لا مراء أن القرون الخمسة التي تلت تدشين العمل بمطبعة غوتنبرغ، وإلى حين انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني (1962)، لا تضاهي من حيث الكمّ والكيف، ما حصل من إنجازات إعلامية في حاضرة الفاتيكان خلال الخمسين سنة الأخيرة، وهو ما بلغ أوجه مع ما نشهده من تطورات رَقمية باهرة. وفي الحقيقة، كان مردّ ذلك التحول إلى إنشاء المكتب الإعلامي للكرسي الرسولي المعروف باسم –Sala stampa-، خلال العام 1966، والذي من مهامه مدّ الصحفيين المعتمَدين بالمادة الإعلامية المتصلة بحاضرة الفاتيكان. وعلى إثر تكليف الصحفي الإسباني يُواكوين نافارو فاليس، سنة 1984، بمهمة تسيير الجهاز الإعلامي، تحوّل المكتب الرمادي إلى آلة نشيطة في خدمة الصورة الإعلامية للكرسي الرسولي. فقد تابع نافارو فاليس ذلك العمل على مدى ثلاثة عقود، كان خلالها على اتصال بالعالم على مدار الساعة، يتلقى نهارا مكالمات من أوروبا وإفريقيا، ومساء وليلا من أمريكا، وقبيل الفجر من اليابان وآسيا، تبعا لما رواه عن سير عمله. ما حوّله إلى شخصية محورية، تتولى إلى جانب شغلها توفير المشورة والوساطة الدبلوماسية والعمل السفاري للبابا.
خبراء في الشأن الفاتيكاني
وعلى هامش هذا التطور الإعلامي داخل كنيسة روما، تولّدت مهمّة إعلامية على حدة، ألا وهي تخصص “الفاتيكانيستا”. تورد “موسوعة تريكاني الإيطالية” في تعريف كلمة “Vaticanista” –بما يضاهي مفردة “فاتيكاني” في العربية- أنه الصحفي الخبير بالنشاط الديني والسياسي للكرسي الرسولي. ونظرا لتكاثر أعداد المهتمين بالشأن الفاتيكاني باتت تلك الفئة من الصحفيين محل دراسة وبحث. تذكر رسالة جامعية بعنوان: “من هم الفاتيكانيون وماذا يفعلون؟” نوقشت في جامعة “الصليب المقدس” في روما، أن عدد الصحفيين المتابعين للشأن الفاتيكاني، والمسجَّلين بشكل دائم لدى المكتب الصحفي قد بلغ خلال العام 1970 مئتين، واليوم يقارب سبعمائة صحفي. لكن أعداد الإعلاميين الذين يحصلون على تراخيص مؤقتة وإلى آجال محددة، بغرض تغطية أحداث معينة، فهي تفوق ذلك العدد. فمثلا خلال احتفالات اليوبيل، وبمناسبة حلول الألفية الثانية، بلغت الأعداد على مدار السنة تسعة آلاف عامل في مجال الإعلام؛ حازت فيها أوروبا نصيب الأسد بنسبة 70 بالمئة، تلتها أمريكا بنسبة 19 بالمئة، وآسيا 7 بالمئة، وإفريقيا 2،5 بالمئة، والأوقيانوس 1،5 بالمئة. في ظل هذا الاهتمام لم يكن لأي من الصحف أو المؤسسات الإعلامية العربية مراسل صحفي معتمد لدى الفاتيكان.
ومن جملة هؤلاء الصحفيين المعتمَدين بشكل دائم لدى الفاتيكان، يتابع ما يزيد عن الثلث منهم أنشطة الكنيسة الكاثوليكية؛ في حين يهتم الآخرون في جزء كبير من أوقاتهم بالفاتيكان، كما يغطون أخبار إيطاليا والمتوسّط. وعادة فئة الإعلاميين المشتغلين على الفاتيكان كامل الوقت هم إيطاليون. ذلك أن أغلب الصحف الكبرى، ووكالات الأنباء، والقنوات التلفزية، والإذاعات في إيطاليا لها متابعون للشأن الفاتيكاني، وفي بعض الحالات أكثر من متابع. كما أن بعض الصحف العالمية لها خبراء في الشأن الفاتيكاني، على غرار كارولين بيغوزي التي تعمل في مجلة “باري ماتش”، وفيليب بوليلا الذي يغطي لفائدة وكالة “رويترز”، وفيكتور سمبسون المتعاون مع وكالة “أسوشيتدبرس”.
