محمد صابر عبيد (كاتب عراقي)
أسهمت وسائل التواصل الحديثة (السوشل ميديا) في تسهيل نشر النصوص الأدبيّة على أوسع نطاق ممكن وبأسهل السبل وأيسرها وأسرعها، وفي الوقت الذي كان الكثير من الأدباء فيه يعانون من النشر في المجلّات الأدبيّة والصفحات الثقافيّة في الصحف اليوميّة والأسبوعيّة لأسباب كثيرة ومتنوّعة، صار بوسع أيّ راغب بنشر نصّه على حسابه على الفايسبوك أو الأنستغرام أو أيّ وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعيّ أن يفعلَ ذلك كما يشاء، بلا رقيب، ولا حسيب، ولا مسؤول أدبيّ يقرّر صلاحيّة المادّة للنشر من عدمها، وهو ما يوفّر عاملَ الحريّة المطلقة في النشر، واتساع حجم الاستهلاك النشريّ بحسب عدد الأصدقاء على الصفحة الفايسبوكيّة، ولا شكّ في أنّ عاملَي الحريّة والاستهلاك يمثّلان صفحةً بالغةَ الأهميّة من صفحات التطوّر نحو الأفضل باتجاه إشاعة الحريّة والديمقراطيّة في أوسع شريحة بشريّة على مستوى العالم، لكنّ هذه الحريّةَ محاطةٌ بشبكة هائلة من الأخطار التي قد تقلّل من أهميّة هذه الحريّة وتحطّ من قيمتها الاعتباريّة التقليديّة الماكثة في الأذهان، بسبب طبيعة المادّة التي قد تنطوي عليها هذه المنشورات على صعيد القيمة الأدبيّة والفنيّة والجماليّة والأخلاقيّة في جوهرها وصلتها بالمتلقّي.
الاستهلاك والاستسهال سمتان جوهريّتان مركزيّتان في الأدب الفايسبوكيّ بوصفه بضاعةً لا تختلف عن بقيّة البضائع الأخرى التي يعرضها السوق دائماً، وهاتان السمتان -نظريّاً- هما أبعد ما يكون عن عالم الأدب بمرجعيّاته وخصائصه وتمثّلاته وعناصر تشكيله بالغة الدقّة والفنيّة والإبداع، لذا يحصل هنا أوّل تقاطع بين نموذج الحريّة الذي يتيحه هذا الفضاء الافتراضيّ المتاح على نحو شاسع وبلا حدود، وطريقة استثمار هذه الحريّة بما يجعل منها وسيلةً ناجعةً لتحقيق أفضل صورة من صورها لاحتضان المواهب الحقيقيّة وإطلاقها نحو الفضاء الأدبيّ، وهو ما ينتج أحياناً مفارقةً ذات طابع سلبيّ لا يمكن أن تؤدّي إلى نتائجَ مرضية على صعيد الأهداف والغايات والمقاصد العليا، في الوقت الذي تستغلّ العولمة فيه كلّ ما هو متاحٌ من إمكانات وتقانات وحيل لخدمة منهجها الانتهابيّ في إشاعة ثقافة الاستهلاك، وهي تعمل على صناعة أسواق كبرى لتصريف منتجاتها في سياق استغفال العقول الهشّة الضعيفة التي لا تجيد سوى الاستهلاك.
حركة الاستغفال التي يشتغل عليها فكر العولمة في طريقة استثمار مخرجات الميديا على اختلاف أنواعها ونماذجها، تنطلق من بؤرة استغلال غياب الوعي الفرديّ والجمعيّ وانحدار مستوى التعليم في مراحله كافّة عند جمهور المستهلكين، ما يدفعهم نحو تقديس هذه المخرجات وقد تحوّلتْ في فضائهم إلى ما يشبه ديناً يتعبّدونَ طائعينَ مستلَبينَ في محرابه، ما يجعل هيمنةَ العولمة طاغيةً على مقدّرات الشعوب بلا حَول ولا قوّة.
السرعة التداوليّة التي تغري بالانسياق وراء تحقّق الأهداف والغايات كما يتوهّم أولئكَ السائرونَ وراء سراب فضاء افتراضيّ لا يشبع من جوع ولا يغني من خوف، هي العامل الأكثر حسماً في الانصياع الذاتيّ والطاعة العمياء لجنود السوشل ميديا المنتشرين في كلّ حدب وصوب كالجراثيم المنتشرة على بقايا الصحون، وهم يقودونَ حراكاً لا يهدأ لأجل فرض أجندات تسويقيّة لأفكار وقيم وتمثّلات وصيغ ضاغطة على جمهور المستهلكين الخانعين، فالسرعة بطبيعتها تنطوي على إغراء بالغ يتناسب وهوس المستهلك بإشباع رغباته في أقصر مدّة ممكنة، لذا فهي آلةٌ تسحق ما يعترضها وتحوّله بزحفها الصاعق إلى هشيم تذروه الرياح.
