فرن للخبز
قصة

كوشي يا كوشة

فرن للخبز
فرن للخبز

جلس علي كرسي امام مخبزه ، في الدور الأرضي من العمارة المكونة من أربعة طوابق في إنتظار قدوم عاملين جديدين للعمل في المخبز بعد مضي ما يقرب العامين من إقفاله . . مر من أمام ناظريه شريط ذكريات طويل ورحلة عمل شاقة مضنية بدأت بيديه العاريتين عندما كان يافعا يشق طريقه في هذه الحياة بصبر وجلد يعمل بجد وكد صبحا ومساء في عديد من المخابز
حتي أكرمه الله تعالي بإفتتاح مشروعه الخاص الذي بدا صغيرا ونما شيئا فشيئا ليصبح ما هو عليه الآن يحمل فوق بابه لافتة
(( المخبز الحديث . . لصاحبه / الباهي بوفردة))
فجأة إنقطع حبل ذكرياته عندما حياه أحد العاملين :
السلام عليكم . . أهلا وسهلا . . حضرتك الحاج / الباهي بو فردة . . أنا محمدين وهذا أخوي عوضين . . بعثنا ليك الحاج بوزيد
وقال في عندك شغل بالكوشة .
جفل الحاج الباهي لبرهة ، أمعن النظر جيدا في العاملين الماثلين امامه ، ربما ليكشف ويسبر اغوارهما يستبين ماهية كونهما من أهل هذه الصنعة أم من الدخلاء .
الباهي : إي نعم ، أني الباهي بو فردة . . أنتم إشتغلتوا من قبل في كوش وإلا هذه اول مرة .
هزمحمدين راسه موافقا ليأكد ما يقول : إيوه . . إمال . . إحنا لينا أكثر من خمس طاشر عام وإحنا بنشتغل في الخبزة . . إسأل الحج بوزيد هو يقولك . بس لما كثير من المخابز قفلت ، معادش لقينا شغل ، قلنا ندور علي شغلانة ثانية ناكل منها عيش ، إشتغلنا في الملعقة ، عاوزين نعيش ياعم ، عندينا كوم لحم بنوكلهم . . هناك في مصر.
نظر الحاج الباهي إليهما مرة أخري وعلي وجهه إمارات الإسغراب والدهشة مرددا بينه وبين نفسه : يا والله حالة خبازين وإسطوات تملعيق مرة وحدة . . يا غويتا علينا حني الليبيين ، نغرقوا في شبر مية وكان طلعنا من بلادنا إنموتوا زي الحوت لما يطلع من المية . . اما صحة ليهم .
لم يكن مخيرا في قراره . لابد له من ان يعاود فتح المخبز و يقبل بهما للعمل ، بعد أن حضرت إليه أمس اللجنة المكلفة بالبلدية وأنذرته بعدم منحه الحصة الشهرية من الدقيق في حال إستمر بغلق المخبز .
علي مدي سنوات ماضية كان يستلم حصة شهرية من الدقيق ، يبيعها لأحد المخابز العاملة او تجار السوق السوداء او مهربي السلع التموينية خارج البلد .
العائد المالي كان كبيرا و مجزيا أفضل من تحويل الدقيق إلي خبز ، وايضا إرتاح من مشاكل تشغيل المخبز من عمالة ومواد تشغيل وقطع غيار وإنقطاع للتيار الكهرباء ، علاوة علي أن العمل بالمخبز يبدا من ساعات الصباح الأولي .
الباهي : خلاص من بكرة تبدوا في الشغل بس نتفاهموا علي طريقة الشغل أولا . .
ح تاخذوا عشرين دينار دينار ع القنطار إنت وهو . . إحنا قبل كنا نخدموا اربعة قناطر . . لكن توا تخدموا قنطارين بس ، والقنطارين التانين يبقوا دقيق ما عندكمش بيهم علاقة .
أشار محمدين لأخيه عوضين بطرف عينه وقال بصوت خافت . . ده عاوز يبيعهم في السوق السوداء ويكسب من وراهم فلوس ياما . . راجل عره ومعفن . . منه لله
محمدين : خلاص تمام يا حج بس إحنا عاوزين حاجة .
الباهي : آه . . شن تبي .
محمدين : إحنا . . ح نسكن في الكوشة جوه يعني
الباهي : باهي توا ندبرلكم في غرفة صغيرة ونفرشها بالفرش وما يلزم .
محمدين : في حاجة تانية .
الباهي : آه . . شن فيه تاني .
محمدين : إحنا لا عندينا إقامة ولا شهادة صحية . . ومش ناويين نعملهم خالص
موافق وإلا . . لا
الباهي : يا والله حالة . . باهي ما فيش مشكلة . . النار تحرق الخبزة وما تعقب فيها شئ من الميكروبات و الفيروسات . . موافق
عوضين : في حاجة ثالتة – أشار إلي أخيه بخبث – قلو يا محمدين . . قلو
محمدين : آه صحيح نسيت . . أخر النهار نسلملك الإيراد متاع قنطارين . . إنت إحسبهم كام وح تاخدهم آخر النهار . . الباقي ملكش بيه دعوة خالص .