الفاتيكانيستا والحياد
ثمة صناعة إعلامية صادرة من حاضرة الفاتيكان، من جملة مقاصدها ترويج الصورة الإيجابية عن البابا. فالبابا المستقيل، جوزيف راتسينغر، غلبت عليه صورة الفيلسوف الرصين، واللاهوتي البارع، والمتحدّث الكيّس، والاستراتيجي الثاقب وغيرها من النعوت أثناء فترة بابويته؛ ومع البابا الحالي فرانسيس، تروج صورة البسيط في معاشه، والوديع في تصرفه، والمناصر للمسيحي المهمَّش باعتباره “ثأر كنائس الجنوب”. صور الميديا هذه وغيرها من الصور، عادة ما تُصنَّع وتُروَّج مع البابا المتربع على سدّة بطرس وتُستبدَل برحيله. وفي خضم هذه اللعبة الإعلامية، تطلعت الكنيسة إلى احتواء الفاتيكانيين وتحويلهم إلى أبواق دعاية لها، على غرار عملية تجميع عدد منهم، سنة 2003، وإرسالهم في شتى أنحاء العالم بقصد الترويج لصورة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. لكن تلك المحاولات للاحتواء قابلتها رغبة من قِبل شق واسع من الفاتيكانيين للمحافظة على الحياد، بقصد ضمان مصداقية واستقلالية لهذا العمل، بعيدا عن أي توظيف فجّ. ولعله من ذلك الباب توجهت جملة من الانتقادات إلى الفاتيكانيين باعتبارهم نقلة أخبار، ومشتغلين على الريتوش، وأن قلة منهم من بحوزتهم رؤية عميقة وشاملة للشأن الديني، وقادرون على تأويل الأحداث وتفسيرها بطريقة صائبة. ولكن هذا الحكم يبدو غير منصف، فالفاتيكاني هو أيضا كاشف الحقائق وصانع الأحداث، على غرار قضية “فاتيليكس”، المتعلقة بالوثائق المسرّبة من مكتب البابا، أو بشأن فضائح الاعتداءات الجنسية من قبل رجال الدين على القاصرين، أو فضح ما يسري من فساد مالي داخل “مؤسسة إيور”، قطب الرحى الاقتصادي والمالي لحاضرة الفاتيكان.
الصحافة الكاثوليكية
بشكل عام تنقسم الصحافة الإيطالية إلى صنفين بارزين: صحافة كاثوليكية وصحافة علمانية. ومن أبرز العناوين الكاثوليكية نجد “أفينيري”، و”جورنالي ديل بوبولو”، و”ليكو دي برغامو”، و”أوسرفاتوري رومانو”، و”فاميليا كريستيانا”، و”لاشيفيلتا كاتوليكا”، و”بولتّينو ساليزيانو”. وعادة ما يميز الصحافة الكاثوليكية الطابع المحافظ والحس الديني المغالي. ولئن يندرج الفاتيكانيستا ضمن الإعلام الديني بشكل عام، فهو يمثل أيضا رابطا بين النوعين، الكاثوليكي والعلماني. وبصفة تخصص الفاتيكانيستا حديث المنشأ في الإعلام الإيطالي، فلا يزال النقاش دائرا بشأن هويته؛ ولكن لا يمكن الحديث عن فاتيكانيستا يفتقر إلى الإلمام بالشأن الديني ولاسيما منه المسيحي. وإن يكن جل المشتغلين في هذا المجال، في الوقت الحالي، يتحدرون من ثقافة كاثوليكية وإرث ديني مسيحي فإن قلة منهم تشتغل في الصحافة الكاثوليكية، إذ يعمل جلّهم في الصحافة العلمانية، على غرار لويجي أكاتولي في صحيفة “كورييري ديلا سيرا”، وماركو أنسالدو في صحيفة “لاريبوبليكا”، وجاكومو غاليازي في صحيفة “لاستامبا”، وفرانكا جانسولداتي في صحيفة “المساجيرو”، وباولو روداري في صحيفة “إيلفوليو”. كما أن الفاتيكانيستا ليس صحفيا فحسب، بل هو أحيانا أكاديمي متابع للشأن الديني، ولسير أشغال الكنيسة ولأنشطة الحبر المقدس. كما أن الفاتيكانيستا ليس مراسلا أجنبيا، بل هو إعلامي متخصص، وإن كان يمكن أن يكون مراسلا في الآن نفسه.
وبصفة الفاتيكانيين جلهم أوروبيون، فإن نظرتهم للمسيحية هي بشكل عام انعكاس للمركزية الغربية. فليست هناك رؤى صادرة من الجنوب في أوساطهم. لذلك تجدهم يشتركون في الرؤية الدينية الطافحة عن كنيسة روما بشأن الخلاف الصيني-الفاتيكاني؛ أو كذلك يتبنون الرؤية الدونية والمجافية للعالم الإسلامي بصفته يمثل فضاءً لانتهاك حقوق المسيحيين، أو الموقف الفاتر من القضية الفلسطينية والتغاضي عمّا تقترفه إسرائيل ضدّ المقدسات العربية، المسيحية منها والإسلامية. ولكن هذا لا يمنع تواجد ثلة من الفاتيكانيين تُصنّف في عداد النقّاد، يأتي على رأسهم كورّادو أوجياس، الصحفي المتميز في صحيفة “لاريبوبليكا”.
الفاتيكان وفلسطين
كان لتقصير الإعلام العربي، في متابعة الشأن الديني في الغرب، أثر على تعميق هوة سوء التفاهم بين الجانبين العربي والغربي بشأن جملة من القضايا. رغم أن المؤسسة الدينية في الغرب، وعلى رأسها كنيسة روما، باتت تتحكم بمصائر كنائس عدة في البلاد العربية ولا سيما بالتراث المسيحي المادي في فلسطين. فالمفاوضات الجارية منذ سنوات بين الفاتيكان وإسرائيل بشأن مستقبل التراث المسيحي العربي في فلسطين، والتي توشك على الانتهاء مع زيارة البابا فرانسيس في مايو القادم إلى إسرائيل، غائبة عن التداول في الإعلام العربي، وهو ما سيكون له بالغ الأثر على الحق العربي. حيث لدينا اهتمام موسمي بالفاتيكان يفتقر إلى المتابعة الدائمة والرصينة.