التجربة الشعرية الليبية اشتملت على رؤى إبداعية متعددة عبرّت عنها أصوات مختلفة، كان لها دور بارز في خلق فضاء شعري اتسم بثرائه وتنوعه، فقد أسهمت هذه الأصوات إسهاما حقيقيا وعميقا في ترسيخ ملامح خصوصية المشهد الشعري الليبي.
فكتابة الشعر مسؤولية ثقافية تلقي بكاهلها على الشاعر ليحسن الإبداع والإجادة وينتج نصوصا لها قيمتها الفنية العالية ودورها المتميز في تطور مسيرة الأدب والشعر، فهؤلاء الشعراء الذين يمكن تسمية تجربتهم الإبداعية (بالكتابة في الظل)، (وشعراء الظل في مصطلحنا هم الشعراء الذين يقاومون إغواء الشهرة السهلة وشهوة الانتشار الإعلامي الرخيص، ولذلك فهم مقلّون في شعرهم يختارون إذا جمعوا ما كتبوا ولا يستقصون ويتريثون في نشر أشعارهم ولا يتسرعون. وهذا ما جعل تجاربهم الشعرية تتميز بملامح فنية خاصة)1 لها خصوصية الفرادة والابتكار، لذا فهي جديرة بالبحث والدراسة التي سنبينها من خلال تجربة الشاعر (محمد الفقيه صالح)، هذا الشاعر الليبي المعاصر الذي سرت روح التجديد في قصائده منذ بداياته الأولى. فهو من جيل السبعينيات، ذلك الجيل الذي أغمط حقه في محاولة لإسقاط حلقة من حلقات تطور حركة الشعر في ليبيا، حتى أن جيل الشعراء الذين ظهروا من بعدهم يدّعون بأنهم أبناء لا أباء لهم. في هذه القراءة سأحاول النفاذ إلى تجربة شعرية لها خصوصيتها الفنية والإبداعية، ويبدو أن موهبة الشعر قد تفجّرت لدى ( محمد الفقيه صالح ) شأن معظم الشعراء المبدعين وهو لم يبلغ سن العشرين، ولعله قد كتب ونشر بعض قصائده المتفرقة وهو في سن العشرين أو بعدها بقليل (فقد أخذ منذ المرحلة الجامعية ينشر في الصحف والمجلات الثقافية ؛ منها الأسبوع الثقافي، الفجر الجديد، الجهاد، جيل ورسالة، الثقافة العربية، الفصول الأربعة، “لا “، الأقلام، الطليعة الأدبية، الناقد، الكتاب العربي، أدب ونقد، إبداع، الشعر المصرية)2
أتناول في هذه القراءة السريعة قصائد الشاعر التي تضمنتها مجموعة (خطوط داخلية في لوحة الطلوع) 3، والتي يعود تاريخها إلى سنة 1973 م، فهذا الديوان كُتبت نصوصه ما بين عامي 1973م و 1978م، وهو الديوان الوحيد المنشور للشاعر، وهذا يعني أن الشاعر كان يحمل هم ومسؤولية الإبداع الحقيقي، فهو شاعر مقلّ ينكبّ على قصائده بعين متفحّصة وعقل ناقد بصرامة (حد الهوس أحيانا)، وذلك يعكسه سعيه الحثيث لتعميق وصقل موهبته والعمل على تجويد أدواته وتشذيب إنتاجه قبل النشر، فإحساس الشاعر بالمسؤولية تجاه موهبته وتجربته الفنية بدا واضحا ومتجليا في عدد من الملامح الفنية التي تميز تجربة هذا الشاعر المبدع، فهو كمن يشتغل على نحت مفردات نصوصه بالأزميل والمطرقة ويعمل بتأن وصبر على صقل صوره الشعرية إذ يشتق لها صيغا وتراكيب مليئة بالحيوية والإبداع، حيث نجده يتلهّف لخلق علائق لغوية جديدة بعيدة عن التشابه والتناظر والتمثيل والتتابع، وبعيدة عن منهج المحاكاة. التجديد عنده يطال بنية العلاقات الداخلية التي تتمثل في التضاد والتداخل والتراكيب الجديدة والغريبة أحيانا، فهو يسعى إلى تكثيف اللحظة واختزال الفكرة وتركيز الجملة الشعرية وتصفيتها من ضجيج المبالغات والزخرف اللغوي والبحث عن البساطة والعمق، والاستعانة بالصور الطبيعية ـ التي تظهر بقايا الرومانسية في شعره ـ هذه الملامح تكاد تنهض عليها تجربة (الفقيه)، فهو يتحسس موطأ قدم لخلق أرضية إبداعية لخصوصية نصوصه، فقد نوّه الكاتب / مفتاح العمّاري في كتابه ( فعل القراءة والتأويل ) بتميز تجربة الشاعر (محمد الفقيه صالح) في اختياره للجملة الشعرية ذات الإيقاع الموسيقي المحملة بشفافية وجدانية حارة ذات الرصانة والسبك 4،
