ليبيا المستقبل
سالم قنيبر
تلك كانت ليبيا (الغابر من سبتمبر) في ذكرى مرور قرابة الأربع سنوات على السقوط النهائي وهلاك صاحب القفل. والحديث كما يقال -ذو شجون- والحديث عن راشد السنوسي وقفله مثير لكوامن الشجون.
1)
صاحب قصيدة (القفـــل)، هو حفيد السيد أحمد الشريف، أبرز شخصيات التاريخ المعاصر للبلاد، مع السيد محمد إدريس، وقبلهما كان المؤسس الإمام السيد محمد بن علي السنوسي الكبير. ثلاثة معالم كبيرة يتحرك معها وبها الحدث، ويدور حولها العاملون في محطات التاريخ.
وصاحب هذه القصيدة هو شاعر، وفق معايير الموهبة والتأهيل والاحتراف، ارتبط اسمه بالجيل من الكتاب، والأدباء، والشعراء الذين أنتجتهم البلاد.. في انبثاقة زمن كان واعدا يرتجى لبناء حضارة، تعددت لقيامها الأسباب، تتخطى القيود وتتفوق بمقوماتها على من حولها… غير أنه لم يكتب لها الاستمرار.
عرفت مبكرا راشد الزبير، وكان لي معه رفقة المواطنة والجيل والدراسة، ومجال العمل ومحيط الاهتمام. وعلى المدى الزمني الطويل لمسار الحياة التي جمعتنا، لم تستبن لي معرفة عنه بما يمكن أن يعبر عنه بالاهتمام بشئون السياسة، كان -كما كنت أعرفه- شاعرا وكانت السياسة من بعض الأغراض التي يتناولها شعراء الجيل، لكنه لم يكن يظهر ما ينم عن اكتراث يفضي إلى التعامل مع مقتضيات السياسة.
وعندما علمت بإلقاء القبض على راشد ضمن الأفواج الأولى من دفعات المعتقلين السياسيين، عقب قيام الانقلاب بزمن قصير… شككت فيما نسب إليه من تدبير. وعندما خرج من السجن الذي مكث فيه عددا من السنين، كان سؤالي له هل كان هناك حقا فيما أودى بك إلى المعتقل من تدبير؟.
ولم تكن أحداث المعتقل أو (السجن) تلك التي أخبرنا عنها في قصيدته القفل، أول عهد له بمواجهة الاضطهاد السياسي والتعرض لما نتج عنه من المعاناة، والتضييق، والنفي أو التغريب, كان صبيا عندما ألم بالعائلة السنوسية -ما ألم… وفاجأها القدر في غفلة.. -بتدبير مسبق أو بدونه- ووقع حدث الاغتيال. وما ترتب عليه وألحقه بالعائلة السنوسية معظمهم، وشمل جميع أفراد بيت السيد أحمد الشريف وتسبب لهم من جرائه البالغ من الأضرار.. عصف بأرزاقهم ومقدراتهم، وأودى بكبارهم إلى الإقامة الجبرية وتعرض صغارهم للتغريب والإبعاد. ولم يكن لهم فيما وقع شأن -كما يقال- من قريب أو بعيد. وكان راشد لا يزال صغيرا وقت وقوعها وأصابه من جرائها ما أصاب.
بنغازي في بداية الستين من القرن العشرين، وكانت كلية الآداب أول مرافق التأهيل العلمي العالي الذي تم تأسيسه في البلاد قد باشرت تخريج أولى دفعاتها، وكان راشد الزبير ضمن خريجي الدفعة الرابعة… (تم افتتاح كلية الآداب في بنغازي 1955) وفي 7/3/1964، أصدر محمد البشير الهوني صحيفة الحقيقة الأسبوعية التي تحولت فيما بعد إلى صحيفة يومية (7 /3/1966).. تولى رشاد الهوني رئاسة تحريرها، وقد تمكنت هذه الصحيفة في وقت قصير من تقديم جيل مميز من الكتاب والأدباء والشعراء، أصبح لهم في تاريخ الحياة الثقافية للبلاد المكانة البارزة. وكان راشد الزبير أحد الشعراء الذين قدمتهم الحقيقة.
اتخذت الحياة السياسية العامة في البلاد – آنذاك – مظهرين متناقضين، المظهر الرسمي الذي تمثله الدولة (الحكومة).. والذي لم يكن يسمح بقيام أي تنظيم سياسي محلي ويمنع أو يجرم وجوده. وكانت الدولة الليبية آنذاك تصنف ضمن دول الملكيات العربية في المنطقـــــة (السعودية، والأردن، والمغرب) وهذه بحسب العرف السياسي القائم في ذلك الحين يمينية التوجه، تسير في ركاب الدول الغربية، وكان لبقايا الوجود الاستعماري البريطاني الآفل حضور في البلاد.
المظهر السياسي الآخر شعوري عارم، غمر معظم الليبيين وشدهم إلى شعاراته القومية العربية التي تدعو إلى قيام دولة الوحدة العربية المرتبطة بتحقيق الحرية والاشتراكية، وقد تصدرت مصر الناصرية التي رفعت شعار القومية العربية بعد حرب السويس 1956، أو ما أطلق عليه مصريا اسم الاعتداء الثلاثي (بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل) والتعاطف الكبير الذي ظهر لدى الشعوب العربية جميعها تجاه مصر واستنكارها للاعتداء الذي تعرضت له.
تصدرت مصر الدعوة لتحقيق توجهات الفكر السياسي القومي العربي، ودعت إلى قيام الوحدة العربية مع مصر تحت زعامة جمال عبد الناصر، وقد تمكنت من الوصول بدعوتها إلى الجماهير العربية في المنطقة جميعها عبر وسائل إعلامها المقروءة والمسموعة.. القاهرة -إذاعة الشرق الأوسط- وصوت العرب خاصة, وكان لخطب عبد الناصر التي تبث وتصل مباشرة إلى مستمعيها وما تخبر به وتتحدث عنه من الإنجازات والتقدم التقني والانتصارات بالغ الأثر عند العامة من الناس.
وكان أن استقبل انقلاب القذافي في ليبيا (سبتمبر 1969) الذي رفع شعارات (الحرية والوحدة والاشتراكية) بالترحيب من قبل جموع الليبيين.. وازداد تأكد توجهاته القومية العربية العلاقات المتعجلة والمتسارعة التي تم عقدها مع مصر وقيام جمال عبد الناصر بزيارة بنغازي والاستقبال الشعبي الكبير الذي جرى احتفاء بمقدمه.
تلك مقدمة لقصيدة، تناولت معالم سريعة للحياة السياسية والثقافية المرتبطة أحداثها بالشاعر وبما ورد في القصيدة من حوادث ذاتية مؤلمة ألمت بصاحبها…. وليس هناك من رأي يخص ما وقع وليس هناك من تقييم للحدث، لكننا أمام تجربة فنية رائدة غير مسبوقة لم تصور شعرا من قبل ولم ترد بمثل تكامل وتتابع متعدد لوحات وصور أحداثها….. وللحديث بقية.