من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك
طيوب النص

25 جناح لطائرٍ واحد

من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك

رمضان

لم يكن رمضان ساخنًا، ولم أعلم ما الذي أخّرنا أنا وأخي عن العودة إلى البيت قبل الافطار. انتظرنا كثيرًا في موقف الحافلات خلف السراي الحمراء، ولا حافلة أتت.  لم يكن لدينا من خيار إلا المشي باتجاه بيتنا.  اقتربت الشمس من المغيب، ونحن لم نقطع نصف المسافة.  قليلاً بعد أن تركنا وراءنا قصر الملك والشارع المشجّر الطويل، صاح أخي: غريّبة ساخنة!  قطع غريّبة ساخنة، بعضها صحيح وبعضها مكسور، فوق الاسفلت في الشارع الفارغ.  كان الأذان بنكهة السمن وماء الورد.  تركنا بعض القطع من الغريّبة لغيرنا، وواصلنا سيرنا إلى بيتنا على مهل.

البنطلون الزيتوني

منذ سن الثامنة وأنا ارتدي بنطلونات الجينس، لسببين أساسين: لرخصها ذلك الوقت، جنيهان ونصف.  السبب الثاني لا حاجة للعناية بها.  أنام بها وأذهب إلى المدرسة بها.  كانت لسنوات طويلة لباس العيد، بعد أن يُضاف إليها قميصًا مشجرًا من أرض الغرب الأمريكي.   ثم ظهرت ألوان غير الأزرق، منها الأبيض، والأخضر الزيتوني.  اشتريت مرة الأخضر الزيتوني، وكنت فرحا به.  ارتديته بعد أن اعتنت به أختي بمكواة الفحم، وكبت دراجتي وخرجت إلى الطريق.  أشجار اليوكيلبتوس على الجانبين خضراء بأزهارها الصفراء الفوّاحة برائحة ما زلت أحبها.  ذهبت إلى أن وصلت منعطف المخبز الكبير، هناك تضيق الطريق وبها الكثير من الحصباء. لم أقلل من سرعتي في الانعطافة، فسقطت من على الدراجة.  حين وقفت، رأيت فتحة في البطلون الجديد عند الركبة اليمنى.  رجعت إلى البيت حزينًا على بنطلوني الزيتوني.  لم تنفع كلذ محاولات أختي في رتق المزقة وكان ذلك آخر زيتوني أرتديه.

التدريب العسكري

في وضع الراحة، اجعل يديك وراء ظهرك، أنت لست في حاجة لهما.  في الهرولة، ضع يديك على صدرك، كي يكون الركض أسهل. تتعلم المسير كي تكون رقما في قطيع.  تسكت، وترفع يدك محيّيا، كي تكون صغيرًا في عينيك.  كانت روح الشعب منهزمة والفم مقفلا والأيدي وراء الظهور.

دخلتَ التدريب العسكري العام ولم تدخلْ الخدمة الوطنية. حاولتَ قدر الامكان أن تضع يديك أمامك، وعاليا أحيانا.

الفقّاقي

طائرُ الفقّاقي مجرّس، يصعب الإمساك به، يحتاج إلى خبير لاصطياده.  ليكن مكان الطربيقة تحت شجرة، بين شمس وظلّ. لتكن حجرات المنصب مسطّحة وملساء.  لتكن سعفة الدودة، جديدة طريّة.  لا تضغط كثيراً بالسعفة على الدودة، كي تتلوّى كثيرا.  ضع السعفة على رأس المطريف، هبّة نسمة خفيفة تطلقه.  اردم الطربيقة بتراب نظيف، ولا تكثر.  عندما يقترب الفقّاقي، تريّث، ولا ترفع رأسك، يراك فيهرب.  لكن دعني أخبرك أن لحم الفقّاقي ليس طيبا.  هكذا اخبرني صديقي ذو الإثني عشر عاما، ونحن في طريقنا للبحث عن ديدان الصيد.