النصوص حافلةٌ بكلّ أنواع الأغلاط الإملائيّة والنحويّة واللغويّة والأسلوبيّة والثقافيّة بحيث لا يوجد غلطٌ عرفته البشريّة إلّا وحطَّ كغاسق إذا وَقَب على هذه النصوص كي يهدّمَ فيها كلّ شيء، أخطاءٌ تميت لغةَ الكتابة لتحوّلها إلى لغة أدنى من سوقيّة لا أثرَ فيها لأيّ فكرة أو جمال أو رؤية يمكن تلقّيها، ومع ذلك ثمّة من يدلي بإعجابه المتكرّر وتعليقه الذي يشيد بهذا الفتح الأدبيّ الكتابيّ المبين، فضلاً عن ثقافة الصور الشخصيّة التي ترافق هذه النصوصَ وتعمل على مضاعفة سوئها وضعف خيالها وسخافته.
وحين يحصل الكاتب على آلاف الإعجابات ومئات التعليقات يظنّ أنّه صارَ مشهوراً ومهماً بما يدفعه لمزيد من هذه الترّهات، وبمرور الوقت يصبح نجماً فايسبوكيّاً له جمهورٌ وعشّاقٌ ومريدون ليكونَ هو القاعدة وغيره الاستثناء، ولا يهّمه ما يمكن أن يقولَ عنه أحدٌ من العارفينَ خارجَ هذا الفضاء بأنّ ما يكتبه ويفخر به أمامَ الجهلة من معجبيه لا يعدو أن يكونَ هراءً في هراء.
التشجيع المتطرّف من أصدقاء الصفحة على مستوى الإعجاب والتعليق ينطوي على خطورة كبيرة في سياق تشكيل حالة من الإيهام، تجعل هذا الكاتبَ المسخَ يعتقد أنّ ما يكتبه يحظى بجمهور غفير من المعجبين والمعلّقين الذين لا يتورّعون عن وصفه بالكاتب الكبير والعظيم والمدهش والخطير، ليكتفيَ بذلك التقويم ويعدّه ميزاناً لعظمته الكتابيّة التي لا تحتاج بعد ذلك إلى بركات النقّاد والأدباء والناشرين، فالمساحة أمامه حرّةٌ مطلقةٌ للكتابة والإبداع، وله جمهورٌ كبيرٌ يتلقّى ما يسطّره بلا حواجزَ ولا مصدّات ولا رقابات، فماذا تبقّى إذن كي يكونَ ذلك الكاتبَ الكبيرَ العظيمَ الذي لا يشقّ له غبارٌ، ساقطاً في مستنقع الوهم بلا طائل ومستمتعاً بهذا الرخاء الاحتفائيّ الوهميّ من لدن فصائل الذباب التي تحلّق حولّ مائدته النتنة.
الخراب اللغويّ والفنيّ والجماليّ وما يتبعه ويترافق معه من إفساد الذائقة وتنحية الاهتمام بالكتاب بوصفه بضاعةً قديمةً لم تعدْ تصلح للعصر هو السمة الطاغية على هذا النوع من الكتابة، إذ أنّ سوقَ الكتاب الآن يشكو من عجز مخيف بحيث تعاني مكتبات بيع الكتب من كساد مرّوع، فلا أحدَ يشتري أيّ كتاب مهما كان مهمّاً حتى بأبخس الأثمان بعد أن كان الكتاب فيما مضى السلعةَ الأكثر رواجاً لدى الكثير من المتعلّمين والدارسين والمثقفين وعشّاق القراءة، وكانت ثقافة القراءة والحوارات الثقافيّة في شتّى مجالات المعرفة بالغةَ التداول على أكثر من مستوى وأكثر من صعيد في أغلب الطبقات الاجتماعيّة.
ولعلّ من الأسباب المضافة لضرب سوق الكتاب ما يوفّره الإنترنت من كمّ هائل لا نظيرَ له من الكتب الإلكترونيّة المتاحة للتحميل بلا ثمن، ما جعلَ الكتابَ الورقيَّ المطبوعَ معزولاً تماماً عن دائرة الاهتمام -اقتناءً وقراءةً وتداولاً- إلّا في حدود ضيّقة جداً للباحثين وبقايا القرّاء الجادّين المدمنين على حيازة الكتاب الورقيّ والاحتفاء برائحة ورقه الزكيّة المنعشة لذائقة المعرفة وخيالها.
العولمة بطبيعة تشكيلها ونوعيّة مقاصدها وأهدافها الاستراتيجيّة تسهم في إشاعة ثقافة التجهيل والتسطيح وقتل الرغبة في تأسيس تقاليدَ للأشياء كما كانت تفعل الكلاسيكيّة المثقّفة الراقية، وبذلك تضرب شتّى أنواع الهويّات في الصميم من غير أن تلتفتَ إلى ما يؤدّيه ذلك من ضياع وتشتّت وافتقار في جوهر الحقيقة الإنسانيّة، وما ثقافة الاستهلاك سوى الآليّة التي تشتغل بدأب ومقصديّة على تمثيل هذه الرؤية وتسكينها في الفضاء المحدّد لنشاطها، بعدَ إذ تحوّلتْ إلى قانون مهيمن على أكثر العقول المسطّحة التي لا تبحث سوى عن الغذاء السريع الجاهز لإسكات جوع العقل والبطن معاً.
