المهدي يوسف كاجيجي
المحطة الاولى
الزمن، نهاية الأربعينات، ليبيا تعيش مخاضا سياسيا صعبا فى انتظار مولد دولة، وكما قالوا، اختلف المنتصرون فى الحرب فحصلت ليبيا على الاستقلال، طويت صفحة الاحتلال الايطالى وبداء الحراك السياسى تقوده احزاب وجمعيات وليدة على رأسها قيادات وطنية من مختلف الاتجاهات ذات الانتماء الوطنى والقبلى.
فاضل المسعودى هو واحد من أبناء جيل تلك الحقبة الذين بدأت أفكارهم تتشكل نتاج هذا الحراك، ارسله والده القاضى احمد المسعودى الى كلية الحقوق فى القاهرة ‘ التى وصلها برفقة صديقه محمد عمر الطشانى رحمه الله، كانت عاصمة المعز لدين الله الفاطمي ترفع شعارات (الاستقلال او الموت الزؤام)، معركة الجلاء للقوات البريطانية كانت هى الهدف لكل القوى الوطنية المصرية كانت فرصة للقادم الجديد ان يكون شاهدا على مخاض الميلاد الذى حمل تباشير الثورة التى أنهت الحكم الملكى.
“ارفع رأسك يا اخى لقد مضى عهد الاستعمار”، “الاتحاد والنظام والعمل”، هذه هى الشعارات التى طرحتها الثورة الجديدة، أعلام وشعارات التحرر الوطنى ارتفعت فى سماء القاهرة وطبول الوحدة العربية والوطن العربى الواحد بدأت تقرع بعنف ينقلها الصوت الجهورى احمد سعيد عبر إذاعة صوت العرب من القاهرة.
على ارض الوطن الام فى ليبيا كانت تجرى مراسم اعلان دولة الاستقلال، المملكة الليبية المتحدة، مولد دولة جديدة، فقيرة قليلة الموارد، خارجة من حرب منهكة،ليس أمامها من اجل إقامة دولة سوى قبولها بعرض التمويل الوحيد القاضى باقامة قواعد عسكرية للدول المنتصرة فى الحرب مقابل إيجار سنوى، لم يجد الآباء المؤسسون بحكمتهم بد من قبول هذا العرض الوحيد، رغم مرارته، الذى قوبل برفض شديد وعنيف من الشباب، وكان فاضل المسعودى واحد منهم،وعبر صوت العرب انطلق صوته صحبة رفيقه محمد الطشانى منددا بالاتفاقية الليبية البريطانية، كان الهجوم قاسيا وعنيفا، للملك ادريس وحكومته عبر ألاذاعة والمنشورات التى يتم توزيعها على أبناء الجالية الليبية فى القاهرة.
ترك المسعودى والطشانى مدرجات كلية الحقوق واندمجا فى العمل الوطنى,أصدرا مجلة المعركة وصدر الغلاف يحمل رسما كريكاتوريا لمائدة المفاوضات يجلس عليها الجانبان الليبى والبريطاني تتوسطهما وليمة كبيرة وعلى الجانب الاخر الشعب الليبى معترضا قائلا “اللهم أنى صائم”، أصبحوا مطلوبين من قبل السلطات الليبية، فى الوقت نفسه واختلفا مع صوت العرب رافضين التعليمات الأمنية التى تتعارض مع قناعاتهم الوطنية.
على احدى مقاهى شارع الألفى الشهير كان هناك لقاء بينهم وبين السيد سيف النصر عبدالجليل رئيس المجلس التنفيذى ونائب الوالى لولاية فزان، يقول الرجل فى شهادته لى: سعيت للقاء بهما، محمد الطشانى كان هادئا وفاضل المسعودى اكثر عصبية واندفاعا، كان الحديث ذا شجون شمل الوطن والتجربة فى القاهرة، فشعرت ان الشوق للوطن والعودة هو المطلب ولكن،الخوف من العقاب هو الهاجس، فوعدتهم خيرا، كان اللقاء بداية لصداقة امتدت طويلا.
يقول السيد سيف النصر عدت لليبيا والتقيت بمولاى الملك ادريس ونقلت له ما جرى، فالتفت الرجل الحكيم الى سكرتيره السيد ادريس ابو سيف وقال اكمل مع سيف كل الترتيبات لعودتهما مكرمين دون مشاكل.