شحّاذ

جلس على الرصيف، أمام متجر المواد الغذائية، صامتًا، أمامه علبة صغيرة. عيناه مثبتان على باب المتجر، حزين المظهر، رثّ الثياب،  لكن داخل نفسه كان هناك، قطار يعبر جبالا وسهولا وساحل بحر طويل لا أحد فيه سواه.

تلك القرية البعيدة

في طريقي إلى البيت من السوق القريب، حاملا كيسين، واحدًا في يدي اليمنى، والآخر في يدي اليسرى.  سافر بي الخاطر إلى  تلك القرية، الكئيبة، الحزينة.  أوقفتني امرأة قائلة: هما ثقيلتان جدا؟!  لاحظتُ أنّي كنتُ انحني قليلا إلى الأمام.  ثقل كيسين أم ثقل هموم؟!

شتاء أزرق

انهضْ! وادي المجينين قادم! صاح أبي وهو يتنقل بين حجرات البيت.  هل فكّر بالزيارة أخيرا؟!  قلت متثائبا غير مكترث.  ما الضرر الذي سيلحقه بنا واد مجنون، نحن لا نملك الكثير!  فتحت باب البيت، كان أبي يصنع سدّا ترابيّا أمام البيت بارتفاع نصف متر، والعرق يتصبّب من جبينه.  سألته لماذا يخيفك هذا الوادي؟  قال: الماء سيصبّ في البحر، لكني أخاف ممّا ترك الناس الحمقى في مجراه.  قلت لنفسي: إذن هو ليس مجنونا كما يقولون!

خبزة الطعام

في الشتاء، في المدينة القديمة، إذا قادتك قدماك إلى كوشة انفيص، خلفك مطعم البرعي، ببابه الضيق ودرجه الحاد. يحيط بك لغط باعة ومتسكعون وفتوات.  لو وقفت قليلا سترى رجلا فزّانيا، منتصباً بقامته الطويلة في حفرة مستطيلة بعمق متر وطول مترين، بحيث يكون وسطه على مستوى الشارع.  يمسك الكوريك الطويل ويفتح غطاء الفرن.  عندها، عندها فقط تأخذك رائحة خبز القمح –الطعام- إلى عالم ساحر عظيم.  ما يتبقى بعد ذلك مجرد حشو لا أكثر.

الغراب

يتطيّر الكثيرون من الغراب، بسبب سواده القاتم وأنه يقتات على جيف الأشياء.  فماذا أقول عن غراب مملكة النرويج، ففيه من البياض أكثر من السواد؟!  الغراب في ذاكرتي، كائن ليل نهم جسور.

وكائن نهار ذكيّ خطاف.  الغراب لا يستحق كل هذا التطيّر. صوته شبيه بارتطام حبّات جوز ببعضها، أو صوت تكسّر عيدان قشّ يابسة.  لا تطربنا ولا تخيفنا.  الغراب يحب الخرائب والأرض المنبسطة، ، لكنه يطرب لوقع الريح على جناحيه.  لم أعرف للغراب عشاًّ ولا بيتا.  كلّ البلاد له موطنا.

من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك

الناي

في العام 2010، ذهبتُ في رحلة مع ابني الأكبر إلى تركيا لزيارة مرقد جلال الدين الرومي.  ابني في سنته الجامعية الأولى.  صعدنا الحافلة القاصدة قونيا، وكنا الغريبين الوحيدين.  مساعد السائق فشل بعد محاولات كثيرة في تشغيل جهاز الفيديو، كان اليأس واضحًا على وجهه، لذا لم يكن متحمسًا وهو يقدم لنا الشاي والقهوة أو حين يرشّ على أيدينا الكولونيا عندما نتوقف في الاستراحات العديدة على الطريق.  بعد وصولنا بساعة إلى قونيا تمكنا من حضور حلقة سماع في مركز جلال الدين الثقافي.  الأزرق الشفّاف الهشّ يلمع حين ترتجف أصوات المنشدين، وحين يضع الشيخ قدمه على أرضية الخشب.  كلّ شيء هشّ وناعم.  مقاعد الجلوس، عبق العطور، يفوح من أعناق الحاضرين، طرابيش الراقصين، أطراف تنانيرهم وثنياتها الرمادية.  تتفتّت الخطوات، تتصاعد الأصوات ثمّ تنزل كأنها مربوطة بخيط حرير.  وحده، عازف الناي، حافظ على إيقاع رأسه بخفّة الأنبياء.

