القفة.
طيوب النص

القفة… نسمات رمضان

القفة.
القفة.
الصورة: الشبكة.

من أيّ نسيج هي، خشنة الملمس حتى أنّها تخزّ أصابعي، وناعمة بطراوة نسمة صيف، هكذا تجول ذاكرتي في رائحة بعيدة، فأ بحث عن الاسم ودلالته، عن تلك المودة التي تربطنا معا، هي القفة، أنا حواء، ليست نبتة مخيلة بل واقعا ثريا بتفاصيله العبقة برائحة مكان أثير، السانية، والسانية ليست مجرد مكان، هي وطن مصغر، يعجّ بالناس، ليسوا طيبين أو أشرارا، هم بشر، ولكنّ هذا المكان يمنحهم تفاصيل تميّز حياتهم وعيشهم البسيط، هكذا كانت (القفة) من تفاصيل هذا العيش، هي الآن تتراءى بخشونة “الحلفا” التي جُدلت منها، أو بنعومة “الديس” و”السعف”، ليكونا في حضرة الفرح، تحضن (بتات العروس)، قفتها التي ستنشر على حبل لينظرنها المهنئات (هكذا حدثتني أمي عن عروس الأربعينات والخمسينات) أمّا اليوم فالقفة تتوارى خجلا، لأن (النجمة) صارت هي السيدة بعد اختزال أيام العرس.

ولكن من تنسى تلك الأيام الظليلة بالبهجة، يدها الصغيرة تشارك في التصفيق، وصوتها يصدح مع أصوات البنات، كان عرس في السانية.، الألوان بهيجة، تتلألأ في ضوء الشمس، يعبق الهواء برائحة الأيادي المحناة، والأقدام الرافلة في شبشب فضي أو ذهبي، يزداد إشراق الشمس، ويزداد الجو طراوة تهبّ من ناحية البير، فهل أنسى، من ينسى.

من ينسى الليلة الاولى من رمضان، ذاك الترقبّ واللهفة، وعطر يفوح، كأن النّاس اغتسلوا بالحبّ وفاحوا عبير اً يصعب معرفة أي عطر هو، الحنة أم النعناع أم البردقوش أم رائحة الريحان، كأن مزيجا قطّرته يد حكيمة وعليمة، هكذا يفوح كل شيء، الوجوه مشرقة، والأيادي تتصافح، والقلوب سفينة محبة تعبر باتجاه الله.

لكن كأن هذه الذاكرة تنسى تفاصيلا، لكن ثمة هذي القماشة المطرزة بعبير المطر وصوت أذان العصر، الركض من المدرسة / مدرسة حليمة السعدية للبنات / ضحك وصراع بهيج : من تسبق صاحبتها، من تحضن يدها كنزا يفوح بعبيرٍ أخاذ، مزيج أصوات وخطواتنا التي تنهب الطريق الترابي الذي جعلته المطر زلقا، لكننا لا نعبأ، نظل راكضات، يلحق بنّا الأولاد، يسبقوننا، لكن كل واحدة منّا تعرف أنها ستحوز بين يديها كنزا يفوح، قبب الجامع.

المئذنة التي تشرئب باتجاه السماء، المطر وخطواتنا، يسبقنا الأولاد مرددين (لا اله الا الله، توليف بلا خبزة لواه)، لكنّ الخبزة تفوح ونحن ندخل باحة الجامع، القفة هنا، وقفة هناك، متخمات بخبز مدور خده مسفوع بنّار تعشقه، يلتمع والأيادي الصغيرة تتلقفه، أقف مترقبة فيعلو صوت / تعالى يا حويوة / أركض باتجاه يد رحبَة ووجه يضيء، ذاك أبي (القمودي) قربه قفة كبيرة مليئة بخبز يفوح، الحقيبة التي كان ظهري ينوء بثقلها، تغدو أثيرة وهي تحضن / فردة الخبزة / واحدة اثنان، يضحك أبي ويدي الصغيرة تسارع بتلقف هذا الفيض، عمي الصغير، وعمي الصيد، عمي بوسنينة.

والبنات يتحلقن حولي / عيادة وفاطمة وسعاد وو… يبدأ مشوار البهجة، لأركض الآن، خطوات وئيدة، مذاق الخبز يسيل في الأفواه، الضحكات والصراخ حين نكتشف يد أحد الأولاد تحاول نهب بعضا من كنزنا،..

والمطر مازال يتهاطل، مازال هذا المطر يعبر الأعوام ويجيئني برائحة تلك العشية من رمضان، الخبز وأبي والأصوات التي تملأ الأفق الغائم بكلمات الله، وأصواتنا الرائقة تحاول استذكار ما نحفظ، السانية والزيتونة الكبيرة اقترابنا من بيوتنا، (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد).

_________________

نشر بموقع بوابة أفريقيا الإخبارية.

مقالات ذات علاقة

التمساح في القطار

محمد بن لامين

محاكاة

المشرف العام

كؤوس الغرام

المشرف العام

اترك تعليق