فوّاز حداد
في منتصف القرن الماضي، شكّل اقتفاء الموضة في الأدب والفن، الدليل على أننا جزء من عالم كان – في ذلك الوقت – يتلخّص فيه الغرب بباريس كعبةِ الفن والفنّانين والأدباء، فهي التي تصنع الثقافة وتقلُّباتها في الشعر والرسم والرواية والموسيقى والغناء، إلى الإتيكيت بأنواعه من آداب الطعام والشراب، إلى آداب الحديث والنقاش. لا يهمّ المثقفّين من الموضة إلّا قدرتها على التأثير في الأدب، والسياسة طبعاً، حتى الثورات التي كانت انقلابات، وَضعت نصب عينيها الثورة الفرنسية والروسية والكومونة، مع أنها لم تكن تقليعات، كانت ضد الظلم وعدم المساواة.
حملت الموضات الأدبية القادمة من الغرب الكثير من الغرابة والطرافة والتمرُّد، فكانت السريالية والتكعيبية والتجريدية والمستقبلية… إذا أردنا التوقُّف عندها، فقد كانت تخصُّهم بالدرجة الأولى، ولا يعني هذا أنها مقتصرةٌ عليهم، لكنها كانت أشبه برفاهية نحن غير مؤهَّلين لها، مع العلم أنها لم تكن سرّاً يستحيل تفكيكه. فالحواجز بين البشر ولو ظننا أنها شاهقة، يمكن اعتلاؤها، ومدّ الجسور بيننا، إلّا إذا كانت الرغبة في التغيير التي تعتريهم، لا تعترينا. كانت لدينا أولوياتنا، وكنا نبحث عن وضعٍ أقرب إلى الثبات لا يجوز الركون إليه، بل العمل على استيعابه، أو القفز عنه، وربما الانطلاق منه.
يُنظَر إلى الثقافة الواردة على أنها موضة، كنوع من التحقير والازدراء، ما دام أن الموضة تُستعار، تنتقل من بلد إلى آخر، يُعمل بها، ولا تُنبذ إلّا لأنها لا تناسب الأذواق، وقد تُؤجَّل حسب المزاج. بينما الأدب والفن لا يخضعان مثلاً لتسارع موضات الأزياء. مع هذا لم تمر صرعات الفن مرور الكرام، تركت خلفها تجمُّعات للسرياليين والتكعيبيين، وما زال التجريد طاغياً، فالموضة لم تعد موضة، ولا عابرة، بل ترسّخت في السينما والمسرح والأدب.
ولقد كان في العولمة الكثير مما بدا موضةً وشمل العالم كالوجبات السريعة، والماركات العالمية، واستعمال الهواتف الجوّالة، ووسائل التواصل الاجتماعي، ما شكّل ثقافةً وافدةً استوطنت البلاد، وأسهمت في التقارب بيننا، مثلما أسهمت في تباعدنا.
بينما لم يحظ الاطلاع على ثقافة الغرب بالقبول، لا سيما في قضايا الجنس والمرأة والدين والعادات والتقاليد. فلا ثقافات أعلى ولا ثقافات أدنى… هذا كان دفاع البلدان النامية ضدّ ثقافات الآخرين، خاصة عندما تتّخذ الثقافة طابع الغزو على بلدان ناهضة حديثاً، تتلمّس طريقها نحو المستقبل، ما يصيبها بالنفور من ثقافة تحاول التسلُّط بدعوى أنها الأرقى، حتى لو كان لها مؤيّدون في الداخل، لا يصح فيهم وصف الطابور الخامس.
عندما نتخلّص من وهم الموضة، وعدم إلصاقها بكل ما يأتينا من الخارج، ونسمّي الثقافة باسمها، فالغالب أنها أخطر من الموضة التي تأتي وترحل. فالثقافة تحمل طابع التحدّي، وتكون الهزيمة عندما ننصاع إليها، أو نخشاها، ونقف منها موقف الممانع أو الحذر.
إن الرد الحقيقي عليها، ألّا ننساق إليها دون سبر أغوارها، والصراع الحر معها، لا ممنوعات ولا مخاوف، وذلك بالتفاعل الجدّي معها، ما يؤدّي إمّا إلى انتقادها ورفضها، أو تقبّلها والتشبُّع بها. يجب أن ندرك نحن البشر، مهما كانت المسافات والأزمنة التي تفصل بيننا، أنَّ كوكباً واحداً يجمعنا.