د.خالد الزغيبي
في مستوى أولي يمكن القول: أن أول من أصل للبنيوية بمعناها التوليدي ـ الانبثاقي ـ هو المفكر الفرنسي ( كلود ليفي شتراوس) ، وذلك مع ظهور كتابه : الأنثروبولوجيا البنيوية 1958 Anthroplogie Structurale حيث ” مهد الطريق لتقبل البنيوية بوصفها محاولة ممنهجة للكشف عن الأبنية العقلية الكلية العميقة ، كما تتجلى في أبنية القرابة والأبنية الاجتماعية الكبرى ، ناهيك عن الأدب والفلسفة والأنماط النفسية اللا واعية التي تحرك السلوك الإنساني ” (1) وفي الواقع يصعب تناول البنيوية ضمن إطار واحد الا وهو الإطار التوليدي ـ الذي جرى تعاطيه مع القضية التراثية في الخطاب العربي المعاصر ـ وذلك لتعدد توجهاتها حيث يرى البعض أن البنيوية على صعيد التعامل مع قضايا الرياضيات ” تتعارض مع تجزئة الفصول غير المتجانسة محاولين إيجاد الوحدة بواسطة تشاكلا ، والبعض الأخر يرى كما لأجيال متلاحقة من اللغويين أن البنيوية تجاوزت الأبحاث التطورية التي تتناول ظواهر منعزلة ، وأخذت بطرقة المجموعات للنظام اللغوي المتزامن . أما في علم النفس فقد زادت البنيوية من معاركها ضد الميول الذروية Atomistqc التي كانت تسعى لجعل المجموعات مقتصرة على روابط بين عناصر مسبقة “(2).
على انه ورغم هذا التعدد الوارد ضمن التوجه العام للمنهج البنيوي ، فإن محاولة التأليف تبدو ممكنة بشرط التفريق بين : الفكرة المثالية الإيجابية التى (تغطى) مفهوم البنية فى الصراعات المعرفية أو فى آفاق مختلف البيانات ، وبين (النوايا النقدية) التى رافقت نشوء وتطور كل فرع منها مقابل التيارات القائمة فى مختلف التعاليم .
حيث تتيح مراعاة هذه الشروط إمكانية العثور على مظهرين مشتركين لجمع البيانات ، من منطلق التسليم بأن ” البنية تكتفي بذاتها ولا تتطلب لإدراكها اللجوء إلى أي من العناصر الغريبة عن طبيعتها ومن جهة أخرى إنجازات تقدمها رغم تنوعها وذلك إلى حد ما يمكن معه فعلياً إدراك بعض البيانات ، وحيث يوضح استعمالها بعضاً من ميزاتها العامة التي تبدو ضرورية “(3).
وفق ذلك فإن البنيوية وفي تقدير أولي تبدو وكأنها ” مجموعة تحويلات تحتوي على قوانين ، كمجموعة تبقى أو تغتني بلعبة التحولات نفسها دون أن تتعدى حدودها أو تستعين بعناصر خارجية ، حيث يوضح استعمالها بعضاً من ميزاتها العامة التي تبدو ضرورية “(4).
وفي تقدير ثاني يلزم عن الطور اللاحق لتأطير البنيوية وتحديد معالمها ، فهي تسعى إلي” فسح المجال أمام التقعيد الاستنباطي ، على أن يفهم فقط إن هذا التقعيد الاستنباطي هو من صنع المُنَظِر ، فيما للبنية استقلالاً عنه وأنه يمكن أن يترجم بمعادلة منطقية أو أن يمر بواسطة نموذج إحيائي آلي ” (5).
ومن داخل الفكر الذي يتبنى البنيوية تبرز محاولة ميشيل فوكو للخروج من النسق البنيوي وذلك عبر أبحاثه التي تتلخص في أن ” المعارف والعلوم تشكل خطاباً متميزاً تتحكم في إنتاجه وانتظاماته قواعد خاصة ، تشكل نسقاً لا توجد فيه أية لحظة ذاتية ، ويمكن أن يُدرس ذلك الخطاب كموضوع مستقل أو كظاهرة مستقلة” (6).