المحطة الثانية
لم يعلم احد ان العودة كانت بوساطة ملكية،وبالتالى كان من الصعب الحصول على عمل صحفى فى طرابلس،فشداالرحال الى ولاية فزان، فى سبها قدما اقتراحا بإصدار جريدة للولاية أسوة بجريدة طرابلس الغرب فى ولاية طرابلس وجريدة برقة الجديدة فى ولاية برقة، وعين الطشانى مديرا للمطبوعات والمسعودى رئيساً لتحرير جريدة فزان، شكلت ورشة عمل تم من خلالها تأسيس اول مطبعة حكومية فى فزان لطباعة الجريدة،قبل الصدور بأيام حدثت الوقيعة بين رفيقى النضال فأدت الى مغادرة المسعودى لفزان وعودته الى طرابلس.
رحلة صحفية طويلة تنقل فيها فاضل المسعودى عبر كثير من الجرائد كان من أهمها جريدتى الرائد والليبى مجددا ومطورا ومثيرا لكثير من القضايا، فى بداية الستينات منحت الفرصة على الموافقة على إصدار صحف جديدة حصل بموجبها الطشانى على إصدار صحيفة الحرية ومحمد الهونى على الحقيقة وغيرهم، ورفض طلب فاضل المسعودى،كعادته لم يستسلم ورفع قضية امام المحكمة العليا وأصدر جريدته الميدان بحكم المحكمة.
وقع انقلاب سبتمبر!، الأغلبية تعاطفت معه وصفقت للمجهول القادم وظل فاضل المسعودى رافضا منذ البداية،حتى القادمون الجدد لم يرق لهم فناصبوه العداء،فى نوفمبر من عام الانقلاب كتب الصحفى المصرى احمد بهاء الدين مقالا اقترح فيه وحدة اقتصادية ركائزها، الأموال الليبية والعمالة المصرية والأراضى السودانية، وكان رد فاضل المسعودى عنيفا،فصودر العدد من السوق، وأغلقت الميدان، اتصل به صديق ضابط من الأمن ناصحا بالهروب مؤكدا ان هناك أوامر للقبض عليه، فتطوع صديقه المقاول الهادى حمودة رحمه الله لنقله بسيارته الى منطقة الجبل الغربى ليقوم صديق اخر من سكان المنطقة بدور الدليل لمساعدته فى عبور الحدود الليبية الى تونس.
فى المساء كان هناك اجتماع لمعمر القذافى بجامعة طرابلس وعندما سئل عن سبب إغلاق جريدة الميدان قال بالحرف الواحد وهو يشير الى مسدسه: لو كان كاتب المقال إمامى لقتلته.
المحطة الثالثة
وحيدا بدون زاد بداء فاضل المسعودى رحلته نحو المجهول، صودرت أملاكه، ادرجه النظام على القوائم المطلوب تصفيتهم جسديا، لم يترك اى منبر متاح الا وقام بالتعريف بقضية شعب تم اختطافه من قبل عصابة جاهلة،استخدم كل وسائل النشر المتاحة لنقل حقيقة ما يجرى فى ليبيا، اصدر اول عمل اعلامى معارض للنظام وهو مجلة صوت ليبيا،وظف كل الخلافات المتاحة بين النظام فى ليبيا ودول الجوار وغيرها فى إتاحة الفرصة لمنح اللجوء السياسى لمواطنيه الهاربين من جماهيرية القهر وحل مشاكلهم فى الإقامة والحصول على جوزات سفر لهم ولأسرهم،شارك فى معظم التشكيلات لفصائل المعارضة الليبية خارج الوطن، كان مخزونا متحركا من المعلومات لما يجرى فى الوطن، قام بتأبين كل الرموز الوطنية التى رحلت عن دنيانا والتعريف بها وبدورها الوطنى،عاش كفافا ورفض كل المغريات التى قدمت له ومن أشهرها قصة سمعتها من شاهد عيان:
فى نهاية السبعينات أصيب النظام بحالة سعار ضد معارضيه وبدا فى التحضير لعمليات التصفية الجسدية التى بدأت فى أوائل الثمانيات، كان على راس جهاز المباحث وقتها شخصية وطنية هو العقيد محمد الغزالى رحمه الله، تربطه صلة مصاهرة مع فاضل المسعودى، عن طريق صديق لفاضل تم ترتيب لقاء فى لندن، طلب العقيد الغزالى من الوسيط عدم معرفته المسبقة لمكان الاجتماع تحسبا للخيانة، فى فندق وايت هاوس بمنطقة ريجنت بارك فى لندن تم الاجتماع برعاية السلطات الأمنية البريطانية، قدم الغزالى عرض النظام، اعادة الأملاك المصادرة ودفع مبالغ تعويض بل وشراء وتحويل للخارج مقابل إيقاف مجلة صوت ليبيا عن الصدور، قال المسعودى للحاج الغزالى: اخبرهم يا سيدى ان ما بيننا هو وطن اسمه ليبيا لا مساومة عليه وانتهى الاجتماع.
