خديجة العمامي
عندما يتعلق الحديث بالماضي تسقط عنه كل الشوائب وإن كانت حاضرة.. فالماضي يظل جميلاً حتى وإن كنا ننزعج منه في وقته وزمانه.. وما يحمله في مخيلتنا دائما ذاك العبق الذي يفوح من الذاكرة ليعيدنا إلى الهوية التى باتت في خطر جراء التطور المطلوب والمرغوب أو الغزو الفكري المتطرف الذي يحمل عادات لا تمت للمكان بصلة حتى وإن كان يلصقها البعض بالمقدس ويربطها بالدين الذي هو ليس بجديد. فباسم التطور خلعنا أجمل ما يربط الليبيين من تواصل بين الأصدقاء والجيران وباسم الدين غيرنا ثيابنا فتغيرت قلوبنا بنفس اللون الذي ساد الشكل والمضمون.
كم كانت المرأة الليبية تعتز بزيها الشعبي الأنيق وكم كانت تتشاءم من اللون الأسود الذي كان لا يدخل من ضمن ثيابها ولا موروثها كونه يجلب الفأل السيء على أهل بيتها، وتجنباً لذكره كان يسمى (الأسعد) أو (الأكحل). كم كانت المرأة الليبية تتسم بسعة الروح والكرم وتربط الود والتواصل بالدين دون أن تتبجح بما تعمل أو تحتاج إلى (مفتٍ) لتأخذ من لسانه بعض الأحاديث وتلقيها على مسامعك لتثبت أنها أكثر إيماناً، منك بل كانت تترجم التراحم فعلا لا قولا فالدين الحقيقي ليس في حاجة إلى أن تدّعي أنك تحفظه وتردده، بل الدين الحقيقي هو أن يتجسد في أخلاقك وأفعالك مع الآخرين.
المرأة الليبية التى عاشت في وطن لم يحتقرها ولم ير فيها عورة ممنوعة من التنفس إلا عبر ذاك البرقع الوافد مع الوافدين من بلاد الحجاز والرافدين وهو موروث شعبي له علاقة بالمناخ في تلك البقاع.. تم فرضه باسم الشريعة من أجل أن يحافظ الرجل على سلطانه ويحافظ على نفسه منها وهي الأم والأخت والزوجة والجارة التى كان يناديها الجار بأختي ولم يسمح لفكره أن يرى غير ذلك فيها غير أن العقول المريضة التى لم تستطع كبح نفسها من الرذيلة هي التي ارتدت ثوب الدين المفسر بما يناسب عقولهم الضعيفة فجعلت منه مطية يخفون عبرها عجزهم عن أن يكونوا أنقياء.. ما سوف أرويه هي قصة حقيقية أخذت منها ما يهم كون المشككين بالمرأة يرون أنها هي سبب البلاء رغم أن المرأة الليبية ليست أقل عزيمة في تحمل المسؤولية من الرجل فكثيرا ما يجور الزمان عليها لتتحول إلى مطلقة أو أرملة فتكرس حياتها لأبنائها دون أن ينتابها الإحساس بالخوف من معترك الحياة الذى يطحن الضعيف ولايرحم.
حني سالمة تلك السيدة البدينة الناصعة البياض شكلا وقلبا توفي زوجها وترك لها أبناء لازالوا يحتاجون إلى العون والمساندة، حني سالمة كغيرها من النساء لم تستعد للقدر ولم تعد العدة لمثل هذا الوضع غير أن الأقدار هي التى تختار فكان لزاما عليها أن تواصل المشوار فلم يكن هنالك من خيار غير أن تقتطع جزءاً من بيتها العربي ذي السقف المكشوف فتحوله إلى دكان تقتات منه هي وأسرتها التي أصبحت بدون عائل. أصبح لهذا الدكان بوابتان واحدة تفتح على الشارع الرئيسي لاستقبال الشاري والثانية تربطها ببيتها وهي بوابة صغيرة عليك أن تنحني إذا أردت المرور منها فلم تجعل من الدكان سبباً في تقصيرها كأم مع أبنائها.