ويبدو واضحاً مدى سيطرة هاجس البحث عن أنماط النظام والتقعيد في المستويات العميقة للمعرفة والثقافة لدى مؤسسي النسق البنيوي .
غير أنه وعلى الرغم من حداثة سبل الاستعانة بالمنهج البنيوي على مستوى الفكر العربي المعاصرـ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم ـ إلا أنه استطاع أن يترك أثراً واضحاً داخل الحقل التحليلي للخطاب العربي المعاصر . ويعرض لذلك بشيء من الإيجاز من خلال الدراسة التي أعدها كمال أبو ديب والتي يهدف من خلالها إلى إمكانية ” نقل الفكر العربي من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والشخصانية ، إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤية المعقدة ، المتقصية ، الموضوعية و الشمولية الجذرية في آن واحد ” (7). لذلك يطمح أبو ديب بأن تمكنه البنيوية عبر آليتها في التعامل مع الأنساق الفكرية المختلفة من معالجة البنيات التراثية وفق رؤية شمولية فعالة وجريئة في أن واحد . لاسيما وأن البنيوية كمنهج تمتلك مُعامل التثوير الجذري للفكر من خلال تحديد علاقته بالعلم وموقعه منه فهي على المستوى العام ” في اللغة : لا تغير اللغة ، وفي المجتمع : لا تغير البنيوية المجتمع ، وفي الشعر :لا تغير البنيوية الشعر ، ولكنها بصرامتها وإصرارها على اكتناه المتعمق ، والإدراك متعدد الأبعاد والغوص إلى المكونات الفعلية ، والعلاقات التي تنشأ بين هذه المكونات ، تغير الفكر المعاين للغة ، والمجتمع ، والشعر ، وتحوله إلى فكر متسائل ، قلق ، متوثب ، مكتنه ، متقد ، فكر جدلي شمولي “(8).
وتجدر الإشارة هنا إلى الخلط الكائن في الأوساط الفكرية المعاصرة حول طبيعة البنيوية ، وحول ما إذا كانت تعبر عن منهج عمل أم عن فلسفة أو تيار فكري . فقد أمكن لبعض المفكرين العرب من إدراجها ضمن قائمة الفلسفات المطروحة كالوجودية أو الوضعية أو البرغماتية مثلاً . وهذا من حيث الواقع قد لا يكون من الحقيقة في شيء لكون أن البنيوية بهذا المعني قد تكون شيئاً لا وجود له .
فهي وإن صح التقدير منهج عمل وليست فلسفه ، أنها تعبر عن أسلوب أو طريقة في التعامل لكونها لا تحمل أيديولوجيا أو توجه لتفسير الوجود أو المعرفة . بل أن دورها يكاد ينحصر في ” تقعيد الظواهر وتحليل مستوياتها المتعددة في محاولة للقبض على العلائق التي تتحكم بها ، ما يجعل منها علوماً كثيرة تهتم باستخراج المستويات التحليلية للظواهر الإنسانية وكشف شبكة العلائق والأنساق السائدة فيها” (9). وقد أخذت البنيوية زخمها الفكري في الفكر العربي المعاصر من خلال العديد من الدراسات والمقالات الأدبية والفلسفية لباحثين ومفكرين وكتاب عرفوا بانتمائهم الفكري للمدرسة الفرنسية التي أنتجت هذا المنهج النقدي التحليلي من أمثال : محمد عابد الجابري ، وجابر عصفور ، وشكري عياد ، وعبد الله الغذامي ، وكمال أبو ديب وغيرهم الكثير ممن شكل التوجه الحداثي الغربي حضوراً ملحوظاً في أنماط تفكيرهم وكتاباتهم ، رغم الاختلاف الكائن بين نمط الثقافتين الغربية والعربية. وهو ما يعزيه البعض إلى الهزيمة التي لحقت بالعقل العربي إثر هزيمة يونيو 1967 وما تبعها من إحباطات انعكست بدورها على الساحة الفكرية والثقافية العربية ، حيث أدت في جانب منها إلى ” ارتماء النخبة الحداثية في أحضان الحداثة الغربية ، مؤكدين الشعور الحاد بسقوط الحلم العربي وعجزها ـ النخبة ـ المطلق عن الحركة الفاعلة ، وهو عجز قد يرجعه البعض إلى غياب نظرية نقدية متكاملة أو مجزأة” (10).