ولا يخفى عن القارئ هاجس الهّم الإبداعي الذي اتسم به ديوان خطوط داخلية في لوحة الطلوع، فقد كان همّه الإبداعي مرافقا لمسار تجربته الفنية الذي سنلاحظه في هذه المقاربة من خلال كشف العلاقة بين الهمّ الإبداعي ورمز التخلق والتكوين، حيث نجد أن التخلق والتكوين بمختلف صوره ومدلولاته وتحولاته، يمثل معادل رمزي لفعل الكتابة الإبداعية ومكابداتها الحيّة التي تطالعنا في نصوصه :
بي شهوة للعبور إلى ضفة العشق والانفلاق على صخرها حينما تُشعلُ القلبَ حمحمةُ الشعر في الحلق، أو حين يسكرُ في داخلي الطفل منذهلا من وميض الحضور المباغت… ص 7.مُحتضنا جروحي نازفا آتيك من وجع انطفائي من موت التخلق في خلايا الحلم من سفري بلا عينيك صار الجرح ذاكرتي وإيقاع إنفجاراتي ص 9
الذات الشاعرة تبحث عن لحظة إبداع، لحظة خلق وتكوين، لحظة تتفجر فيها الطاقات الإبداعية وتتشظى منها علاقة متجادلة بين حركة القصيدة وبنيتها وأوضاعها وقيمها وعلائقها وتناقضاتها، لتشكل قيما وأنماطا جديدة ومستويات أسلوبية قادرة على تمثل البث الحيّ والمتجدد في جسد القصيدة لمواجهة تحديات ثقافية ومصيرية.
تتخلقين الآن في حلقي مخاضا لست أعرف كيف يأتي بعده الميلاد هذا قلبي الموجع في حرقته ـ اللحظة ـ في حالة جزر… (غالبا ما يحمل المدُّ زفيرا مثقلا وجعا) ولكن.. بين تلك الآهة الحرّى التي في صدري الدامي وبين الشفتين.. تنتصبين سدّا ص 10
ثمة هناك دوما في قصائد الشاعر شيء على شفا التكوين وعلى شفا التفجر، وعبر هذه الحركة يعاني (الفقيه) عذاب وعي اللحظة، فالقصيدة تبحث عن لحظة ولادتها، عاكسة لحظة تجدد وتحول، مما دفع الشاعر للانشغال والحرص الشديد والمثابرة على تشكيل لغته الخاصة وابتداع قاموسه الخاص وطقوسه ومغامراته الخاصة في البحث عن الحقيقة وسط التجارب الشعرية المتعددة، ولكن في هذا الخضم يظل هاجس الاحتفاظ بخصوصية فنية مسيطرا على الشاعر في إنتاج تجربته الشعرية.تتجدّر الأحزان يا سبأية الأنفاس عبر تجدّد الذكرى.فهل تدرين ما في شهقتي من شهوة التفجير داخل جوهر الأشياء هل تدرين ؟ كي تتبرعم الرؤيا وتُخصب من مياه السد إني الآن ـ يا سبأية التاريخ ـ منتظر وأحلم أنني……………..آه سيقتلني الظمأ. ص19
صورة التحول والتغير هذه ظلت دائما هي المولّد الحيّ لجمالية الصور وحيويتها،، فالحقل الدلالي الذي تنتمي إليه كلمات القصيدة هو الماء والطبيعة والإنسان، فالشاعر يصور اللحظة الشعرية التي تسري في جسده بلحظة الانتشاء ويكشف عن شبكة رموزه الذي يعد الماء والعناصر من أبرزها التي توحي إليه بالتكوين والتشكل وتوقظ فيه لحظات التخلق والإبداع. وتلمع الإشارة..مندهشا في ساحة المخاض كنت أرقب المياه والعناصر تنوشني الأشياء في تحولاتها فأنتشي برعشة الجسد وتوقظ التعشق الغابّي في رقصة الجموح في سوراتها المباغتة. ص 20
الهّم الإبداعي…. الحلم الإبداعي طاقة حيّة تبث حركة جديدة باتجاه رفض التصورات القديمة وأسس التفكير التقليدي والبني التقليدية وكسر حاجز اللغة الوصفية والانطلاق إلى لغة الحلم والاحتمال واكتشاف مناطق أرحب لتشكيل لغة جديدة واختراق نظامها الأيديولوجي الذي يحددها ويجمّدها.وهو ما نجده في هذه القصيدة:
ألقيت ما أورثوني، وأسريت من حالة اللاحضور إلى لغة البحر.صرتُ اقتحاما.وحين ترصّد لي الزمن المتيبس خاصمتُهُ.لست أنوي الرجوع إلى أن يفيء إلى رُشده ـ الطفل. ص 24.
