… آه لو أستطيع النطق.. صدري مليء بالكلام.. الكلام يحتاج إلى لسان.. لا.. اللسان في الواقع ليس للكلام في حد ذاته.. بل لإيصال الكلام إلى الآخرين.. لست في حاجة إلى اللسان.. أستطيع الحديث إلى نفسي على الأقل.. الأطفال يصرخون خلفي: (أبكم.. درويش.. مجنون).. أولاد الحرام..! لا أحد يربّي أولاده في هذا الزمان.. الشارع هو الذي يربّي.. لا همّ لهم سوى قذف الأولاد إلى الشوارع ليصرخوا خلفي.. صحيح أنني أبول واقفاً على الطريق العام.. في وضح النهار.. ولكن ماذا في ذلك؟ كلهم يبولون.. حتى رئيس الدولة حين يسافر عن طريق البر.. فإن الموكب كله يقف من أجل أن يبول فخامته..! آه لو أستطيع النطق.
حين كنت بالأمس أمشي في الغابة.. رأيت قطيع ماعز.. فقلت لعلني أجد حليباً عند الراعي.. فاقتربت من الدخان.. وجدت ثلاث راعيات حول النار.. قدّمن لي الحليب والشاي وخبز التنور.. ثم شرعن ينظرن إلى بعضهن ويتغامزن.. فكّرت: (لعلهن يسخرن مني لأن الحليب يقطر من لحيتي).. ولكن فجأة قفزن فوقي.. وأخذن يخلعن ملابسي وهن يصرخن ويضحكن.. ثم ظهر رجل من بين الأشجار.. وصرخ: (يا قليل الحياء.. تخلع ملابسك أمام النساء)..! صفعني.. وركلني على مؤخرتي.. آه لو أملك لساناً..!
لا أحد يحسن معاملتي سوى (مستورة).. تنهر فروخ الحرام الصارخين خلفي.. تقودني إلى بيتها.. تنظّف ملابسي.. تغطسني في الحمّام.. تمشّطني.. تقلّم أظافري.. تعطّرني.. تقدّم لي العشاء.. أبيت معها على سريرها.. وتطلب منّي أن أدلّكها.. لا أحد يحسن إليّ في هذه القرية الخربة سوى مستورة..! آه لو أستطيع النطق.. ولو لمرّة واحدة!!
***
(2013)