يأتي الشاري ويدخل الدكان المتوفر فيه كل ما يحتاجه المتسوق غير أن وجودها لم يكن بضروري في كل الحالات فبعد أن يأخذ ما يحتاجه ينادي عليها: “حاجة سالمة قد أخذت كيس رز وعلبة طمام وقنينة زيت سجليهن” فترد عليه: “مربوحة ياوليدي”. حني سالمة كانت تشارك أهل الحي في يوم انتظار البجيلات “يوم النتائج الدراسية” بأن تجلس على كرسي أمام المحل في انتظار الأطفال العائدين من المدرسة “شنو صار ياعليوه” “نجحت يا حني ” فتزغرد له وتعطيه قطع الحلوى وتنتظر من القادم بعده، فكان الأطفال الناجحون يسارعون لإخبارها قبل أهلهم كون هداياها فورية فيتمخطر الطفل في الشارع كالعريس فرحاً بهذه الزغروتة وقطعة الحلوى التى دسها في جيبه.
حني سالمة في أول يوم دراسي تضع طاولة طويلة أمام دكانها مكدسة عليها الكراسات والأقلام والمساطر وكل من يمر من أمامها تحشو له حقيبته أدوات مدرسية ودعوات بالنجاح والفلاح. حني سالمة كانت لا تحب المآتم وتذهب إليها مرغمة كونها واجبات اجتماعية لا مفر منها وعكس ذلك كانت تجهز نفسها للأفراح قبل أهل الفرح أنفسهم كانت تحب التشتاي والأهازيج، كانت تتفنن في زيها الليبي الجميل والخاصة البيضاء التي تزين خصرها ورائحة المسك التى لا تنقطع عنها.
حني سالمة كانت تؤمن دائما بأن الله خلقنا حتى نستمتع بنعم الله علينا وكانت تنادي أي شاب من المنطقة لمساعدتها فلا يتأخر كانت توبخه إذا أخطأ وتمتدحه إذا أحسن. حني سالمة تلك المرأة التي سكنت الحي الذي لم يكن يهتم الناس باسم قبيلتها أو من أصول أي مدينة هي.. لم يكن يهم أحداً، الجميع كان يرى فيها أماً وجدة وجارة يستشيرونها في أمورهم الخاصة والعامة لأنهم يعرفون جيدا أنها سوف تنصحهم بقلب أم تحبهم وتخاف عليهم.. نكهتها البنغازية كانت تكفي الجميع وتغني الجميع عن أي شيء.. هكذا كان الحي في بنغازي يتكون من كل مدن ليبيا ولا أحد يسألك من أين أنت أو من أين أصولك.
الحمد لله أن حني سالمة لم تعش وترى هذا الزمان الذي أصبح فيه الحقد سلطاناً وأصول المرء لها الأولوية، والبغضاء تلتهم كل العلاقات الاجتماعية، وصار رجل الدين هو الوسيط بين الله وبينك وأصبح تكفير العباد أمراً معتاداً!؟.. والتباهي بالدين والعنجهية في التعامل وكأنك تتعامل مع كائن من السماء وعليك الطاعة دون سؤال.
ولكن بنغازي تلك الجميلة التى فطمنا عليها فاستبدلنا حليب أمهاتنا بها فسرت في عروقنا الدم وفي قلوبنا الوشم لا نملك غير أن نذوب فيها وأن نؤمن بأن ما حدث هو طارئ وسوف ينتهي لأنه ليس من طبيعتها وأنها سوف تلفظ كل من حاولوا أن يصدروا لها القبح، فالجميل يظل جميلاُ رغم كل الظروف.
تظل هذه الأسطر مقتطفات من الماضي غير أن رائحتها الزكية عالقة بنا”.. رحم الله حني سالمة.