الحصاد المر
عن الحصاد المر لتجربته النضالية الطويلة كتب الشاعر العراقى الكبير عبدالوهاب البياتى قصيدة الى ابنه على تقول:
العربات عادت وسائقوها ميتون
أهكذا تمضى السنون
ويمزق القلب العذاب
ونحن من منفى لمنفى
ومن باب لباب
فقراء يا قمرى نموت
وقطارنا أبدا يفوت
وهذا تشابه كبير لتجربة المسعودى، اثنان وأربعون عاما كان ينام فيها مفتوح العينين،ينتظر الموت عند كل خطوة، حاملا وطنا فى قلبه وحقيبة أوراق على كتفه،تاركا زوجة وطفلا خلفه يلتقى معهما وهو على سفر دائم، وحيدا بلا رفيق، تقلصت علاقاته اصبح كداء الجرب يهرب منه الجميع حتى الأهل، علمته التجربة ان لا يثق فى احد،فى احدى الأيام التقى مع احدى معارفه على احدى الطائرات المتجهة الى جنيف حيث مكان إقامته، سأله عن العنوان اخبره بفندق هيلتون، اكتشف بعدها ان فرقة اغتيال أرسلت فى اليوم التالى الفندق وكادت ان تقتل صحفيا لبنانيا بالخطأ، رواها له احدى الضباط الوطنيين خلال لقاء عابر.
ماتت زوجته فى الغربة دفنها وحيدا،داهمته الشيخوخة وتوابعها،تمرد الجسد المنهك وطالب باستراحة محارب،احتفلت ليبيا بعيد التحرير، فقفز المتربصون على المشهد ولم يذكره احد، قال عنه الصحفى والمعارض الاستاذ أمحمد ساسى ابوعون فى كتابه رسالة الى وطنى (اول من رفع راية المعارضة ضد القذافى) استغرب الكاتب جمعة ابو كليب التجاهل لدور الرجل وقال (يبدو ان المجلس الانتقالى ينتظر موت فاضل المسعودى حتى يتم تكريمه).
فاضل المسعودى هو واحد من الرموز الوطنية وينتمي الى قائمة طويلة تضم كوكبة من الرجال الذين رفضوا الظلم والضيم ورفعوا رايات المعارضة للنظام الشرس، منهم من استشهد غدرا، ومنهم من سقط فى منتصف الطريق، ومنهم من بقى يناضل حتى يوم التحرير، قائمة حان الوقت عن الإعلان عنها وتكريمها.
فى نوفمبر 1988صدر العدد الاول من مجلة الميدان على ارض المهجر بعد تسعة عشر عاما من إغلاق الميدان الجريدة، على الصفحة الاخيرة نشر فاضل المسعودى قصيدة للمبدع الراحل الشاعر على الرقيعى يقول بعض من أبياتها:
ماذا اخبر عنك،هل تجدى الوسيلة؟
يا جنة الغرباء،يا مثوى طفولتنا الجميلة
ماذا.. وخيرك يا بخيلة
بددته الريح..خيرك يا بخيلة
يا من يعذب حبها قلبى ومابيدى حيله
ولعل يا بلد الهموم،لعل ضرعك فيه قطرة
لابل هذا القلب كى أشفى غليله
ما زلت أؤمن ان فى عينيك رحمة
مهما قسوت.. ففى دمى تجرى امومتك الجميلة
_________________________
[divider]