أبوبكر بلال
كثيرة هي الأبيات الشعبية التي تتحدث عن حقيقة الحياة الدنيا وشقائها وما يجده الإنسان فيها، لكن موضوع الحياة الدنيا غالبا ﻻ يأتي على أنه الموضوع الأصيل التي تتحدث عنه القصيدة؛ إذ كثيرا ما يأتي ممتزجا بالغزل والشوق إلى المعنيِّ بالقصيدة ووصاله مما يجعل المتأمل للموضوع في حيرة من أمره وهو يستمع إلى غزل عفيف أو فاحش، ثم ينتقل به الشاعر إلى وصف الدنيا وقد رمى ما آل إليه حاله عليها وحملها مسؤولية ذلك.
ففي قصيدة يقول مطلعها:
مَا جا على ميعادَه.. لو كان غير وَرَّانا عزيز عْدَادَه.. نْقُولُوا اظْلَمْ.
يتحدث الشاعر عن سوء معاملة المعنيّ له وجحوده فيقول:
تَعاَفَنْ معانا دَارْ سُود عَمَايل..
ثم في البيت نفسه ينتقل إلى وصف الدنيا قائﻻ:
لكن الدّنيا يا قرين العَادة.
تضحك وتلبس م الحرير بذايل.. وتكشّر وتَاتِي ﻻبْسَه هَرْبَاده.
كَمِّين حاكمًا فيها بجيشه صايل.. ياما حكم فيها سنين تمادى
خلت قصوره ع الوطاه دقايل..وباتن ترايب غَطِيتَه ووسَاده
ما من عرب كانوا شيوخ قبايل.. خﻻّهم القلّ يجَنّحُوا حَوَّاده.
علي جارهم ديما اصحاب جمايل.. وفي يوم عيده كلهم عيّاده.
وحينما ينتهي من وصف الدنيا يرجع إلى موضوع القصيدة الأصيل ليختم به قصيدته:
مو مغير صوبك يا جميل مسايل.. حتى الاعمار ان طوّلن حَوْداده.
شاعر آخر يتطرّق إلى وصف الدنيا بطريقة مختلفة فهو يصف الدنيا ويحذر من تقلباتها ويضرب لذلك مثالا وهو أخوه الذي ذهب إلى حرب تشاد وترك مخطوبته تنتظر قدومه مقدما للسامع مزيجا من الوعظ والوصف لها؛ يقول:
وهذي الدنيا واسمها فرّاقة.. أيام دهَرْها ما مَن اللي خانَّنا.
كمّين شاب فيهن في نشاط طْهاقه.. وعاشق وله غيّات ما هننّا.
رجى سنين مَتْذَيْبَل بْضَيْم اشواقه.. قرى فاتحه في اللي دنَاه تمنَّا
عشيقْتَه تْراجي ضامْنَه لَمْﻻقى.. لكن ايامه قاصرات خذنّا.
منها مشى جابوا نباه رفاقه.. ريتها تْشالي في نهار مدنَّى
ويْنما جهَز كتَّب الله فْراقه.. بدَيْها تْقَطَّعْ في غثيث اثَّنّى.
نسْيَاتَه بعدها جدّدت عِيلاقه..ولغيره يديها نقرشن بالحنّه.
كل هذا الوصف يأتي ضمن قصيدة ليس الغزل وﻻ وصف المعنيّ موضوعها الأصيل حيث تتحدث عن وصف الديار والأوهام ورثاء الحال التي وصلت إليه بعد أن هجرها أهلها؛ يقول مطلعها:
نين عمنّا.. ووينما شكا منهن يقولوا كنّا.. بارماتْبَهْ لَوهام.
وفي قصيدة أخرى مشهورة غزلية يقول مطلعها:
ما سَون سعاد.. عقل وجمال وبنت ناس اجواد.. بناويت برقة
يستطرد الشاعر في وصف سعاد وقومها وعاداتهم وتقاليدهم ، وفجأة ينتقل إلى وصف الدنيا وأنها هي التي تقف دون الوصال وبلوغ الغاية والمنى؛ يقول:
لكن الدنيا هذي هي دوّتّا.. يوم في زها تلعب ويوم كساد
وتْفَرَّحْ ولا تفْرَحْ مْعَ فرْحتّا.. ديما تْبَدّلْ فَرحْها بْنَكاد
ومرّة شباب وتَعَجْبَكْ بهْجتّا.. بْحَلْي وحرير وكل يوم عَيَاد
ومرة عجوز تْدُور باسْرافَتّا.. حتى الجديد اللي عليها باد
وما من مدينة عامرة نْسَفَتّا.. وخلّتْ بْنَاها ع الوطاه رماد
لكن اللي مسّعْ عرَفْ دوَتّا.. غراته بمال ومرتبة واوﻻد
وهامت معاه وهام في جَرّتّا..ووينما مدح ردّتْ عليه رْداد<br>
نين قْلباتَه طاح في حفْرَتَّا.. وعدَّتْ وهو حطّوا عليه الْحَادْ
وبعد أن انتهى من هذه المقطوعة الوعظية يعود إلى موضوع القصيدة الأصيل قائلا: لم نخض في موضوع الدنيا وحقيقتها إلا لأن بنتا لم نحظ بوصالها والعيش معها وهو ما عبر عنه بقوله:
خطرها فلانة تهت في جرتا.. خذتني طريد ونا لها طرّاد
على اليمين ان تنقرا فاتحتها.. لو كان جينا في العمار مداد
كثيرة هي الأمثلة على امتزاج موضوع الغزل بوصف الدنيا والانتقال من التغزل والتشبيب إلى الوعظ والاتعاظ واستخﻻص الدروس والعبر، وهو من الموضوعات الكثيرة التي تشيع عند الشعراء الشعبيين، ومادته غنية وضخمة لمن أراد من البحاث دراسته دراسة تحليلية، ولولا طول المقال أو الدراسة لأوردته كاملا مكتفيا بعرض الفكرة ولب الموضوع.