من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
قصة

شظية حرب

إلى أرامل الحرب

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

كانت السماء تغازل فرحها حين يأتي مطلا من بعيد، مارا على مدينتها المشاغبة فيما العيون ترصدها وهي تركض في وسط شارع المدينة القديمة، كي تلتقيه أمام عيون المارة والفضوليين فترتسم تلك الابتسامة بحبورها الأنيق فوق شفتيه، ثم يمد يده محتضنا يدها الصغيرة التي تنام كعصفورة مرتعشة بكفه الكبيرة ، ويمشيان تحت زخات المطر الخفيف الذي يلون سماء مدينتها بلون قزح الفرح لأنه يزورها ويمشى فوق ترابها وشوارعها.

لا تعرف ما الذي ربطها بوجهه، منذ أول رفة له على صفحة عمرها، أتراه ذلك الحزن المعتق الذي أرتسم فوق خارطة وجهه العريض، فيما عيونه وشفتيه تبرقان بالحكايات والصور البعيدة لأطياف مرت في سماءه ولم تهديه وتهبه سوى الوجع الحزين.
حين التقته كانت الكلمات تتهدل دون اكتفاء من شفتيه، وهى كطفلة عاشقة تتملى في وجهه وتغوص بتفاصيل تراتيله التي لم يتسع لها صدر الوطن، مستذكرة نزيف كلماته الثائرة الغاضبة على الوطن في سنوات المنفى ، كلماته المتبرئة من الوطن ردا على مقالة كتبتها عن ” معنى الوطن” ، كانت تدرك بأن أبن الوطن الغاضب من تشظى الوطن قد يشتط به الغضب ،فيقذف بوابل غضبه فوق رأس الوطن المعشوق لأنه يعشقه بتطرف ،فعشاق الأوطان هم عشاق محبون متطرفون أيضا لا يعرفون الوسط في الحب يدخلونه بكل عفويتهم وتلقائيتهم، كما يتلبسهم الحب كمس عشقي يصبحون وهم الأقوياء أمام أقسى الظروف ضعفاء يضرعون للرب بأن يخرج الحب ،من قلوبهم كما أخرج يونس من بطن الحوت ، فهل كان قدرها أن تصطدم بمسار أيامه وتسبح في بحر روحه وتمسها لعناته على الوطن الجاحد في أيام وحدته .

المساء المنساب بنسمة خريفية يحمل معه صوته، فتسترجع جلستها معه وتستذكر الحزن الشفاف الذي يشع من عيناه والسر الغامض الذي يختفي في عيونه ويستنكف البوح به
تحدق في صفحة حضوره الغابر فلاتجدها، وتستذكر نفسها حين كانت تتقافز بكل جنون عشقها على صفحة أيامه والعيون ترصدها بلؤم.
ذاكرتها المثقوبة تتمدد على أرجوحة الذكريات فيما هي تستحضر مشهد يده التي تناولت منها الصحيفة التي تعلوها صورتها، مؤشرا على هفوة في كلماتها هنا او هناك مبديا رأيه الصريح الذى لا مواربة فيه حول ما تطرحه في كتاباتها ثم ينظر إليها متأملا ويسألها بدهشة متيم: وأخيرا التقينا !
فتطرق برأسها وتتجمد الكلمات على حواف شفاهها فينظر إليها بهدوء تعشقه في شخصيته وينبهها الى فنجان قهوتها الذي كاد يبرد من انتظار رشفات شفتيها.

تتأمل في مشاغبات مناكفاته للأخرين، الذين يحاولون رسم خطوط أيامه على مقاسهم ويحاولون أقناعه دون جدوى، بان يتريث في اندفاعه ولكنه بعناده العتيد الذي خبرته جيدا يذرو كلماتهم للريح، ويدير ظهره لهم ويسرد لها بعض تفاصيل أيامه
افترقا على أمل لقاء قادم قريب، بعد ان يعود من جبهة القتال، فكتبت له كلمات اغنية “خوليو ايغليزيس “على حواف ورقة صغيرة:
كُنتُ أريدُ أن أُقبلكِ لتتوقف الطلقات في حلوق البنادق
وأن احتضنك فيتعرقل جنزير دبابة في وردة
وضع الورقة في جيبه وابتسم وقال لها بانها قد احتضنته في قلبها وهذا يكفيه، وإنه حتما سيعود للقاء لا ابتعاد ولافراق فيه، تملت في وجهه بصمت ومدت يدها المرتعشة مصافحة يده فضغط عليها ونظر بعمق في عينيها قائلا لها: انتظريني حتما سإعود
ولكنه لم يعود ولن يعود ابدا، وماعادت الضحكات تطرق بابها ولا الفرح يغازل أيامها منذ ان تحزم بسلاحه ومضى وكل الكلمات التي ارتسمت على مقاس وهج روحه، تناثرت أشلاء مضرجة بدماؤها كما تناثرت دماؤه من شظايا قذيفة قاتلة.

غفي وجهه تحت ظلال الرحيل المؤلم، تاركا كل أشجار محبتها التي نضجت ثمارها في قلبها تتساقط وتهوى محترقة، واعياها رحيله ونام الحزن في عيونها وارتدت الأغاني غلالة اليباب فوق سماء أيامها التي تلونت بلون الفقد.
عمرها صيف قائظ مخيف بدونه، فكيف للأماني أن تنام وتهجع وتنسى كل الحكايات وكل الصور وكيف لروحها أن تحيا من جديد بعد ارتدائها بياض كفن رحيله المخيف
عميق سواد الليالي وهي تستحضر وجهه المختلف وترانيم قصائد عشقها الغابرة ودندنات الأغاني التي تراقصت على وهج روحه فوق صفحة أيامها.
عميق سواد الليالي حين تستذكر صوته في سديم الكون حين قال لها: بانه لن يجرؤ يوما على ان يكون مصدر أذى لها ابدا
فكيف للأذى ألا يتشكل ويرتسم في لوحة أيامها بعد ان مضي الى حيث لا عودة ولارجوع
وكيف لها ان تحدق في مرايا الايام، وهي التي اضحت منذ رحيله تبحث عن وجهها في المرايا فلاتعرفه، وكيف للوجع ان لا يرسم خطوطه في كف أيامها وهو ما عاد يحلق في سماءها.

فكيف لها ان تسند الأحلام على عكازة الأيام المتهدلة من جديد والسماء أضحت دموع منهمرة ومرتسمة بريشة الفقد.
كيف لقلبها أن يعرف الفرح من جديد والأحلام احترقت في أتون شظايا القذيفة التي اختطفته بعيدا تاركا عمرها كصيف تصهد فيه رياح “قبلي ” الفقد المهيب، والوطن الذي أرتسم في عيونها على مدار سنوات عمرها يتشظى وتذروه عواصف جحيم الحرب
الوطن يلتهب على أصوات فوهات نيران المدافع والنار والبارود وهي التي نذرت ايامها وروحها وفكرها لحلم الوطن المشتهى غدا عمرها لوحة سواد معتمة… بدونه

مقالات ذات علاقة

الدرويش

محمد محمد الأبي

“الست” في مبنى “البركة”

عزة المقهور

قرية كل صباح

جمعة بوكليب

اترك تعليق