جي دو موباسان
في الوقت الذي كان نيشة يعاني فيه من الجنون كان الكاتب الفرنسي المعروف “جي دو موباسان” ، الذي يعبره النقاد أحد رواد القصة القصيرة، يعاني من المرض نفسه.
(1)
ولد موباسان عام 1850 ولم يعش طفولة هادئة، كانت أمه، والتي قيل انها كانت عشيقة الروائي المعروف “فلوبير” مصابة بالجنون، وكان أخوه مصابًا بالتخلف العقلي ولا نعرف الكثير عن أبيه الذي مات والكاتب في صباه.
يقول البروفيسور “ماهيندرا’ في كتاب الجنون في حديثه عن موباسان واعتمادا على ما جاء في مذكرات الكاتب، وكذلك الملف الطبي، أن المذكرات توضح إصابة موباسان وهو في عامه الثالث والثلاثين بضعف في النظر، حيث أصبح يقرأ ويكتب بصعوبة بالغة وكان يطلب من أصدقائه مساعدته على ذلك، واعتقد أخصائيو العيون في ذلك الوقت أن ذلك هو بسبب إصابته بالزهري الذي كان حينها منتشرا. وينقل صاحب المذكرات “أن خادم موباسان قد شهد بأن الكاتب قد شرع في الهلوسة بين الحين والحين؛ حيث كان موباسان يرى شخصًا آخر يخرج من جسده ليجلس على الكرسي قبالته، وكان يراه أحيانا. والواضح أن القصص التي كتبها في تلك الفترة تتحدث عن وجود مثل هذه الهلوسة وخاصة قصته المشهورة Le Horla التي يتحدث فيها عن شخص آخر يقبع في جسده يفكر له، ويتحدث بدلا عنه، وقد أثارت هذه القصة انتباه النقاد مثلما أثارت شخصية المعتوه لدوستوفسكي.”
وحاول النقاد معرفة ذلك الشخص الذي يتحدث عنه الكاتب؛ اعتقد بعضهم أن الكاتب يتحدث عن عمه، وقال آخرون بل يتحدث عن أخيه، ولم يفكر أحد أن الكاتب كان يعاني من مرض “الزهايمر” حيث لم يكن المرض معروفًا في ذلك الوقت.
(2)
وعندما كان موباسان في عامه السابع والثلاثين توفي أخوه الذي كان يصغره بأربعة أعوام فتأثر الكاتب كثيرا، وشرع يحس بأوجاع في بطنه، وصداع متواصل فرض عليه البقاء في البيت. كان موباسان يبدو نحيفًا، نظراته شاردة في الفراغ، وشرعت ذاكرته تذهب عنه شيئا فشيئا وأخذ الأرق يحول ليله إلى جحيم؛ حيث كتب في رسالة يقول : “لقد قضيت ليلتي أتهض من السرير لأعود إليه دون جدوى في النوم، كنت مطاردًا بالكوابيس وبأصوات لا وجود لها”
ثم كتب في رسالة أخرى: ” إنني لم أعد استطيع الكلام، لم أعد أفهم ما أكتب”.
(3)
ذات مرة وبينما كان موباسان يمشي بالقرب من مقبرة، أخذ يجزم أنه قابل شبحه يمشي في الطريق، وفي عام 1891 – قبل موته بعامين – كتب موباسان رسالة مليئة بالأخطاء اللغوية إلى طبيبه الخاص التي نشرها ليرنر في مذكرات الكاتب:
“إني دون أمل أعيش لحظات احتضاري، بدأ دماغي يذوب بسبب غسله بالماء المالح، إن الملح يفسد الأدمغة، وفي كل ليلة، أحس أن أدمغتي (بالجمع) تنزل من أنفي وذلك يؤلمني كثيرًا، ذلك يعني أن الموت يقترب، وأنني أصبحت مجنونًا، لم يعد عقلي يميز الأشياء، وداعًا أيها الصديق”.
عندما قرأ الطبيبُ هذه الرسالة عرف أن شيئا خطيرًا نزل بمريضه، وقرر موباسان إطلاق النار على رأسه لقتل الذباب الذي يدور حول دماغه، ورآه خادمه ذات يوم يطلق النارَ على النافذة نحو عدو وهمي، ربما نحو الكائن الذي يشاركه جسده، والذي ربما ظن الكاتب أنه حاول الهروب منه بعد أن قرر الانتخار. بعدها قطع موباسان رقبته بالسكين وصاح يقول “انظروا ماذا فعلت إنني لمجنون إنني لمجنون”.
(4)
ونجى الكاتبُ من الموت لكنه بقى في عيادة المجانين بقية حياته؛ حيث تم احضاره مكبلا في رحلة بالقطار من مدينة كان إلى باريس حيث عيادة الدكتور المشهور “بلانش” والتي سبق أن استقبلت قبلها بأربعين عاما كاتبًا فرنسيًّا مشهورًا وهو “جيرار دو نيرفال”، ونجد في الملف الطبي في تلك العيادة أن تصرفات موباسان أصبحت حيوانية، شرع ينبح، ويلعق جدران غرفته، وكان يصرخ أحيانا مدعيًا أنه ابن الله، وأنه فاوض الشيطان الأكبر لاقتسام العالم. ودخل موباسان بعدها بأسابيع في غيبوبة ومات في صيف عام 1893 عن عمر يبلغ الثلاثة والأربعين عاما.