رواية موت ايفان ايلتش
النقد

سأشتري كذبة

رواية موت ايفان ايلتش
رواية موت ايفان ايلتش

في رائعته (موت ايفان ايلتش) يكشف توليستوي عن سر ذلك التحول في حياة البطل من حالة استنكار ورفض لقرار موته الوشيك إلى حالة التقبل و الاستسلام الجميل لحكم الموت النافذ.

كان ايفان ايلتش طموحا يعرف بالضبط ماذا يريد و يذهب إليه مباشرة. وقد نال ما يريد: الوظيفة المرموقة, المكانة الاجتماعية الرفيعة, الزوجة الجميلة, الذرية الطيبة من الجنسين, وقبل كل شيء الرضا و الصحة. ثم جاءت لحظة من دبيب الم وجيز كان من الممكن أن تذهب وتترك ايفان غافلا لاهيا في قلب الزمن الضاج بالحياة, دون أن يرى ذلك الضوء الذي قلب كل شيء رأسا على عقب. ولكن اللحظة سارت إلى الأمام في سيل من لحظات طويلة عجز ايفان عن عدها. وجاء الأطباء واحد تلو الأخر وأطلق الطبيب حكمه “مرضك غير قابل للعلاج” و يا لسخرية القدر كم من متهم استمع في انكسار وألم إلى حكم بالموت يطلقه القاضي ايفان ايلتش في هدوء وحيادية مثلما يفعل امهر الأطباء الآن.

هكذا دخل عليه الموت الشاسع من نافذة ضيقة.. ومن هذا الضيق و في هذه الشساعة حدق ايفان في نهايته الوشيكة. و ظل يتخبط في أسئلة عديدة, و قد أتاح له هذا الاتساع الوقت ليرى و يفكر و يقرر, ومن خوفه ومحاولاته العديدة للهروب من قرار الموت, دون ذنب ارتكبه غير النجاح و السعادة و الطمأنينة, إلى لحظة ممتدة من الوحدة والفراغ في وجع مستمر وهنا يقول الراوي:”شعر ايفان بنفسه محاطا و متورطا في شباك الزيف حتى كان من الصعب جدا  أن يسل شيئا منها “. ثم تحرر من شباكها.

“وفي الصباح عندما رأى المحيطين به واحد تلو الأخر, أكدت له كل كلمة كل حركة يصدرونها (الحقيقة المريعة) التي انكشفت له في الليل. رأى نفسه فيهم, كل ذلك الذي عاش من اجله و رأى بوضوح أن كل ذلك ليس حقيقيا على الإطلاق بل خداعا كبيرا و فظيعا كان يخفي كل من الحياة و الموت. وفتش عن خوفه السابق المعتاد من الموت و لم يجده. أين هو؟ أي موت؟ لم يكن هناك خوف لأنه لم يكن هناك موت. حل الضوء مكانه”
ضوء الحقيقة التي جعلته يرى نهاية الموت ويتمدد ويتنهد و يستسلم و يموت.
لقد سقطت الغشاوة وظهرت الحقيقة. ولم يعد يرغب في شيء مثلما يرغب في رحيل (إلى هناك) حيث (لا شيء ) في انتظاره, لاشيء من الكذب والزيف.
وهكذا رحل ايفان بسلام إلى حياة الموت بعد أن عضه موت الحقيقة على نحو أكثر إيلاما من المرض الكذبة التي كان يعيش.

الكاتب تولستوي
الكاتب تولستوي


هل كشف الموت نفسه حقيقة (الرجل السعيد ) الهشة الزائفة. أم كان لزاما هذه الحيلة و (هي إذا كذبة أخرى) حتى يدخل ايفان بوابة الموت طائعا خانعا.
ثمة سببان لهذا المفتتح, من رواية خالدة يزيد عمرها عن المائة, يربطه بواقع نعيش تفاصيله الساعة.
الأول اقتباس من الشارع الليبي يكاد يردده الجميع والغالبية شباب في مقتبل العمر”عايش من قلة الموت”. و الأخر يتعلق بسؤال النخبة عن فن العصر هل الشعر أم الرواية؟
استسلم ايفان للموت لأنه عرف الحقيقة, و ينتظر شبابنا الموت لان الحقيقة الصادمة و الفجة هي القابلة هي التي تستقبل أحلامهم الوليدة و ترميها في شباك اليأس القاتل, حتى الأطفال لم تعد خراريف الجدة تنطلي عليهم فما بالك استبدالها بالعاب سباق الموت المبني على الوضوح و الشفافية.

هو عصر التداول للحقائق بين الوثائق و الأرقام, وما انتشار مراكز البحث القومي إلا دليل أخر. إحصائيات عن التلوث البيئي و الأوبئة و الحروب القادمة, غير قابلة للشك و النقض نطالعها بخوف مميت, وان لم يتقيد الخطاب الإعلامي و الأكاديمي و التاريخي وحتى كلام الشارع العام بهذه اللغة الموضوعية, البحثية, الرقمية يظل مجرد أراء شخصية وهوى مكانه سلة المهملات, و أما المكان الذي ينتظرنا فهو الموت برحابة صدر.
وفي نظري, أن السبب الوحيد لسيادة الرواية على الشعر هو مقدار انحيازها للتوثيق التاريخي أو الموضوعي في لعبة السرد يفوق بكثير الشعر الذي لازمه سرد ذاتي يتعاطى السحر و الغموض.

ويظل سؤالي معلقا: هل كشف الموت الحقيقة لايفان ايلتش أم كانت الحقيقة خداع بصري؟ وهل ما نعيشه عصر الحقيقة أم عصر المعامل الكبرى المصدرة لهذه الحقائق على هوى آلهة كبار نسميهم أحيانا العلماء وأحيانا أخرى الزعماء والساسة؟
مات الراوي العظيم قبل أن يجيبني على سؤالي. أم الشق الثاني من السؤال فلعل الفرصة لإجابة شافية لازالت سانحة.
عن نفسي..لا أريد أن أموت سأتداول الشعر والوهم بل و”سأشتري كذبة وبأي ثمن”.

مقالات ذات علاقة

القصة القصيرة جدا في “أنا وأبي” للقاص الليبي حسين بن قرين درمشاكي ومقومات الق. ق. ج.

المشرف العام

رجب الماجري في ميزان النقد*

المشرف العام

قراءة في رواية “رحيل آريس” للكاتبة الليبية د. فاطمة الحاجي

المشرف العام

اترك تعليق