من أعمال المصور أسامة محمد
قصة

هجرةٌ شرعية

أحمد المحمودي

من أعمال المصور أسامة محمد
من أعمال المصور أسامة محمد

 

للمرَّة الأُولى تظهرُ علامات القلق عليّ منذ أن حجزت مكاني في الجرَّافة قبل عشرةِ أيامٍ مضت؛ و حتّي نفسي التي كانتْ في قِمّة الفرحِ و السعادة، تبدو اليوم مضطربة و عصبيّة بعضَ الْشيء، لينتهي بها المطافُ بأن تناجيني باكية، فتُخبرني بأنها غيّرت رأيها، فهي لا تُريدنا أن نذهب في الرحلة المقرَّرة بعد أسبوعٍ نحو شواطئِ إيْطاليا. كانت على وشكِ البكاء لكنّها تماسكت رويداً رويداً، بعد أن قلتُ لها أن كل شيءٍ ممكن لكنّنا سننتظرُ حتّى الصباح لنقرّر نهائياً في هذا الشأْن.

ارتاحت “نفسي” و تمكّنت من ان أُغمض عينيّ وبينما كنتُ ألاعبُ خصلات لحيتي بهدوءٍ كبير يخفي خلفه خوفاً أكبر، عندما رنّٙ المنبّه على تمامِ السابعة صباحاً و استيقظت اتجهّز للذهاب الي العمل، ابتسمتُ و بدت علي مٙلامحي علاماتُ الراحةِ و النشاط وكأنّها تخبرني بأنّها قضت ليلةً مريحة و هادئة.

و عندما انطلقتُ بالسيّارة متّجهًا الي مقرِّ الشركة حيث أعملُ كان قلقي قد تحوّل إلى تيقّظٍ و إثارة، و بعده إلى ترقّب و انتباهٍ عال ، فبدأت الأسئلةُ تراودُني عن ساعة الوصول إلى إيْطاليا ، و كم سأمكثُ هناك في الحجز قبل الانْتقال إلى رُوما، وكم ستستغرقُ الرحلة بين الشاطئِ و مدينةِ رُوما الجميلة، و بين كلّ سؤالٍ و سؤال كانت ترتفع حرارة جسدي و كأنّني أعبّر عن أكثر ساعاتِ حياتي متعةً و غرابة. هي الرحلةُ الأولى الّتي أسافر فيها برفقةِ نفسي وحدها، لها نكهتُها الخاصّة في قلبي، ففي هكذا لحظات مشدودةٍ كأوتار كمان ؛ تتحفّزُ الذكريات لتأخذ المكانٙ الأوسعٙ الدائم الإشعاع و السطوع. الآن وفقط الآن سيكون لكلّ لحظةٍ و لكلّ تفصيلةٍ نكهتها الخاصّة التي لا عمر لها، و لها في نفس الوقت كلّ العمر، هكذا تصنعُ و ببساطة الحياة ذكرياتُ الهجرة النهائية الجميلة، أو هكذا كنت أظنّ في بادئِ الأمر.

و مثلما اكتبُ اليوم عن هذه اللحظاتِ التي حملتني نحو الأمل مجدّدا، اكتشفتُ أنني كنت أريد أن تدخلٙ حياتي بلادها المتوافقة معها أن تكون أمامي و أنا خلفها، أن أقدّمها لوطنٍ يستحقّها كأيّ انسانٍ فخور بانسانيته، كنت أريد لها أن تتذوّق عسل اللهفة الأولى من جمالِ اللقاء، أن ترى بعيونها لا بعيوني، بقلبها هي لا بذكرياتِ الألم والمعاناة. عندما تعبر روحنا قبلنا نحو الوطن يصيرُ هو الجسر الذي سيحملُنا نحو الضّفة الأخرى، و مثلما قد تكون الحياةُ هي السبب الأساسي لتهجر بلدك، قد تكون فيما بعد هي السّبب الأساسي لتعود إليه. في اليوم التالي وانا على وشكِ الذهاب إلي مدينة زوارة ” مكان الجرّافة ” و بعد ثمانِ ساعاتٍ من التجهيز و الانتظار الحار، وعند كتابةِ خطاب الوداع لأُسرتي وأصدقائي وكم تمنّيت أن أخبرهم قبل مدّةٍ قصيرة حتى يغمضو عيونهم، و لا يفتحُوها إلاّ أمام فرحتي و ما ينْتظرها من تفاصيلِ حياةٍ أفضل، ما ان بدأتُ في كتابة الخطاب حتّي فتحت عينيَّ على بيتنا المُتعب الغير مسوّر، بجوار أحجار البناءِ السوداء، على حقول الصيف الصُّفر، على شمسٍ تكاد تغيب و على أذرع أمِّي و أحضانها، و فتحت اذنيَّ على زغاريد الجدّة و دعواتها :”ربي يفتحها عليك ويرزقك ببنت الْحلال اللي تستاهلكْ”.

لا أعرفُ ما الذي يمكن أن يشعره مواطنٌ حتّي وان كان يعيش في ايطاليا و هو يتحرّك من قلبٍ إلى قلب و من روحٍ إلى روح، و لا يعرفُ في النهاية لمن سيسلّم جسده!. مضتِ الساعات بسرعةٍ مزّقت الخطاب و أعدتُ إفراغ الحقيبة و تركتُ بداخلها جملةً من العتاب ،لن أذهب الا مباشرةً “هجرةٌ شرعية”.

__________________

نشر بمدونة فترشة.

مقالات ذات علاقة

غمضة وسؤال

المشرف العام

دون سبب

نيفين الهوني

نواقيس في الظلام

المشرف العام

اترك تعليق