المقالة

الكتابة بحبر السموم

بواية الوسط

حين يكتب الكاتب عن شخصية تاريخية كزعيم سياسي مثل عبد الناصر أثار جدلا في حياته وبعد مماته، ويخلص من سيرته بكل طيب وكل جميل صنعه ويذكر إخفاقاته يحفها بالوقت والبيئة والمحيط وواقع الأمر عند كل مثلب له يكون صادقا فيما يتناوله، معاصرا له أو منقحا لكل ما كتب حوله ولا يختم سطوره كالذي كتب عن الأسكندر المقدوني الذي أسس إمبراطورية وهو في عين ضمير شعبه بطل مغوار وفذ، أنه كان مثليا وزوجا لصديقه، بل يسهب من كتب عنه متتبعا لسيرته أن سبب تدهور صحة الأسكندر بسبب فقد صديقه حتى مات.

هنا نلاحظ أن من أقر بهذه الفعلة يريد الانتقاص من شخصية الأسكندرفي نفوس الناس، أو أنه لا يرى حرجا في ممارسة أفعال اللوطين وهو على عمد يسرد ذلك حتى لو أنه لا يصدق الأمر.

فالهدف هو تشويه الشخصية فقط عند نهاية السطور كأنه يريد أن يمحو كل ما قام به ذو القرنين حسب بعض الصفات له، وقد يكون أن من سرد هذه الفعلة هو من كُتاب إحدى البلاد التي احتلها المقدوني ونكل بأهلها.

الكتابة عن الشخصيات العامة لدى الكاتب النزيه غير المرتزق منها ضمن حدود الأخلاق والأمانة هو تجريد الشخصية العامة عن خصوصياتها، وطرح كل ما يمكن الشك فيه، حتى لو كانت الرواية صحيحة عليه حذفها حين تلمس المشاعر والضمير القومي.

لكن مع سبق الإصرار للتشويه تجد الكاتب الانتهازي يبحث عن المثالب حتى وهو يعدد الصفات الحميدة والأعمال الصالحة لأحدهم يمحو ذلك بـ (لكن) إن الشخصية تمارس فعل كذا وكذا كاتهامه بالغلمة أو القمار أو السكر أو السرقة وغيرها من الأفعال غير الأخلاقية حسب العرف السائد في معاصرة الشخصية لفترة ما.

وعند نصب الفخاخ واصطياد الأخطاء لمن ترأس دولة أو قاد شعبا يتناوله كاتب ما يضمنه في كتاب أو في صفحة من جريدة يكون ذلك الكاتب لصا حين يسرق جهد الشخصية ومحاولاته في إنجاح فترة حكمه، ومرتزقا حين يحاول ابتزازه إما لمال وفير يعتاش منه وإما لشهرة يقتطفها من وهج حضورالشخصية في كلتا الحالتين فالكاتب هنا أقل ما يوصف به هو أنه فاسد في قوله وعمله وما يقوم به.

الكتابة تكون عملا غير أخلاقي حين ينشر الكاتب فضيحة رجل علم له بصمة في الحياة وهو هنا يهدم بقلمه ويغتال عمل الشخص باسم حبره، فهو هنا جزار، وفي مكان آخر قطة سيام تتمسح على بلاط سيدها، أو كلب ينبح غاضبا وينبح مرحبا حتى دون أن يهز ذيله.

لهذا تم وضع ميثاق للصحافة وللإعلام غير أن تجاوزه دائما ما يحدث لأسباب كثيرة من عند تنحيته من منصب كما حدث لنيكسون، وكما تم الترويج لقصة حب برلنتي عبد الحميد عند تناول المشير وقصة المغربية مع المرشح لرئاسة صندوق النقد الدولي وحتى القذافي بكتاب طرائد القذافي وتم تقديمه كأن الكاتبة الفرنسية تعيش معه لا تفارقه.

في مصر مثلا تم الفتك بالفيلسوفة الأسكنرانية هيباتيا بذريعة حالة العشق مع تليمذها وتم سحلها بجرها عارية بعربة في الشارع، لكثرة الكتابات حولها فيما الأمر كله كان بسبب نقدها للديانة المسيحية وقيل عنها أنها وثنية إلى درجة أنهم قطعوا جسدها وأحرقوه ثم ذروه في البحر.

التاريخ تتكدس فيه مثل هذه الكتابات التاريخة حول الشخصيات ذات الأعمال الخاصة من حكام وفلافسة وكتاب كعزيز نيسين الكاتب التركي وهمنجواى وناجي العلي والأسماء كثيرة تم مضغ سيرتها على الورق بحبر من سم قاتل، وليس غريبا أن مع ذلك تعيش الشخصيات عبر التاريخ وتسكن ذاكرة الناس وتعبر من فترة إلى أخرى.

القاطرة تمتد من هناك وتحط هنا ليساهم الإعلام التقني الآن في هكذا عمل مشبوه رأس ماله قلم وحقد ينتقل من وسيلة إلى أخرى فقط ليتقيأ عفونته ويشوه كل من حوله.

والحالة هكذا لا غرابة فيقدح في مسؤول ثم يذهب ليتمسح عند أعتاب مكتبه ليمنحه بعضا من فتات أو أنه أصلا قد عمل بطريقة الدفع المسبق ولا يرى وجهه الصفيق في المرآة.

مازلنا في هذه الدائرة التي لا تكف عن الدوران، فمن وقت إلى آخر نجد كتبة وصحفيين يبتزون الشخصيات العامة بنشر ما يعتبرونه فضيحة ويساومون عليها مالا ومنصبا وهم يدركون أنهم إنما يأكلون لحوم الآخرين ولا يتعظون أبدا.

رحم الله كل من هلك بفعل رواية كاذبة، وكل من تعرض إلى ابتزاز وهلك كل ساخر من غيره أو تجسس أو لمز وهمز أو اغتاب أخاه وشلت يدان كتبت بحبر من سم.

مقالات ذات علاقة

خشية الإغراق في النسيان

محمد دربي

بين نحوين… أمي واللغة

المشرف العام

الثورة العميقة.. التفكير في «التحول»!

حسام الوحيشي

اترك تعليق