تمتم الحاج الباهي بينه وبين نفسه ( يا ولاد . . . . ح تسرقوا في الميزان والفرق بتاكلوه في بطونكم . لا حول ولا قوة إلا بالله . اللي يغلبكم يجي يحاسبني )
وافق الباهي مرغما علي مضض . ممنيا نفسه بإستمرار عمله ودخله الوفير من وراء صنع بعض الخبز للناس وبيع الدقيق للتجار.
غادر العاملين ودخل الباهي إلي منزله مناديا : صالحة ياصالحة وينك يمرا . .
ردت صالحة : نعم . . يحاج .
الباهي : باش تنظفوا الكوشة إنتي والأولاد.
صالحة : باهي والله وصار منها . . حصلت عمال
الباهي : إيه . . تفاهمت مع زوز عمال مصرية ح يجوا غدوة ويبدو في الشغل
صالحة : الحمد لله
الباهي : لكن باين عليهم ح يتعبوني ما همش ساهلين
صالحة : كيف صار
الباهي : ناويين علي نية مش باهية. . يبوا يسرقوا في الميزان ويلهطوا الفرق في جيوبهم
صالحة : الحال من بعضة يباهي ماهو حتي إنت تبيع الدقيق في السوق السوداء وتلهط في بطنك
نظر الباهي إلي زوجته بغضب وحنق قائلا : شن ها الكلام ياصالحة . . إنتي شن دخلك نبيعه وإلا نعجنه وإلا حتي نتش فيه النار.
صالحة : أني من مدة وأني ساكتة ما نبيش نتكلم ، نقول بالك ربي يهديه ويصلح حاله ، لكن باين عليها الدوة مطولة مازال .
الباهي : هذا حال البلاد يا صالحة شن بنديروا ، زمان كانوا يعطوا فينا دقيق بحري مستورد ، سوبر . . من هالطليان الكفار . . أبيض ناصع صنتة فايحة زي المسك ، تشمي الخبزة من كيلوا ميترو، وخبزته قنينة و رطيبة تقعد حتي أسبوع ما تفسدش ، القنطار بخمسة دينار وتوا دقيق معفن ما تعطيه علفة للبقر والمعيز ، مش بديري منه خبزة للبنادمية ، كل مرة جايبينة من بلاد شكل ، القنطار يبيعولنا فيه بمائة وعشرين دينار .
صالحة : هذا هوا . . مش قالوا بيرفعوا الدعم وبيعطوهولنا في يدينا نقدي
الباهي : يا والله حالة . . كلا إنتي مرابطة تنزاري بشمعة . . وينه ما رينا شي ، في حد عطوه حاجة . . وريني . . قوليلي . . 115 دينار دعم للقنطار مشت . . شوفي قداش مليون سمطوه
سكتت صالحة ولم تعقب علي كلام زوجها الباهي الذي كان واثقا من نفسه وفعله إلي حد كبير.
مر أسبوع علي عودة العمل بالمخبز وكل شئ يجري علي حاله . .
الحكومة الرشيدة تسرق دعم الدقيق من الميزانية ، تسرق من الحياة لتعطي إلي الموت ، بدلا من شراء الغذاء والدواء تشتري السلاح والرصاص ليقتل الليبيين بعضهم البعض ، يهدمون بيوتهم وبلادهم بأيديهم ، و صاحب المخبز يسرق دقيق الخبز من الحصة الشهرية لتمتلئ جيوبه بالآف الدنانير ، يشتري العقارات والأراضي ، يحج ويعتمر كل عام يتمسح علي أستار الكعبة الشريفة طالبا من الله رزقا ومالا وفيرا ، يطلب الدنيا ولا ينسي الاخرة ، جنة الفردوس الأعلي مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، و العامل الأجنبي الذي يصنع الخبز بيديه العاريتين ، يحضن العجينة من حين لأخر علي صدره المشعر العاري الذي يتصبب عرقا نتنا ، يعمل بدون أوراق رسمية ولا حتي شهادة صحية ، حاملا لكل الأمراض الفتاكة المعدية و المميتة من ملاريا وإلتهاب الكبد وإيدز وغيرها من الأمراض ، يسرق الخبز من أفواه الليبيين ليطعم أبنائه هناك خلف الحدود . . مخانب . . مخانب . . مخانب .
الكل في حالة سرقة يومية مستمرة في غياب الدين والأخلاق والضمير والخوف من الله والقانون والرقابة و الشرطة والأمن و الحرس البلدي . ولكن الله حاضردائما وأبدا . . لا يخفي عنه شئ في الأرض ولا في السماء ، والله لا يحب الفساد ولا المفسدين .
في الليلة الثامنة إستفاق الحاج الباهي علي صراخ زوجته صالحة وهي تهزه بعنف ، ورائحة الدخان والنار تعبق في الأرجاء .
نوض . . نوض ياباهي . . النار . . . النار يباهي
الكوشة . . الكوشة . . كلتها . . النار . . حريقة كبيرة ما عقبت شئ .

مقالات ذات علاقة

هـــاجـــس

هدى القرقني

حُلُـمٌ

خالد السحاتي

الداليا – الحلقة الثالثة

المشرف العام

اترك تعليق