الشعر في ديوان (خطوط داخلية في لوحة الطلوع ) طاقة متنامية كاشفة عن نفسها وعن لحظة تشكلها وتخلقها وعن لحظة اندفاعها وانطلاقها نحو قيم جمالية ومستويات تقنية واتجاهات شعرية جديدة يتعانق فيها الإنسان والأشياء، حيث تستدرجنا هذه النصوص إلى عوالم جديدة وتفتح أمامنا آفاقا للحلم واللاوعي.
أتت لحظة النزع والشعر. ينسحب العالم المستكين إلى برجه العنكبوتيّ.يبزغ في الحال وجهٌ توحّد بالإئتلاق ـ البكارة والكائنات الجديدة عند التخلق. من يجرؤ الآن أن يوُقف المدّ والاندفاق ؟ أنا ولدٌ مثقلٌ بالشراسة.يا سيدي الشعر : من يوقف المدّ والفتح مندغم بالجنون ؟ ومن يوقف الاندفاق وفي لحظة الرعد يستأثر الماء والنار بالأرض والأزمنة ؟ ص 24
إنتاج الصور الشعرية كانت من الأمور التي تعد المهمة الأساسية للهمّ الإبداعي في مجموعة قصائد (خطوط داخلية)، فاللغة في هذا الديوان فن ينتج من إبداع علاقة ومن توليد حركة في جسد النص، حيث تتميز القصيدة ببنية لها تراكيب مكونة من كلمات ومصنوعة بأنساق معينة همّها التركيز على اكتشاف العناصر في علاقاتها وقيمها وأوضاعها وفي خلق توازياتها وتعارضاتها بطريقة فنية تعتمد على الخيال المغرق بدلا من الواقع، ومولعة بالغموض وسحر الكلمات في ذاتها. فاللغة الشعرية هي طقس الشاعر وروحه التي يستحضرها في إنتاج الدلالة، فهو يرسم لغته الشعرية من مدلولات حركة تجادل وتفاعل عناصر النص مع الواقع ويفجّرها في طاقة شعرية يمتزج فيها العنصر الإنساني بالطبيعة في محاولة لإعادة تشكيل اللغة ورسم إطاراتها الفنية وخصوصيتها الإبداعية، لأنها وعاء لتجربته الفنية، فهذه اللغة الشعرية انسابت في صور فنية غارقة في ذهنيتها، كما صورها في قصائده : يرشق الرقص زهرته في هشيم السكون / صار الجرح ذاكرتي / شبقا يحفر في أحشاء الرؤيا / في لهب الأمطار / فيشهر المخبوء فيك عُرّيه البريّ..ويبدأ الولوج في تموجات اللهفة ـ التداخل / أعجن بالرقصة عنف الرقّة ؟ / أنسل من زمن غرابّي إلى زمن يناوش خاطري / تنعتق الطيور المريبة من بيوض النهار.