ويكاد يتلخص المنطلق الفكري لأصحاب هذا الاتجاه فيما يتعلق بموقفهم من المناهج ، بأنه ” لم يعد ممكناً الإيمان بوجود منهج قائم علي مبادئ دائمة يلزم الخضوع لها فيما يتعلق بمسائل العلم” (11). وهو موقف يجد مرجعيته في الفكر الحداثي الفرنسي حيث التأكيد علي أن ” المقاييس المنهجية ليست في مأمن من كل نقد ، إذ يمكن إعادة فحصها وتحسينها واستبدالها بمقاييس أفضل منها ” (12).
وإذا ما أنسحب هذا على مستوي التعامل مع قضية التراث العربي فإن البنيوية وفق هذا المستوى من التحليل يمكن أن تكون أقرب إلى وصفها بـ ” قوى تحكم توجهاتنا في قراءة التراث وتغدو الإطار المرجعي الذي تنسب إله أحكامنا القيمية”(13).الصحيح أن محاولات عربية جادة في هذا الصوب أخذت تفسح المجال لنفسها بقوة ، ملتمسة شتى السبل والسائل لإثبات جدارة ونجاعة المنهج البنيوي من جملة المناهج المتاحة للعقل العربي .
يعد محمد عابد الجابري علي صعيد الدراسات التراثية العربية المعاصرة من أبرز المفكرين العرب توجهاً صوب توظيف المنهج والمفاهيم البنيوية ، ذلك على الرغم من ادعائه عدم التوفيق في تبني منهج معين من المناهج (الجاهزة المتاحة) . حيث يشير بأن طبيعة الموضوع ونوع الهدف والغاية هما اللذان يفرضان طبيعة الأخذ بمنهج معين أو بعدة مناهج أو حتى اختراع منهج جديد .
لذلك تراه يحاول دائماً أن يوحي بأن ” قراءته للتراث ليست عملاً بريئاً ، لأن القراءة لابد وأن تسهم في إنتاج المقروء وإلا أصبحت مجرد تكرار مهترئ للنص ، لأن اللغة ليست محايدة وهو ما تؤكده الأطروحة العامة لعلم السيمائيات والأنتولوجيا اللسانية القائلة : أن منظومة لغوية ما تؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم وفي كيفية مفصلتهم له وبالتالي في طريقة تفكيرهم”(14). وبذلك يكون هدف الخطاب العربي المعاصر من وجهة نظر الجابري ليس إنتاج أطروحات معينة من الخطاب الذي نتعامل معه ولا تفنيد أطروحاته ، بل ينبغي أن يرتكز على ” تفكيك نفسه والكشف عن تهافته وتقديم تناقضاته ونقائضه عارية بكل ضعفها وسذاجتها ، وبعبارة أوضح وأدق : إن ما يهمنا من هذا الخطاب الحديث والمعاصر ليس مضمونه الأيديولوجي ولا محتواه المعرفي ، بل كل ما يهمنا منه هو كل ما كونه يحمل علامات العقل الذي ينتجه ، وإذا فما يهمنا هو تشخيص هذه العلامات ، علامات )اللا عقل (في الخطاب الحديث والمعاصر” (15). هكذا يطمح الجابري وغيره من البنيويين العرب المهتمون بقضية إعادة قراءة التراث العربي ، إلى تحليل موضوعات التراث لا بوصفها مجرد مركبات بل بوصفها ) بُنى) غير أن تحليل البنية المؤسسة للنص التراثي تحتمل العديد من العمليات التحويلية كتحويل الثابت إلى متغير ، والمطلق إلى نسبي ، واللا تاريخي إلى تاريخي واللا زمني إلى زمني وغير ذلك من القضايا التي تحتمل هذه العملية . وذلك إنما يحدث بدافع من الهاجس المسيطر والذي يقضي بتجديد العقل العربي وكسر قيود التقليد حتى يمكن جعل التراث العربي ـ المقروء منه تحديداً ـ معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في ذات الوقت.
