيدر يظهر فيه بجلاء شغل الكاتب المتأني و صبر الباحث المتفاني, و شغف الجدول بالنبع. في الإهداء الذي يتصدر الكتاب “إلى روح أستاذي الأديب المؤرخ اللغوي الجليل الدكتور خليفة محمد التليسي … تحية من تلميذ وفي لذكراه و برا صدوقا بأبوته العلمية النبيلة”.
لقد استطاع عمار حجيدر بشعريته الجميلة و مفردته الرصينة الملائمة جملة و تفصيلا لشرط البحث الأكاديمي, الجاد والملتزم بمعايير الكتابة الموضوعية أن يجمع أطراف الجمال الممتد في صيغ عديدة وإسهامات فريدة في متن واحد يختصر أيقونة الإبداع السامقة الغزيرة في إنتاجها المتعددة في مواهبها في إسهام الكتابة التاريخية أو التأريخ.. وما التاريخ إلا كل هذه المعارف و الفنون يمضي بها الزمن فتستردها الذاكرة في لعبة السرد.
ولكن هل يكفي أن نقول الدكتور خليفة التليسي؟ وهو الكثير في و احد و وهذا الكثير يصعب سبره و جمعه في تقديم يسبق اسمه الفذ فما بالك في كتاب واحد, حتى و إن اقتصر هذا الكتاب على جانب من جوانب عديدة أفنى الدكتور خليفة التليسي عمره في إحاطتها بما أوتي من قوة الكلمة وجاذبية اللون ونقاوة الأصل. وهو المتعمق في بحر المعرفة منقبا لا يكل و لا يمل عسى كنوزه تمتد إلى ضفاف عديدة وهو الذي لا ينكر احد شمولية عطائه.
و كان لهذه المهمة السامية .. لهذا الكتاب المتميز مبدع متميز و شاعر جميل.. عمار جحيدر.. كاتب كبير و باحث مجتهد متعدد المواهب و غزير الإنتاج تلميذ متفوق سار و يسير على خطى معلمه متفانيا متواضعا, لا يعنيه من العمل الظهور الإعلامي و سلم الشهرة, بل الامتثال لشرط العمل و دافعه وهما الصدق و الإفادة, كأني بالتلميذ في داخله لا يريد أن يكبر أو يتكبر ويظل ذلك النجيب المحب لكتبه و فروضه المدرسية, مدركا أن البقاء للجوهر و زائل ما عداه. “و إنني لأرجو أن يتحقق في هذه المقاربة الأولية بعض النفع و الفائدة في رؤيتها المنهجية و نزعتها الإحصائية التحليلية”
وقد نجح الأستاذ عمار جحيدر في هذه المهمة نجاحا رائعا يستطيع القارئ بعينيه المحبتين للجمال الباحثتين عن النفيس أن يلمسه لمس اليد. فالباحث الذي سينبري لمهمة الكتابة عن “قامة ثقافية سامقة” عليه أن يتحلى بالكثير من التركيز و الصبر. و هنا يقول “ولا أخفي على القارئ الكريم أنني منذ عرفت أستاذي الجليل- رحمه الله تعالى – قبل أكثر من ثلاثين عاما (منذ سنة 1978 ) ، ودنوت من بعض أثاره ، كان ذاك الأثر الذي يعد (العمل الأكبر)-دون مراء-في تجربة روسي مؤلفا /وتجربة التليسي مترجما (ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911) اقرب أثاره إلي نفسي لما أجد فيه من دقة التأليف وغزارة التوثيق من جهة ورصانة الأسلوب المعرب حقا من جهة أخرى وذلك فضلا على قرب محتواه من اهتماماتي البحثية المتواضعة أيضا.”
في المقدمة يكشف الباحث المؤلف عمار جحيدر في رحلة زمنية تمتد بين 2012 و2017 عن ظروف ولادة هذا المتن من مساهمة قصيرة في أمسية ثقافية تتلمس مكانة التليسي في الذاكرة إلى كتاب جديد يتسم بحداثة البحث فهو لا يكتفي بالقص و السرد على عادة الكتب التاريخية أو البحثية بل يلجأ أيضا إلى الرسوم البيانية و الجداول التحليلية و التصنيف المبتكر لأعمال مؤرخ ليبي معاصر تتنوع أعماله و طرائقه بين البحث و الكتابة و الترجمة و التحقيق.