بعوض الساعة الثامنة

استيقظت هذا الصباح بعد ليلة لم أحظ فيها بنوم عميق.  أمس كان شبيها بغيره من الأيام. قضيت نصفه الأول في ندوة، حدثتنا فيها المنشّطة كيف تكتب أدبا بلغة نرويجية مبسّطة.  مَن قال لها أني أريد كتابة قصيدة أو قصة باللغة النرويجية؟  في المساء، استمعت إلى عازف قيثارة سيء. دخلتُ الحمام نصف مغلق العينين.  هالني منظر قرصات البعوض على ظاهر ساعدي.  دوائر حمراء مع نقطة صغيرة داكنة في المنتصف، مكان دخول خرطوم البعوضة.  تلمستها بيدي الأخرى.  يا إلهي، كيف تجتمع اللذة والألم في قرصة واحد!.  تمعنتُ وجهي طويلا في المرآة.  غسلت جسدي بالماء وصابون زيت الزيتون الطبيعي، ثم اطفأت المصباح.

رشّاش الماء في الحديقة العامة

شرفة الفندق صغيرة وبلا غطاء.  كراسي وطاولات بلاستيكية سوداء، ربما ثمانية كراسي وثماني طاولات!  الجو حار، الحديقة أمام الفندق متوسطة المساحة. أشجارها عالية، تقذف بطلعها في الهواء خفيفا ناعما.  في آخر الحديقة ملعب كرة قدم صغير.  في جواره فسحة  دائرية معشّبة، في مركزها رشّاش ماء، يدفع بالماء إلى أعلى قرابة الخمسة امتار.  من أعلى الشجرة الطويلة يأتي صوت طائر عذب.   يقفز الطائر باتجاه الرشّاش.  يقف، قريبا من الطفلة الجالسة تحت رشّات الماء تمامًا.  تضحك الطفلة.  يطير الطائر بجناحيه المبلولين عاليا.  صيف آخر جديد.

الأسماء الضاحكة

نصحني مفتش البريد أن لا أضيّع وقتي بقراءة الأسماء الطويلة، عليّ فقط قراءة الإسم الأول.  لم أفهم أبداً لماذا يختار بعض الناس أسماء طويلة لأبنائهم!  اسمي ليس طويلا وليس قصيرا كذلك.  كان مدرس العلوم في المرحلة الاعدادية يضحك حين ينادي على اسمي.  سألته مرة، ما المضحك في اسمي، أستاذ؟!  لم يقل شيئاً، لكنه استمر في ضحكه.  كثيراً ما تساءلت ما الذي يضحك في اسمي، ولم أجد إجابة، إلى أن بدأت العمل في مكتب البريد الرئيسي بالمدينة، عرفت أن لبعض الأسماء قدرة على  الإضحاك.  أولا في شكل الاسم، المستدير يُضحك، أما القصير الدودي فهو يجلب الجدية وقليلا من الكآبة.  الاسم الذي يحتوي على حروف مقوسة، أو حلقية أكثرها جالب للفرح.  فكرتُ هل محتوى الرسائل تتواءم مع نوعية الأسماء؟  يا ولدي، ألم أخبرك بأن لا تضيّع وقتك بقراءة الأسماء الطويلة؟  قال مفتّش البريد وهو يربت بيده على كتفي.