الشعر، القصيدة، اللغة، الحروف، الإيقاع كلها عناصر تلاحق الشاعر مُظهِرة همّه الإبداعي، عناصر يعمل الشاعر على شحنها بدينامية خلاقة وبث رياح التجديد فيها والبحث عن فضاءات شعرية تتخلق فيها الصور والرموز والتفاصيل حيث نجده يتحسس مناطق إشعال الواقع وتفجيره في سبيل الوصول إلى أقصى درجات التوتر الذي يفرض الوعي المأساوي الذي تنشده حرية القصيدة. الشموس تصير ملكي.والمداعبة، المناغاة الحميمة والتواصل أحرف اللغة التي تأتي انبثاقا. ص29
وافتحي الأكمام.ميعاد الهطول أتى وموسيقى التداخل مهدت للريح إيقاع الخصوبة ص 30والقلب هدتهُ القصيدة فارتخى تعباً القلب هدتهُ القصيدة فارتمى.. ص 44 (سبحان هذي اللغة التي تهز أرض الشارع الصمّاء.وتزرع الغموض في وضوحه). ص 50 أرسم وجهَ العالم مُنتهكا بمخالبهم.وحزينا ومهانا؟ أم أرحل مطعونا بالشعر إلى ملكوت الحلم فأرسمه وجهاً يتفتح إذ تتفتّح في أرجاء الدنيا مملكة الإنسان ؟ ص 52.هذي كلمات أغمسها في ماء القلب، وأنثرها في شمس الدنيا.أُلبسُها أجنحة، وأقول : انطلقي لا تنفلقي…إلاّ في أرض تتوهّج فيها الوردة والنارُ ـ الخيل. ص 53.من سيخضُ الحروف وهي تدبُّ كالنمل المترهل فوق قشرة العالم ؟ من ُيذيبُ الحروف لكي تتسرَّب إلى الأعماق حيث الأرض تختضّساخنة بغضب مكتوم. ص 57.تستهويني اللغة البكر على الشفتين وفي الصدر المهتزّ.. فأكسر قوقعتي.وأهيم على وجهي في الصبح النافض عنه غبار النوم.. ص 76 ونشيدا راعش الإيقاع والنبرة صوفي الرؤى غير كل أناشيدهم ص12.
(الفقيه) كثيرا ما يذكر هذه العناصر واضحة بأسمائها مثل : الشعر والكلمات والحروف، إذ يصورها في قصائده بصورة جمالية انزياحية تجسّد همّه الإبداعي من خلال صياغة تراكيبه وتشكيل رؤاه الإبداعية وتحولاته الفنية التي تحمل سماته الأسلوبية.
ولعل هناك مفردات محورية في ديوان محمد الفقيه تشكل معجمه اللغوي فهي مفردات مركزية تحمل صورة الهمّ الإبداعي وتنطوي عليها أغلب نصوص الشاعر، فقد بدأ بعضها واضحا وبارزا في حين ضمّن بعض المفردات مفاتيح وإشارات تدل على مظهر الهمّ الإبداعي ومن هذه المفردات ما نجده بكثافة في نصوص الشاعر، منها ما يصوره في قوله :
ومن موت التخلق في خلايا الحلم.تتخلقين الآن حلقي / ما يتشكل في الرحم / الصيرورة راية عشقي / تتكشف عن زخم التكوين الفائر / من شهوة التفجير داخل جوهر الأشياء / أبصر مجمرة وهيولى تتشكل أطيارا شائكةً، أسماكا تركضُ في الصحراء.
التخلق.. التشكيل..الولادة، الصيرورة، التكوين، التفجير والهيولى مفردات غالبا ما يتداعى معها عدد متنوع من مفردات الهمّ الإبداعي الأخرى، فالذي يقلق الشاعر في هذا الديوان هو كيفية صياغة قصيدته وكيفية تأسيس رؤية إبداعية مغايرة فأثر فعل الكتابة أو الممارسة الشعرية في تشكيل ناتجه الإبداعي هو مفتاح التجربة الشعرية عنده، حيث فعل التخلق والتكوين والتشكيل هنا رمز للتجربة الإبداعية في تفجرها الصادق في نفس الشاعر وهي الهاجس الذي يؤرقه في خلق عالمه الشعري.
___________________________
هوامش
1ـ فلسفة الإيقاع في الشعر العربي، علوي الهاشمي، المؤسسة العربية للدراسة والنشر، بيروت، ط، 1 2006.
2 ـ الحركة الشعرية في ليبيا في العصر الحديث، قريرة زرقون نصر، دار الكتاب الجديد، لبنان، ط1، 2004 م، ج 2، ص643.
3 ـ ديوان خطوط داخلية في لوحة الطلوع، محمد الفقيه صالح، الدغر الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، ط 1، 1999 م
4 ـ فعل القراءة والتأويل، مفتاح العماري، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، ط1، 1425 ميلادية.ص 28.