يضم الكتاب خمسة فصول لن تشعر معها بالملل أو التيه بل ستأخذك في خطوط مستقيمة إلى غاية الإدراك و متعة المعرفة.. و إن كنت ممن عملوا في مصلحة الآثار أو مشروع المدينة القديمة أو مركز جهاد الليبيين أو الدار العربية للكتاب أو من المساهمين المثابرين في الإصدارات الأدبية الليبية على مدى العقود الماضية فلا شك ستجد من الأحداث الظريفة واللحظات البهيجة ما يتقاطع مع ذكرياتك وحكاياتك كما حدث معي في صفحات عديدة.
يميل عمار جحيدر, الباحث و الأديب, إلى التفصيل و الإسهاب من منطلق الرغبة في الإيضاح و تقديره لقيمة المعلومة مهما صغر حجمها أو شانها للباحثين اليوم و غدا, و هو قص جميل يليق بفيوض التليسي في شتى صنوف المعرفة التي يلمها التأريخ أفضل إلمام.
يلي المدخل الموجز عن الكتاب و فصوله مكانة التليسي بين نماذج بارزة من أجيال المؤرخين الليبيين في القرن العشرين. و في الفصل الثاني: التليسي مثقفا حيث “الأعمال الكاملة في لوحة شاملة” و يعرج الباحث على مدونة التليسي التاريخية في الفصل الثالث, و في الفصل الرابع يعرض موجزا لكل كتاب على حدة وفق التسلسل الزمني “لمصطلح التحقيب” عن تاريخ ليبيا في العصرين الوسيط و الحديث إلى التاريخ المعاصر و هو أطول الفصول الخمس التي يشملها الكتاب. و الفصل الأخير يلقي الضوء على عمل المؤرخ في النقد الأدبي, و يأتي في المقدمة كتاب التليسي المبكر (رفيق شاعر الوطن) و هو الكتاب الذي بشر بمولد التليسي المؤرخ.
يدعم نص الكتاب صور أنيقة ونادرة من كتب و جرائد مبعثرة ونماذج من كتابات أولية كانت مخفية, لمها الأستاذ عمار جحيدر في متن واحد بفضل كده و مثابرته, بين ثنايا قصص زاخرة بجمال العبارة و رمزية الإشارة. يقول عمار” لقد أردت بهذا الملف المصور أن أتيح للقارئ الكريم جولة بصرية مع نماذج من اثأر التليسي و أصدائها في الصحافة الثقافية و هذا الملف أشبه بذلك المعرض المعتاد المصاحب لمحاضرة محدودة أو ندوة موسعة عن احد الأعلام التي تقام غالبا بعد الرحيل.”
لا يبقى لي سوى ملاحظة صغيرة أتبين فيها سبب نشر تلك الخاتمة المزيدة تحت عنوان (جفوة خلافية عارضة) حول قصة طواها الزمن و لم تترك أثرا سلبيا على أي طرفي الخلاف. والحق أن إي كاتب, وخصوصا في مقتبل عمره, وهو ما فعلته ذات مرة في ذات بحت, يشعر بالنشوة عندما يجد ما ينتقد أو يستدرك به على قامة كبيرة من باب “حتى التليسي يخطئ” و”هوميروس” كذلك. في الكتاب أيضا نص لقامة كبيرة هو المرحوم علي الصادق حسنين يجد فيها ما يستدرك على التليسي. هل أوجعه التليسي ذلك؟ في المرة التي تتعلق بي, نعم, والعهدة على الراوي. ولكنه زعل آني لا يترك أثرا على علامة كبير مثل الأديب المؤرخ اللغوي الجليل الدكتور خليفة محمد التليسي.
عدا ذلك فالكتاب هو جهد خلاق لباحث يتتبع رحلة قلم اتسمت أعماله بتواشج نسيجها حتى يصعب إدراكه إلا على قلة من الصابرين, و أمثلهم طريقة الباحث المجتهد الأستاذ جحيدر