تقف الدبابة بمفترق طريق شارعهم وتقذف بوابل جحيمها علي الجهة المقابلة لمنطقتهم، وتحوم الطأئرة الحربية فوق الاجواء، فتهتز المنطقة من اثر وقوع قذائفها علي الارض… الجو ملبد بسحائب الحرب فيما قيظ الصيف ببدا اول تجلياته، انقضي فصلي الشتاء والربيع ولم تنتهي الحرب، دخل الصيف وأستمرت طبول الحرب بنارها ودخانها المحلق إلي السماء تغطي المناطق التي هجرها سكانها وتركوها ملتهبة بنار الاشتباكات اليومية، تتأمل حركة الشارع والناس في المناطق البعيده قليلا عن مناطق الاشتباكات، تزدحم الشوارع بحركة السيارات المتراصة، فيما تحدق من خلف زجاج السيارة بوجوه المارة المثقلة بالترقب.
تتأمل وجوه الأطفال الذين يلعبون بلهو الطفولة أمام المدرسة التي أتخذها أهلهم ملجا ومنجا لهم من ضراوة الحرب التي أكتسحت مناطقهم، تناغش قلبها ضحكاتهم الندية المتناقضة مع الحزن المختبي في عيونهم.
تعود من مهمتها متعبة محتاجة لفنجان قهوة وهدوء من ضجيح الشارع ولكن الدبابة تعود الي عزف سيمفونيتها المعتادة… تلوح بشال تأملاتها علي رابية مدينتها الجامحة التي تكتب تاريخها من جديد بحبر الدم والدموع وتعيش بعيون مفتوحة مترقبة لأنتهاء غبار الحرب التي طال أمدها، يلوح الأمل بنهاية الحرب عند كل موجة أشتباكات عنيفة، تبدو وكأنها ترسم راية النصر والنهاية ولكن سرعان مايعقب صخب سعير المعركة هدوء مريب لا يقطعه الا صوت الاسعاف الذي لا يتوقف لساعات طويلة في اشارة علي شراسة المعركة و كثرة الخسائر البشرية من الجرحي والقتلي، وتتسربل المدينة بالصمت لايام.وكما لو ان الطرفان يلملمان خسائرهم وجرحاهم، ويدفنون موتاهم، ليعيدوا الكرة من جديد بعد ايام من الهدوء والصمت، وتمضي الأيام بمدينتها علي هذا المنوال لا حسم ينهي المعركة، ولا أعداد الجرحي والقتلي تتناقص، ولا من نزح عن منطقته رجع اليها.
ثمن باهظ تدفعه مدينتها في حربها الضروس كي تخلع عنها كفن الموت والسواد، تتعالي أصوات الزغاريد من بيت الجيران المحتفل بزفاف أحدي بنات العائلة النازحة من مناطق الأشتباكات إلي بيت أقاربهم الذين تكفلوا بأحياء الحفلة في خيمة أمام بيتهم، ويلعلع صوت شريط التسجيل لوردة الليبية (الفونشة) والمغنيات الشعبيات في شادر النساء فيما تطلق السيارات مزامير الأبتهاج ليعانق الفرح صهيل الحياة من وسط مدينة تراقص صواريخ الغراد والهاون علي أطرافها.
وفي وسطها تنصب خيام الأفزاح أمام البيوت لترقص النساء رقصتهن البنغازية المعانقة للحياة، أجساد الفتيات والنساء تشكل حلقة رقص تتباري فيها كل واحدة بليونة جسدها ورشاقته، ترتدي بعضهن ثياب سهرة تكشف عن نحورهن وظهورهن بتشكيلة تنافس أخر الموديلات العالمية التي تكشف وتشف عن ملامح الأجساد المنهمكة في الرقص علي الأنغام البنغازية.
تتأمل مايحدث امامها وتجتاحها مشاعر مختلطة، كل هذا التشبث النسائي بالحياة والرقصات الشعبية البنغازية التي تتباري النساء فيها تبدو كأنها تحمل روح الحياة، روح بنغازي القوية الشرسة المتشبثة بالحياة في أوج سعير الحرب وضرواتها، الحب يكتب حكايته بالمدينة كما تكتبه الحرب وتزف العروس الي عريسها بعد قصة حب شرسة كالحرب كادت تختم بالدموع والفراق.
النساء أيقونة الحياة ووهجها ودفئها يرسمن الوان الحياة بالمدينة التي تحارب غلالة السواد و الموت وتهزمه كل يوم، تتعالي الزغاريد، يتعالي صوت سيارات الأسعاف، ولكنه لا يغطي علي صوت زمامير سيارات العرس، ويتهادي صوت قصف الطيران، نظرة تطل من عيون شاب يرمق خطواتها، تذكرها عيون الشاب بالوجه الذي أحبته في زمن غابر، تعود بها الذاكرة في لحظة خاطفة الي وجهه الغارب ومناقشتهما حول غرابة الحب في أتون الحرب بالروايات التي يتبادلان قراءتها ومناقشتها، يبتسم حين تخبره بأنها أنصدمت وبكت حين مات (أندروا) فجأة أثناء حرب واترلوا في رواية تولستوي (الحرب والسلام)، و يخبرها بأنه تأثربرهافة عشق بطلة هيمنجواي في رواية الحرب الاهلية الأسبانية (لمن تقرع الأجراس) وخلبت لبه حرارة قصة حبها في اوج اتون الحرب الاهلية الدامية، .لم تكن تدرك يومها وهما يتحاوران عن روايات الحرب، بأنها ستعايش حرب دامية في مدينتها تجعلها تستدعي ذاكرة كل ماكان وكل مالم يكن.
يلوح وجهه خلف غبار ظلال الذكريات وطعم الحب الذي حلق بها الي سابع سماء ولم تعود بعدها كما كانت، صوت الضحكات والجدالات السياسية والثقافية المنهمرة من شفتيهما، تراتيل القصائد الشعرية المهجوس بها، صوته الذي لا شبيه له في الكون، تستذكر أبتسامته العريضة حين كتبت له عبارة غادة السمان علي هامش الكتاب الذي أهداه لها :ستبقي وسيما وشابا في خاطري الي الابد، وكأن ثمة حدس بداخلها أخبرها بأن الرحيل سيأخذه إلي حيث لا رجوع ولا عودة.
يتزاوج البشر من حولها، يتناسلون وينجبون الذكور والأناث، غير عابئين بنهاية الحرب أو أستمرارها، وكأن فعل الحب والرغبة في الأنجاب هو رد فعل علي الموت والحرب، وهي تقف علي عتبة الذكري لا شيء يحرك قلبها الذي تجمد منذ أن غاب وجهه عنها.
يتوقف الزمن بها عند صورته شابا لا يشيخ ولن يشيخ في ذاكرتها أبد العمر، فيما الحرب تمضي جنبا إلي جنب مع الحياة في خطين متوازين في أنتظار يوم يفترق خط الحرب عن خط الحياة ليكتمل وهج الحياة بالمدينة العاشقة للحب والفن والأحلام الكبيرة والحياة.
يونيو 2015