تعتمد جودة البناء الهيكلي للنص الأدبي على ثلاثة أركان رئيسية من بينها براعة الاستهلال. وتكمن أهمية الاستهلال في النص الشعري تحديداً، لكونه بداية المصافحة الوجدانية والايقاعية مع القارئ، ولذلك فهو يعد مقياساً لقوة النص وبراعة شاعره، بالإضافة إلى أبعاده الجمالية وتأثيراته السيكولوجية الأخرى على مدى قبول واستحسان ما وراء أيِّ استهلالٍ من مفردات وتعبيرات ومضامين.
وعند التأكيد على أهمية الاستهلال كمحطة أولى يطالعها القارئ في النص فإن ذلك يجعلنا على يقين بأنَّه إنْ جاء حسناً في نظمه وبليغاً في تعبيره، انجذبت إليه النفسُ القارئة واحتفى به قلبُها وعقلُها معاً، عكس ذاك الذي تنفر منه حين يفتقد الاستقامة الأدبية والتطريز البلاغي والصور البديعة فلا تستسيغه أو تتفاعل معه. ولا شك فإن صناعة الاستهلال هي فنٌّ إبداعيٌّ هامٌ له خصائصه ومتطلباته اللغوية والتقنية التي تنقله من حالة شعورية أو موقف معين إلى فضاءٍ تتماهى فيه النفسُ القارئة مع خيالات وأفكار الذات المبدعة في صورة تكاملية فاتنة.
(2)
إنَّ هذه المقدمة كانت ضرورية لتناول المقطع الاستهلالي القصير في نصِّ (ثمرةٌ محرَّمةٌ) للشاعرة هناء المريض الذي أبرزت دفقتُه الشعريةُ الأولى حيويةً وإيقاعاً تفاعلياً ساحراً وآسراً في النصّ برمته، ليس شكلياً فحسب من خلال تجاور مفردتين متضادتين معاً في السطر الأول وإن اختلفت دلالتهما (الفقير) و(الغني)، بل تطرزت الصورة الفنية كاملةً في ذاك المقطع الأول القصير بألوانٍ من تواشيح البهاء اللغوي، والدلال الايقاعي الرشيق، لتمنح مشاعر الحبِّ معنىً تعبيرياً عظيماً وقوياً تجاه المُحبّ، وبُعداً إيحائياً يسعُ مداياتٍ شاسعةً وبعيدةً، لا تتوقفُ عند التفكير فيمن هو الطيفُ الأنثوي الذي ألمح إليه الفعل الماضوي ونال شرف الاقتران بالانتماء إلى الذات الشاعرة الناطقة بصوت الجموع (أَحْبَبْنَاكِ)، ولا يكتفي بإطلاق العديد من الأسئلة المتعلقة به مثل: من ذاك الذي يستحق كُلَّ هذا الحبِّ؟ هل هو إنسانيٌّ حقيقيٌّ أم خياليٌّ افتراضيٌّ أو كيانٌ ماديٌّ آخر؟ وإنما يغادره لمدايات أبعد من ذلك فينصب أمام القارئ شباك الغواية بالنص للاغتراف من جمالياته وبالتالي لا يمكنه الافتكاك من سحرية ذلك الفضاء الخلاب.
(3)
(أَحْبَبْنَاكِ)
هكذا بصوتٍ جماعي ولسانٍ صريح تعلن وتقر وتؤكد وتعترف وتصدح الذاتُ الشاعرةُ في خطابها الشعري بالحبِّ الشامل والمطلق للأنثى المخاطبة التي دلّ عليها ضمير الوصل (الكاف) المُوَشَّى بالكسرةِ الظاهرةِ على آخره. وإمعاناً في التشويق وزيادة المحبة والتألق والجاذبية ظلت الشاعرة طوال نصّها تحجبُ هويّةَ هذا الطيف المقصود الذي انشغلت به، واقحمتنا طواعيةً الانشغال به كذلك، وتشاركت معه ككلِّ الجموع، بالانتماء للحبِّ والمكان والمشاعر والأحاسيس والمعاناة والتحديات بكل صورها كما تمثلت في سطور النص الشعري، دون أن تبيّن من هي؟
وعند قراءة الجزء الأول من النص بشكل سريع وعابر في محاولة متواضعة بهدف التعرف على ماهية (حُبِّ الفقير) ذاك (الغنيِّ بالأحلام والوعود) العاجز عن تقديم هديةٍ ما، والذي لم يجد شيئاً يهديه -نتيجة فقره المدقع- سوى قلبه .. وهو كل ما يملكه ذاك الفقير، نجد أن حضور القلب في ثنايا النصّ الشعري الجميل ليس مجرداً كعضوٍ ماديٍّ يمثل بؤرة الحياة في الإنسان والحيوان، يتولى مهمة النبض وضخ سيول الدم في شرايينه فقط، بل هو محرك جامع تتخلق فيه وتتوزع الأحاسيس والمشاعر السعيدة والحزينة بتفاوت درجاتها ولحظاتها وأزمنتها، وبذلك يكون هو كلُّ الحياة .. ويصبح بهذه الصفة الواسعة الشاملة كياناً عظيماً يعكس عظمة الحبِّ الذي يكنه نصُّ الشاعرة تجاه المحبِّ:
(أَحْبَبْنَاكِ حُبَّ الفَقِيرِ الغَنِيِّ بِالأَحْلاَمِ وَالوُعُود
لَمْ يَمْلُكْ ثَمَنَ هَدِيّة …
فَأَهْدَاكِ – قَـلْبَهُ – كُلَّ مَا يَمْلُك)
ولو ربطنا هذه الدفقة الاستهلالية الجميلة بالعتبة النصية الأولى (ثمرةٌ محرَّمةٌ) لوجدنا أن العنوان احتفظ بالكثير من بالسرية والخصوصية حد الغموض، ليكون بالتالي محركاً ذهنياً محفزاً لعقل وفكر القارئ للتمعن والتدبر في معناه ودلالاته، ولذلك جاء المقطع الأول مانحاً بعض العون اللازم والمساعدة المطلوبة لفك شفرة العنوان ومحاولة مؤازرة القارئ لولوج النص، وقد استطاع بكل جدارة واقتدار أن يمسك به من خلال جمالياته اللغوية وإيقاعه الموسيقي المنبعث من ثناياه ويزرع فيه شحنة من العذوبة، وبراحاً شاسعاً للتأمل والتدبر فيه برؤى تتفاوت في التنبؤ والتوقع والتجسيد، وهو بذلك يحقق الغاية الأساسية من وظيفته وإبراز خصائصه الجمالية التي لابد التأكيد عليها لأن قراءة العتبة الأولى التي تتصدر القصيدة (ثمرةٌ محرمةٌ) في سياقها الظاهري العادي لا تصرح أو تشي بكنه مضمونها، ولا تفصح عن مكنونها الذي جعلته الشاعرة متوارياً بعيداً عن المباشرة، منزرعاً في ثنايا روح القصيدة، ويتطلب كشفه والتعرف عليه بذل الكثير من العصف الذهني، وفي ذلك تشويق حقيقي، وسعي حثيث، وعمل وجهد دؤوب، يجعل القصيدة تكتسي رحلة تحدي ومشاكسة تفاعلية مع القارئ، ولا تقدم له سلة فواكه لذيذة على بساط من حرير، بل تحفزه لإطلاق محركات عقله للتدبر والتأمل والتفكر في كل سطر وكلمة بحثاً عن بعض يقين، أو رسم صورته الخاصة بالنصّ ودلالاته وفق رؤاه ومستوى معرفته التي ربما يذهب فيها للاستعانة بالتفكير الديني واستذكار ثمار الشجرة المحرمة، أو كتاب (الثمرة المحرمة) للناقد العراقي الدكتور حاتم الصكر حول قصيدة النثر الحديثة أو غيرها!!
(4)
تتوالى بعد هذه الدفقة الاستهلالية الأولى خمس فقراتٍ أخرى متفاوتة النفس والطول، تشاركت في أيقونتها المتكررة والظاهرة في جميع الفقرات بتصرف شكلي محدود (لكنكِ كَكُلِّ الجميلات) و(وأنتِ كَكُلِّ الجميلات) و(كَكُلِّ الجميلات) حتى تنتهي بعبارة (كَكُلِّ العُشَّاقِ) التي تجاوزت بها الشاعرة تاء التأنيث وخصوصية الصفة الأنثوية الضيقة لتشمل الجنسين معاً، بشكل أرحب، دلالةً على المدى الأوسع لعمومية المشاعر والأحاسيس في نصها الجميل:
(كَكُلِّ الجَمِيلاَتِ
يَرْتَمِي الثَّرَاءُ فِي حِجْرِكِ فـتَــنْفُـرُ مِنْكِ السَّعَادَة
كَكُلِّ الجَمِيلاَتِ
حَظُّـكِ … ثَمَرَةٌ مُحَـرَّمَة)
وهنا نجد أنَّ النص يؤدي وظيفة أخرى حين يقدم لنا حكمة بليغة مفادها أن رخاء العيش والخير الوفير والثراء لا يمكن أن يضمن السعادة، بل ربما يؤدي إلى نفورها وفقدانها، وجلب الشقاء والمعاناة بدلاً منها، ويبعث الحظ العاثر الذي لا يمنح المآرب والغايات ولا يتيح للأحلام والأمنيات أن تتحقق، وقد جاءت عبارة (فـتَــنْفُـرُ مِنْكِ السَّعَادَة) كصورة بليغة مثلت قدرية السعادة، ومنحتها طواعيتها ومشيئتها وقرارات اختياراتها الذاتية في الحضور والمقام، أو النفور والمغادرة، فكانت لوحة جميلة تحمل فلسفة وجودية عميقة اكتست بُعداً دلالياً ثرياً في كثافة مضمونه وتقنيته الفنية التعبيرية.