شجرة التين أمام باب الجامع

رغم أنني لم أبق طالبا في كتّاب الجامع إلا اسبوعين، بسبب قسوة الشيخ ورائحة الخبز العفن، لكني لن أنسى أبدا تلك الرائحة البهيجة التي غمرتني أول مرة أدخل فيها باب الكتّاب.  رائحة مزيج من العسل الزعتري واحتراق عيدان الشعير في آخر الحصاد.  لم استطع التركيز على الدرس بسبب انشغالي الكامل بتلك الرائحة.  حين خرجت كانت الظهيرة حارة جدا، وأزيز الجداجد لا يتوقف.  على يمين الباب عند الخروج، بدأ ظِلّ صغير يتكون ويكبر، فوقه تماما تهتز على مهل أوراق شجرة التين، ثم بين لحظة وأخرى تنبعت رائحة التين، غامرة المكان.  ما زلت حين أقرأ القرآن تغمرني تلك الرائجة، وحين آكل تينا طازجا، أحس كأن الملائكة قريبة مني.

عربة يد خشبية

لا عيش لنا هنا، قال الأب في ألم واضح.  ليس لدينا ما نفقده لو غادرنا المكان.  في الصباح كانوا في الطريق المؤدية إلى المدينة.  ماذا ستعمل؟ سألته زوجته.  لا أدري، سأرى ذلك عندما نصل، أجاب متمتمًا.  مرّ على هذا الحوار نصف قرن من الزمان.  البيت فارغ من الأثاث، والولد الأكبر مات في حرب خاسرة.  البنت مطلقة وأم لولدين، أما الزوجة فقد ماتت منذ سنتين.  أسند ظهره على الحائط، ومن النافذة حدّق طويلا في عربة يد خشبية.

كتف أبي

لم اقترب من أبي كثيرا إلا بعد أن كبرت وتزوجت.  أنت، على مائدة الأكل، تمدّ يدك كغيرك من الذين حولك.  تتعلم أن لا تبطىء في تناول اللقمة كي لا تجوع.  هو، يذهب في الصباح على دراجته للعمل. يذهب بنصف عين، لقد فقد معظم بصره للتراكوما والتهابات القرنية.  كان يعتمد على رؤية الآخرين له في الطريق قلا يصطدموا به.  ولأنه لا يرى الطريق جيدا تغلب على خوفه بالحديث مع نفسه بصوت عال.  في المرات القليلة التي أخذني فيها على الدراجة إلى حيث يقيم عمي، العامل في مزرعة يمتلكها لبناني ثري، كان ينحني بجسمه إلى الأمام، وهو يصعد الطريق.

المرّات الوحيدة التي لامس كتفه فيها رأسي.

ثمرة الصبّار الملساء الحمراء

كلّ ما أعلمه عن ثمار الصبار، أنها قد تسبّب العمى إذا جُنيت في غير أوقات الفجر الباكر أو بعد غروب الشمس بقليل.  أوقات ينزل فيها الندى، فيهدّىء من هيجان الأشواك الذهبية الصغيرة عند أقل اهتزازة. لكن، أن تكون هناك ثمار صبّار ملساء، حمراء، هذا أمر عجيب!  لو اختار حزب التحالف شعاراً له زهرة صبّار أملس أحمر، ما خسر أمام حزب العدالة والبناء الإخواني.

الطاحونة

وراء المتحف الوطني، تقع طاحونة.  ليس فيها ما يلفت الانتباه سوى مراوحها.  مراوح بطول مترين ونصف، من خشب البلوط الفاخر، ومتصلة بعمود الطاحونة الرئيسي بقرص مسنّن، في منتصفه تمامًا دعامة حديدية غليظة.  في هذا الركن، الريح خفيفة، حسبها أن تجعل المراوح ترتفع قليلا وتنزل قليلا.  لكن هذه الحركة البسيطة كافية لجعل الطاحونة تصدر صوت غناء حزين.  كثيرا ما يرُى أشخاص يقفون فرادى في صمت، أمام الطاحونة التي تقع وراء المتحف، في ركن لا تخوّض فيه الريح.