ثقافة الإلغاء والمحو ودحر كلّ ما هو جماليّ وثقافيّ وفكريّ ورؤيويّ تمثّل جوهرَ مفهوم الاستهلاك بأبشع صوره وأدنى أخلاقيّاته، إذ يبدو أنّ رأسمال العولمة يتركّز في عمليّة تحويل الآخر (الضحيّة) إلى “سلعة” كي تذعنَ له إذعاناً مطلقاً، وتنفتحَ أمامَ هذا الرأسمال العولميّ الوحشيّ أوسع المساحات للتحّكم بها واستغلالها واستعمار ممكناتها وتسخير طاقاتها، في السبيل نحو مضاعفة هيمنتها على مقدّرات الآخر (الجمعيّ) وتسليعه وتدوير أجزائه لتذويبه في رذاذ ماكنتها العملاقة بلا أدنى علامة أخلاقيّة ممكنة، وصارَ هذا الأمر مقبولاً جداً لا اعتراضَ عليه وكأنّه قانونٌ إلهيٌّ لا مجالَ لمساءلته أو مناقشته أو مجرّد التفكير في التمرّد عليه.
تعمل ماكنات العولمة بالغة الحداثة على تحويل الفكر والثقافة والفنّ والأدب إلى (وجبات كنتاكي) سريعة وجاهزة ومشبعة بالدهون الثلاثيّة القاتلة، تلتقَط من رصيف الشارع ويمكن تناولها (على الماشي) من دون رؤية أو تفكير أو تأمّل أو ذوق أو حتى مراجعة بسيطة للشكل أو المحتوى، فالأمر بحسب إعلام هذه الماكنات الضخمة محسومٌ بلا أيّ حاجة للنظر والمساءلة والاعتراض والنقد، فما تقدّمه هذه الماكنات التي هي عبارةٌ عن وحوش كاسرة عمياءَ سيكون محروساً ومحميّاً وبلا (تاريخ نفاد)، على النحو الذي يكون فيه قابلاً للتداول والتناول والاستهلاك دائماً من غير مضاعفات جانبيّة محتملة، بما يجعل المستهلكَ (الضحيّة) أعمى مسلوبَ الإرادة يتوفّر على قناعة مطلقة بأنّ ما يتداوله أو يتناوله صالحٌ للاستخدام أبدَ الدهر، ولا خوفَ من تأثيراته الجانبيّة فهو خيرٌ بالمطلق ولا بديلَ له البتَّةَ.
استبدال آليّات العمل الثقافيّ والفكريّ والأدبيّ وإحلال آليّات جديدة بدلاً عنها هو ديدن الفعاليّات العولميّة التي تنتشر في اتجاهات مختلفة وسياقات متجدّدة، لأجل إماتة الرغبة الإنسانيّة الطبيعيّة والمشروعة في التقدّم والتطوّر والابتكار واللحاق بركب الأمم المتحضرة، فالشعوب العربيّة أضحت اليومَ شعوباً استهلاكيّةً على نحو مفجع تغرّد خارجَ سرب الحضارة الحديثة، كأنّها تتحرّك خارجَ التاريخ بحيث يؤول مصيرها إلى غياب محتمل تتعرّض فيه لاحتلال من نوع آخرَ تخطّط له ماكنة العولمة الرهيبة، حتّى ليبدو وكأنَّ أمرَ مقاومتها شبه مستحيل لفرط ما بلغته من هيمنة على سوق العمل بمختلف قطاعاته وأصنافه.
دور المثقف الفرد والمثقف المجتمع والمدرسة والجامعة والمؤسسات الثقافيّة والفكريّة الطليعيّة في حركة التنوير المطلوبة يجب أن يتحدّى ما يعترضها بإلحاح، لأجل صدّ موجات الاستهلاك التي تجتهد في تسليع الإنسان وتقزيم إنسانيّته لصالح فرض رؤيتها العولميّة الجافّة، وعلى الرغم من صعوبة المَهمّة واستعصائها فإنّ محاولةَ دفع حركة التنوير إلى أقصى درجاتها أصبحَ من واجب هذه الفئات، في السبيل إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدَ أن بلغَ السيل الزبى كما يقول المَثَل العربيّ القديم، وإلّا فالإعصار العولميّ الضارب في انتشاره وهيمنته وطغيانه يعصف بثقافتنا وتاريخنا وراهننا ومستقبلنا على نحو فاجع، وقد نتحوّل في القريب العاجل -إنْ لم نكن قد تحوّلنا فعلاً- إلى قطيع من المستهلكين السلبيين أشبه بتنابلة السلطان.