ولم تكتفي الشاعرة بأسلوب تقنية تكرار وتدوير عبارة (كَكُلِّ الجَمِيلاَتِ) فحسب، بل على نفس منوال تفكيرها الفلسفي ضمَّنت نصَّها سؤالاً وحيداً مثيراً، غارقاً في عفوية فائقة الروعة، وممتلئة بالدهشة بكل أبعادها الفكرية الجريئة:
مَا بَالُ المَطَرِ خَـفَـرَ عَهْــدَ الهُطُول؟
ولا شك أن البحث في إجابة هذا السؤال المجازي حول أسباب عدم إيفاء المطر بعهده وتوقيته الزمني المحدد، ونقضه موعد هطوله الموسمي، وقراءته بشكل مجرد بعيداً عن إشارته المجازية، سيفتح أبواباً واسعة تتوالد فيها أسئلة عديدة قد لا تنتهي، وتحيل الفكر صوب دروب الفيزياء والمناخ والبيئة والعديد من الجوانب العلمية الأخرى ذات العلاقة بانحباس الغيث وغياب المطر وخيراته الوفيرة، وفي ذلك إبراز لجانب جمالي آخر في النص وهو تعالقه غير المباشر مع مجالات وتخصصات ذات ارتباط بكيانه الموضوعي.
(5)
إن زوايا قراءة نصِّ (ثَمَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ) للشاعرة هناء المريض متعددة الأركان، وزاخرة بالعديد من الالتقاطات سواء من حيث اللغة أو الأسلوب التركيبي أو تأويلات الدلالات والرسائل التي تستوطن بواطن النصّ وغيرها. وربما يشار لتعزيز ذلك إلى بعض العبارات أو الصور البلاغية وما تضمنته من وصف ولوم وعتاب يصل إلى مستوى إلصاق التهم بالغباء والتغافل وضآلة الحكمة وجلد الذات بكل قسوة:
(تُمارِسِينَ الغَبَاءَ بِضَرَاوَة
وَبِحِكْمَةٍ ضَالَّـةٍ تَهِبِـينَ نُورَكِ لِطَرِيقٍ مَهْجُورَة ..
يَقِفُ عَلَى نَاصِيَتِهَا سَفَّـاحٌ مَاجِنٌ
يُوهِمُـكِ الثَّرَاء …
يُحَدِّثُـكِ عَنْ هُيامِ الهَدَفِ بِجُنُونِ الرَّصَاصَةِ الطَّائِشَة
يُخْبِرُكِ عَنْ بُطُولاَتِهِ الجَسُــورَة
فِي إقْنَاعِ النَّهْرِ أَنَّ الجِسْرَ لَيْسَ بِقَاطِعِ طَرِيق …
يُوَشْوِشُـكِ بِقُبْـلَةٍ عَلَى جَفْـنِــكِ
لاَبُدَّ لِلْوُصُولِ يَا حُلْوَتِي أَنْ يَعْـبُـرَ المَتَاهَات …
بِمَواسِمَ كَاذِبَةٍ … يَمْلأُ سِلاَلَكِ بِالْوَهْم
وَيَنْظُرُ لِحُقُولِكِ بِعَيْنِ جَرَادة …)
ولا شك فإن التعمق في دراسة هذا النصِّ الجميل (ثمرةٌ محرّمة) بكل دلالاته ورمزيته وإشاراته ومقاصده التي ينشدها، يتطلب غوّاصاً وناقداً ماهراً يملك أدواته الفنية وإمكانياته اللغوية، لذلك أكتفي بهذا العرض البسيط والقراءة الانطباعية المتواضعة بهدف التعريف ببعض ما حمله النصّ من جماليات ترتقي بالذائقة الأدبية، وتسهم في توطين جماليات الشعر فينا، ولتكون هذه القراءة بالتالي عربون تقدير للشاعرة صاحبة النصّ، تاركاً استكمال قراءته وتحليل فنياته ونقده وفق مناهج متخصصة لمن يختاره لذلك.