بيد أن نقطة أخيرة جاز التنويه بها قبل ختام هذا التوضيح المبسط للبنيوية بوصفها منهج بحث وتحري واستنطاق ، وهى الإشارة إلى المأزق الذي يكاد يأخذ بالمبادرة البنيوية العربية بمجملها ما لم يلتمس له سبيلاً للخروج ، ويتجسد هذا المأزق ـ على صعيد الدراسات التراثية تحديداً ـ في السعي الحثيث من قبل الباحثين العرب الآخذين بالمنهج البنيوي ، لإثبات نجاعة وجدوى مشروعهم المنهجي من خلال تطبيقه على النصوص التراثية ، بشكل يفوق ـ في الغالب ـ سعيهم لإثبات نجاعة النصوص التراثية ذاتها ، وهو ما يوحي بأن الغاية تكاد تتجه نحو تأصيل المنهج وليس التراث .
وغني عن البيان أن فرق كبير بين القول أن ” التراث النقدي يثبت صحة المشروع البنيوي أو أي مشروع حداثي آخر ، وبين القول أن النقد العربي قدم مدرسة نقدية قد لا تكون متكاملة أو مبلورة بما فيه الكفاية ، تؤكد شرعية التراث العربي وسبقه” (16). لأنه وإن كان القول الأول يمنح المشروع النقدي الحداثي ولاسيما البنيوي منه المشروعية اللازمة التي تعزز اقتفائه والتمسك به ، فإن القول الثاني إنما يمنح الشرعية للتراث نفسه بل ويؤكد مشروعية ومعقولية التمسك به وإحيائه وتطويره .
____________________________
(1) أديث كيرزويل : ” عصر البنيوية : من ليفي شتراوس إلى فوكو ” ، ترجمة : جابر عصفور ط:1، بغداد ، ص :12.
(2) جان بياجيه : ” البنيوية ” ، ترجمة : عارف منيمنه و بشير أوبري ،ط:4 ، ص:7.
(3) المرجع السابق ، ص : 8.
(4) نفسه
(5) نفسه
(6) عبد الرازق الدواي ” عن هوية الفكر النقدي عند فوكو ” ، مجلة دراسات عربية ، بيروت 1992 ، العدد : 11/12.
(7) كمال أبو ديب : “جدلية الخفاء والتجلي ، بيروت ،ص : 7 .
(8) المرجع السابق ، ص :8.
(9) عبد الله إبراهيم وآخرون “معرفة الآخر : مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة” ط :2،ص70 (10) عبد العزيز حمودة : ” المرايا المقعرة : نحو نظرية نقدية عربية ” ، ص:70
(11) الطاهر عزيز وآخرون ” المنهجية في العلوم الإنسانية ” ،ص 5 .
(12) محمد الوقيدي” حوار الفلسفة ” ، ص 10.
(13) جابر عصفور “مقدمات منهجية ، ط :1، ص:110.
(14) محمد عابد الجابري : ” الخطاب العربي المعاصر : دراسة تحليلية نقدية ” ، ط : 4 ص13
(15) المرجع السابق ، ص 14
(16) عبد العزيز حمودة : ” المرايا المقعرة : نحو نظرية عربية نقدية ” مرجع سابق ، ص176