افطار مدرسي

خبزة! نعم، هو لقب اعطيناه لزميل لنا في المرحلة الإعدادية.  وجه مدوّر كالقمر، بشوش، به تجعيدات رقيقة في جبهته.  لا يحتج أبدا إذا ما ضربه أحد الطلبة المتنمرين على رأسه، هو فقط يبتسم ويقول، هذا يؤلم!  أما لماذا سمّي خبزة، ذلك بسبب نهمه للأكل، والذي يبدو ظاهرا في وقت الإفطار المدرسي. خبزة تطوع للخدمة العسكرية، ومات في تشاد.

مطر متقطع

مطرٌ في تقطّعه، كثوبٍ به مِزَق.  يمطر حينًا ويكفّ أخرى.  لعلّ فرحي به لأني ذات ضحىً بعيد، قبل أن يستدير الخريف في حقل تبغ، خرجت من بيتنا، في زقاق ضيّق غير لاطم، ورأيت قطرات المطر تسقط، مرّةّ قاسية ومرّة ناعمة، على تراب ينتفض قلبه نفضا، ويمدّ أيديه إلى أعلى شوقا وفرحا.  ثم فجأة، توقف المطر، هدأ التراب، وفاحت رائحته كأن بستانا أطلق خيول عبقه فجأة.  كيف أجعل حياتي متماطرة كذاك الضحى البعيد؟!

من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك

القهوة

البحر سكون لمن أراد، وحركة صخّابة لمن أراد، قال نادل المقهى الستيني وهو يحدق في عيني الفتى. كيف إذن بمن سكن الصحارى؟، سأل الفتى في صوت متردّد.  التفت النادل، أطفأ سيجارته، ولم يقل شيئا.  لا جدوى من الكلام، هو لما يزل شابا، رهيف الحسّ.  لا بأس سيعلم بعد وقت، أن لا فرق بين صحراء الماء وصحراء الرمل.  أنا أيضا كنت مثله في عقود مضت.  كانت القهوة معلمتي.  صبورة وواضحة.  القهوة مثلنا، شعوبا وقبائل.  لها في كل درجة مقام.  في بعضها تخلع أثوابها دفعة واحدة.  في بعضها الآخر، ترقص وتغني، وبعضها، تتأنى في فعل ما تفعل أيّا كان ذلك.  القهوة في الصباح ليست القهوة في العشية أو في الليل.  القهوة تتطلع إلى يد صانعها،  وتعلم ما تكون حين يدلق الماء على جسدها.  القهوة أيضا لها بحرها وصحرائها. ساكنة لمن أرادت، وحركة صخّابة لمن أرادت.

النخلة

النخلة بعيدة عن الطريق العام. هي واحدة من نخيل القرية القديم، في ما نسميه الشْراكات. سقط رأسها ويبس سعفها ونخر النمل جدعها. نخلة ميتة لا نفع فيها لأحد. مع ذلك تعامل باحترام من جميع سكان القرية، وتروى حولها حكايات عجيبة غريبة كثيرة. رغم تقوّس طرفها العلوي، لم تسقط حتى الآن. قالوا هذا القوس حدث حين حطّ جبريل يده عليها وهو يطير في احدى سفراته. قيل أيضا أن جدّة من أسلاف القرية، فقدت ولدها في خصومة، فأقامت عشّة تحتها، وعند حلول الظلام يسمع الناس نواحها الذي يقطع الروح، وأن هذه العجوز كلّما صاحت بصوت عال ورفعت عينيها إلى أعلى, انحنت النخلة بعراجينها عليها. حدّثوا أيضاً، بعد موت الجدّة، يبست النخلة حزنًا على فراقها. الآن، كلما مرّ فصل، انحنت نخلة الشْراكات أكثر.

مفكّ البراغي

منذ الصغر، تأسرني رؤية أدوات الحرف والصناعة. وراء كلّ أداة عقل خلّاق، وسؤال.  الآن وأنا في هذا العمر، إذا ضاقت بي نفسي، أذهب إلى محل بيع أدوات الحرف والصناعة، فأجد راحة وطمأنينة.  أبسط هذه الأدوات وأكثرها تأثيراً، مفك البراغي.  لكي تصل شيئا بآخر، تربط شيئا بآخر، ادخل حديدة صغيرة، مسننة أو ملوية أو مجروحة.  خروجها لا يتأتى إلا بعكس دخولها.

مفك البراغي إما يكون مثلثا، أو ما نسميه نجمة، أو يكون على شكل صليب لخطين غائرين، أو فقط خط غائر مستقيم.  ما يعمله المفك، هو أن يتعشّق في البرغي فلا يتركه إلا داخلا أو خارجا.

الحلم

الحلم الذي لا تتذكره بعد الاستيقاظ يزعجك ويعكّر سكينة روحك.  لا تشغل بالك، فهي ليست سوى أضغاط أحلام.  ماذا لو كانت أبهج من أضغاط الواقع؟ قلت وعيني على باب الدكّان.  لعلّ الوقت حان الآن لصلاة الظهر! الشمس تكاد تغادر عتبة الدكان باصبعين. لم يأت بعد ابن عامل الميناء ليقرأ لي ثمنا من القرآن الكريم، لقد أخبرني أمس أن أباه أصابت قدمه اليمنى غنغرينا السكري، وأن أخاه الأكبر أعتقلته الشرطة بتهمة حيازة المسكرات.  كيف له القدوم؟ لا لن يستطيع ذلك. من الواجب زيارة أبيه.  كم من واجب تركته؟!  اقترب وقت صلاة الظهر على الانتهاء، سأقفل الدكان وأنام قليلا، ربما يزورني ذلك الحلم!

المريضة

دخل الطبيب مع طلبته وأطبائه الحجرة التي تحتوي على ستة أسرّة، واحد منها شاغر.  توقف عند المريضة القريبة من النافذة، لاحظ كيف ترمي شجرة السرول لحاءها القديم، وكيف يلمع تحت الشمس اللحاء الجديد.  تقدم أحد الأطباء الصغار، وقرأ ملخصا لتاريخ المريضة.  فتاة في العشرين من العمر ذات وجه صغير، حبّات عرق على جبينها وأنفها.  عينان خائفتان، تنظران إلى النافذة.

قال أبوها،أنها سقطت فجأة ولم تعد قادرة على أن تحرك نصفها الأيمن.  المريضة تزداد التصاقا بالسرير. قال لهم بصوت فيه الكثير من الثقة: هي صادقة في قولها، لقد فقدت القدرة على التحكم في نصفها الأيمن، لكنها تستطيع تحريك يدها اليمنى إذا ما طلبت منها ذلك، لأن هذا من طبيعة المرض. التقت عيناها مع عينيه لبرهة وجيزة.  ارفعي يدك اليسرى إلى أعلي.  الآن ارفعي يدك اليمنى إلى أعلى.  تحركت يدها اليمن وارتفعت قليلا.  ابتسم مزهوا وهو يرى فريقه الطبي ينظر إليه في اعجاب.  الآن وهو يستعيد تلك الحادثة، يشعر أنه قد خانها، وأنه لم يكن طبيبا جيدا. ليته كان قادرا على تغيير لحائه كشجر السرول!

__________________

نشر بموقع كيكا.

مقالات ذات علاقة

لستُ أنـا

عبدالسلام سنان

فعلوها

أمل بنود

طرابلس تحتفي باليوم العالمي للملكية الفكرية

المشرف العام

اترك تعليق